يجلسُ على حَجَرٍ ويتذكر نزار قباني

نزار هو الأب لليومي والمعيش ولشعرنة التفاصيل وللشفاهية عندما تكتسب فنيتها من الشعرية وليس من اللغة.
من الخطأ أن تحاسب مشروعاً فنياً بآليات تتمترس خارج أسواره لتضربه بمدفعيتها القاهرة والقادرة
الجرأة والثورة والحرية وكشف الكبت وعقيدة لا نهائية الأنثى

 (1)

إذن ينبغي لي أن أزيح أحجاراً مربعة وأنا عائد من العمل وأظل أدحرجها حتى تستقر جوار بيتي وأتركها تكبر طول الليل لأنظر لها عند الفجر وأستدعي أبي وجلوسي الطويل على الأحجار عقب تحذيراته من هذا الشاعر بالذات.. إلا نزار يا ولدي، صورتي عنك ستسير نحو سكة الانفلات الأخلاقي .. ألا يكفي عدم الصلاة !! 
كانت عيون القرى النائية التي تملك قدراً ضئيلاً من الوعي، بالتعليم الإلزامي، تخافه وتحس بقلق إزاء شيطان يكشف المستور، هم الرجال المقموعون بالسياسة والتجاهل، المعذبون بأجسادهم، وهو الذي يمارس الرفض والحب علناً. العجيب أن هذا الموقف الذي جوبه به نزار منذ البداية، منذ أربعينيات القرن العشرين، استمر في أماكن منسية وعبر أناس منسيين. 
ثم دارت الأحجار وصغر حجمها وصارت مدببة وشائكةً أكثر واقترَبَت من حذاء الفتى ليُطيِّرها بعنف وهو في طريق الجامعة حيث ستعاود الثنائيات تحوراتها، فبعد: شوقي أم حافظ، طه حسين أم العقاد، صلاح عبدالصبور أم حجازي، محمود دريش أم أدونيس، أم كلثوم أم فيروز، أمل دنقل أم عفيفي مطر. يتم استدعاء نزار في مقابل معبود المراهقين الجديد، فاروق جويدة، الذي كانت الثمانينيات والتسعينيات ملعبه السحري في مصر، بموافقة السلطة الثقافية التي ملأت به الفراغ وغطت ببريقه الوهمي على الحصار الذي فرضته على الطليعيين ونصوصهم الجديدة الخارجة على المزاج الكلاسيكي العام والعصية على التأطير، ليصير نزار ساعتها هو الأصل والمَعين ويعود على هيئة البوصلة التي تكشف الزيف. بعدها  تتحول كل بوصلة إلى ميزان، بإحدى كفتاه الله، وفي الأخرى الشيطان، ويصبح الجنون والتمرد والاختلاف هو المعيار ويتوارى كل مستقر في موقعه الشعري وفي القلب منهم بالقطع، الإمبراطور ومعشوق النساء ورئيس جمهورية الشعر.
كانت مراحل حدية ترنَّحتُ فيها بين الحب والكره، بين الانحياز لحد التماهي والرفض لحد القتل. كان الموقف كذلك لا يستغرق زمنه المفترض فأحتضن رقبة الرمز اليوم كي أطبع قبلة وفي الغد تصرخ نفس الرقبة من هول تشنج الكفيْن. وعندما صار تورطي في الشعر نهائياً، هو الذي كان تائهاً وسط الحلم مع مجموعات اليسار بالثورة، وبتعاطي الفلسفة والحلم والتخطيط لتبنيها على نطاق جماهيري واسع، وبإعلان الأسئلة الخالدة والوجودية وفضحها لتُحَل أو لننتحر جميعاً في ساحة المدينة؛ صار الشعر لغةً لهذا المنطوي رغم صخب الجامعة وذراعاً وعيناً وإرادة يجبر بها كسر خوفه الدائم وكلما تمر السنين يتذكر جميل نزار ودرس نزار: الجرأة والثورة والحرية وكشف الكبت وعقيدة لا نهائية الأنثى، كموضوعات شعرية، لكن الأخطر والأهم والأبقى هو دوره  بالنسبة للغة الشعرية، وإضافته البراقة: تفكيك اللغة الجزلة المتعالية المقدسة ورفدها بالعادي المتاح البسيط، هو الأب مهما تناسوا، لليومي والمعيش ولشعرنة التفاصيل وللشفاهية عندما تكتسب فنيتها من الشعرية وليس من اللغة، وهو جميل لو تعلمون خطير، من شاعر يبتعد عن الترع والأشجار والطين ليمشط مشاعره بلغة مغسولة، حداثية، شاعر مديني، حديث ومعاصر طول الوقت.

هل تعانُق ميلاد نزار مع عيد الأم، وعيد النوروز المقدس، واليوم العالمي للشعر إلا لعبة أخرى من الآلهة تجعل الرجل يهز رأسه مبتسماً ويرفل في ديباجه مطمئناً وراضياً إلى أبد الآبدين؟

(2)
عندما خضت مع الخائضين في معارك قصيدة النثر في مصر كنت أتجاهله عامداً، خوفاً من الخانة الفنية الضيقة التي أحصوا فيها أنفاسه عندما وضعوه فيها ثم قل هرباً من حسد الجميع لهذا النموذج النجم، كنت أذكر الماغوط، الأقرب لنا بوحشيته وعدم هندامه واقتناصه للحياة بفجاجتها وواقعيتها. أين نحن بفقرنا وصعلكتنا من المخملية والنعومة حتى لو انضغمت بالمبدئية والشجاعة؟ لكني لما تخليت عن فكرة الواحد وجمعت الجميع وصارحتهم بأنهم يملكون جزءاً مني ولست أنا بالكلية، أصبحت أعترف بنفعيتي مع المنجز الإبداعي أياً كان موقعه وباستفادتي من كل ألوان الطيف، من المحافظين ومن المتمردين في تراثنا أو في الغرب، في الشعر أو في كل أشكال الكتابة والفنون، وبهذا خفَّت حدة الإشكاليات واختفت الثنائيات وعانى النجوم من مزاحمة الكثيرين لهم في هوائهم الذهبي، كلهم أساتذتي أو أعدائي حتى، المهم أن أمتص رحيقهم وألصق عصيرهم بروحي وبهذا كان رد الاعتبار لنزار عفوياً وبلا معاظلة .
(3)
في أوقاتٍ كثيرة كانت نميمة نزار شيئاً مبهجاً وذلك للبحث عن نقائص نرد بها، متعالين، ونحن أبناء شعرية أكثر تعقيداً وغموضاً وابتعاداً، على من يحاول أسطرته على الدوام، هو اللصيق بشعريةٍ عامة ولينة، تخص الجميع وليس النخبة: مثلنا نحن الوحيدون الذي نقرأ لأنفسنا فقط، لكننا نفاجَأ أننا نستمتع بكل أحوال سيرته وتحولاتها بنفس قدر رصدنا لمراحله الشعرية، كان يضحك بخبثٍ ويقول تربيتم معي فلا تنكروا يا أشقياء: جده أبو خليل القباني، يعني أسرة تمسك السحاب منذ الأزل، حب الموسيقى ثم حب الرسم، انتحار شقيقته وصال، تعلُّم أصول النحو والصرف والبديع على يد من؟ الشاعر الكبير خليل مردم بك!  
ديوان "طفولة نهد" وقصة الزيات ونشر الاسم هكذا: "طفولة نهر"، حادثة وفاة بلقيس البهية زوجته جرَّاء تفجير إرهابي في السفارة العراقيَّة، وفاة نجله توفيق، تفاصيل الحياة الدبلوماسية، المطربون والأغنيات، هزيمة 1967 وتحوله إلى الممنوع والمصادر، والجماهيري أيضاً وعلى الدوام! 
بعد "هوامش على دفتر النكسة"، وما إلى ذلك من تفاصيل أكتبها بسرعة ودون توثيق لأنها كانت حواديتنا السحرية التي نملأ بها جلسات القطار الكهل ذي النوافذ والأبواب المحطمة الذي يُسقط ماءً ملتبساً من سقفه الصدئ على رؤوسنا، كما لا أنسى تحورها بعد ذلك لأشكال من الحوار أكثر جفافاً تتناول مراحله الشعرية بحثاً عن المرحلة الناضجة التي ستبقى في المتن الشعري لمدد أطول: المرحلة الكلاسيكية والدواوين الأولى ثم مرحلة الكلاسيكية الجديدة في الخمسينيات والستينيات وانتهاءً بالمرحلة الأخيرة، الناضجة والأكثر رسوخاً وشعريةً وقدرة على السيطرة على الرسالة الفنية المرتجاة بلا جُمَل مجانية ظلت تصلح كأكليشيهات اجتماعية سرعان ما كانت تأخذ الشعر لغايات ليست شعرية بالأساس. وبالطبع لم نتنازل أبداً عن شرعية  أن نقرر عدم تخليه في مرحلة الحداثة تلك عن خطابيته وتقريريته وتبسيطه لكن في النهاية سيظل شاعراً يلتقط روح الحياة عبر تفاصيلها وروائحها وحسيتها وليس من العادل ولا الطبيعي أن ننعي عليه كونه ليس شاعر أفكار ولا تصورات ولا فلسفة إلى درجة نفي شاعريته.
لقد ظهر من درس الزمن أنه من الخطأ أن تحاسب مشروعاً فنياً بآليات تتمترس خارج أسواره لتضربه بمدفعيتها القاهرة والقادرة. لقد أجاد البساطة وحب الحياة وكلما احتاجتها إنسانيتنا نجدها عنده .

(4)
إن ارتباط نزار بتاريخنا الشخصي يجعله حاضراً طول الوقت وإن بالنقض والرفض، هو تحت جلدنا أياً ما كانت درجة نزق أو نضج المرحلة التي نتعامل فيها مع مشروعه. وكلما شابت شعورنا نزداد هدوءاً وادعاءً للحكمة ونقرر أن الشعر لا السيرة هو ما يتبقى، المنجز والمشروع، لذلك ننتقي من جواهره ما سيظل يصاحبنا بحرية وباتساعٍ أكبر، نختار من عمل الشاعر بعدما صار عارياً بلا هالاتٍ ولا سلطة، بنفس القدرة التي نتصالح فيها مع كوننا لا ننسى أننا نحنُ الذين ارتعشنا مع أشعاره، أيام الحب البسيط، الأصدق، واكتشفنا غابات الجسد ولوحنا له شاكرين ورددنا قصائده السياسية عندما كان وعينا الإنساني والسياسي بعيداً عن التعقيد، حينما كان الأصدق أيضاً. 
وتبقى الجماهيرية الكاسحة للشاعر كشفاً دائماً لمعضلة الوعي والمزاج العام والتوقيت المرتبط بالسياسة وألعاب الشاعر لمغازلة الذائقة وشكل الكتابة كذلك، تظل سؤالاً مُركَّباً صالحاً للتفجر طول الوقت، حيوياً ودافئاً. لماذا كان الأمر بهذا الإبهار ولماذا استمر الجمهور يؤدي نفس أداءات الإعجاب والتقدير حتى بعد توافر جميع الشعراء على الشبكة العنكبوتية بمعنى ظهور وانكشاف وتجلي كل من كان مختفياً بفعل السياسة وتغيرات الذائقة والتشريد الجغرافي والموت المبكر – رياض صالح الحسين، ومحمد الصغير أولاد أحمد، وسركون بولس، وصلاح فائق، ونصيف الناصري، وأجيال كاملة بعدهم، هم نجوم الآن ولا عزاء للجغرافيا المغرورة والزمن قصير النظر. 
ولماذا تراوح النقاد بين الابتعاد والاقتراب، الرفض وإعادة الاكتشاف طول الوقت. أسئلة كلما تَصَادف أنها تحل في مناسبة الغياب، تُثْبت وتحفر عميقاً في الحضور والحضور. وهل تعانُق ميلاد نزار مع عيد الأم، وعيد النوروز المقدس، واليوم العالمي للشعر إلا لعبة أخرى من الآلهة تجعل الرجل يهز رأسه مبتسماً ويرفل في ديباجه مطمئناً وراضياً إلى أبد الآبدين؟