"يده الأخيرة" .. تساؤلات لا تبحث عن إجابة

ديوان محمد الحمامصي صرخة مكثفة، ولا أتصور أن القارئ يمكن أن يفهمه جيدا إلا إذا قرأه كله في جلسة واحدة.
الديوان يأخذك في البداية لتتصور أنه شعر غزلي، ثم تمضي معه، فتجد دقات قلبك تزداد صخبا
الشاعر يرصد ما حدث لك وله ولنا جميعا

بقلم: إيمان الحفناوي

بعد عشر سنوات من الصمت يخرج علينا الشاعر والناقد والكاتب محمد الحمامصي بديوانه الجديد "يده الأخيرة"، والمتتبع للأحداث سيعرف أن هذه السنوات العشر لم تكن كغيرها حيث جاءت مدججة بالأحداث مفخخة بالمفاجآت المفزعة في معظم الأحيان، لذلك فتوقف الشاعر لم يكن سكوتا بل كان صمتا، صمت يعيش الحدث ويفنده ويتشرب به ويسجله في داخل روحه ليخرج علينا بديوان شعر، وكأنه يرصد ما حدث لك وله ولنا جميعا، هذه هي مهمة المبدع، أن يرصد ويسجل ويحتفظ، ثم تأتي اللحظة التي يمسكك فيها من كتفيك يهزك ويواجهك بالحقيقة، حقيقة ما حدث لك أنت وكنت لاهيًا عنه.
لذلك فالديوان هو صرخة مكثفة، ولا أتصور أن القارئ يمكن أن يفهمه جيدا إلا إذا قرأه كله في جلسة واحدة، فالمقاطع أو الفصول إذا تمت قراءتها متفرقة سيستمتع بها من يحب الشعر، لكن ستغيب عنه فكرة الديوان نفسه ورسالته التي أرادها الكاتب، والعجيب في الديوان أنه فصول لكن يربط كل هذه الفصول عمود فقري واحد، وتتدرج الأحداث في تصاعد حتى تبلغ ذروتها في الفصل الذي ذكر فيه زلزال 1992. 
الديوان يأخذك في البداية لتتصور أنه شعر غزلي، ثم تمضي معه، فتجد دقات قلبك تزداد صخبا، لقد أحسست أنك تواجه إشكالية كبيرة، فالأمر ليس غزلا في امرأة، إنه بدأ بالأمل، متمسكا بعشقه للكتابة والإنسانية، باحثا عن أي معنى سامٍ يجعله مستعدا لمواجهة كل ما يحدث من اضطراب، ثم يبدأ الأمل في التلاشي خطوة بخطوة، لتجد أنه لا مفر من مواجة الجنون الذي يتخبط فيه الجميع كان يرجو حياة آمنة، صار كل ما يرجوه أن يعرف نفسه يعرف أين هو، لماذا وكيف الخلاص، ثم في النهاية نجده يركن للإستسلام، ليس إستسلام الواهن لكنه استسلام من أدرك أن ما يحدث هو أكبر منه، لا فائدة من الكتابة؟ بل هناك فائدة كبيرة هي أن يعرف القادمون في الأجيال اللاحقة أن هناك من حاول وجاهد حتى يحتفظ لهم بحقهم، وحتى إن لم يفلح، فيكفيه أنه سجل لهم ما حدث.

عندما ينقشع ضباب الضياع نستطيع امتطاء صهوة الحقيقة، ونرى بشكل أفضل

يبدأ الحمامصي ديوانه ببداية تدرك منها فورا أنك مقدم على شيء عميق:
"العمر كله 
دفتر
كتبته يد الغياب"
ثم يأخذك في ضباب الدرب لتحاول أن تتبين بنفسك، ترى من هي التي يتحدث عنها، من هي التي ينتظرها؟ وهل قابلها فعلا أم أنها محض خيال، هل هي امرأة؟ هل هي الدنيا؟ الإنسانية؟ الكتابة؟ هل هي شيء من الجائز أن نعرفه لو أكملنا الإبحار؟
الديوان يطرح العديد من الأسئلة دون أن يضع علامة استفهام واحدة، فهو لا ينتظر الإجابة لأنك ستدرك في نهاية الديوان أنه عرف الحقيقة وانتهى الأمر.
تعبيرات عبقرية في الديوان تجعلك تتمعن في كل حرف وكل كلمة وتبحث بين السطور:
"عاريا إلا من صوته"
"قال واستقبل الطريق محمولا على قلق دميه"
"عندما تشتد العاصفة يتساقط كل شيء"
ثم جملة مكثفة جدا يقول فيها:
"لا شيء يعدل رقصة مذبوح على باب غرفة موارب"
في هذه الجملة تصوير متميز، فهي تكثف الوجع العميق، المذبوح هنا يرقص رقصة الموت وباب الغرفة لا هو مفتوح، فيهرب، ولا مغلق فيسلم نفسه لليأس. 
في مشهد آخر نجده في زاوية المقهى يتلوى طلبا للمساعدة، لكن من حوله يتصورونه يعيش لحظة الفناء الخالدة، أيضا نجد براعة في التصوير والتعبير في جملة "تقدم حتى اختفى" فمن يتقدم يظهر أكثر لكن الشاعر هنا أراد أن يصدمك ويهزك لتعرف أن ليس كل تقدم هو الظهور الأوضح، أحياناً كلما تقدمت أكثر إما عملوا على الإجهاز عليك فتختفي، وإما كان الوضوح بالنسبة لهم كالشمس الساطعة تخطف الأبصار فيصيبهم العمى فلا يروك، ثم يلطم الشاعر ماضيه ويأخذنا لنفهم معنى وحدته، إنها وحدة بلا تاريخ بلا ملامح بلا معنى: "لم يترك له إرثا تقتات عليه وحدته".
في منتصف الديوان تقريبا نرى بريق اطمئنان يراود الكلمات، لكنه اطمئنان لا نركن إليه ولا نعتبره إلا زيادة في الألم والعبثية التي تسيطر على المشهد الحياتي كله، فهو يعبر عن سبب اطمئنانه "لا أحد من قتلة الأحلام سيراه". وبعد طول معاناة يصل الشاعر إلى نتيجة "بعدك يكفي لتطهير الجسد لكنه لا يكفي لتطهير الروح" فلا يكفي أن يتطهر الجسد لتستقيم الحياة لكن بتحرير الروح يصبح الخلاص، البعد عنها لا يكفي، الخلاص في إنقاذ الروح، البعد عنها ليس هو الموت ولا يكفي للحياة.
ثم يكثف معاناته ويبرزها بشكل أوضح، رفاهية أن يبحث عن توازنه في تلك اللحظات، إنه "أبحث عن إختلالي"، تعطينا هذه الجملة الصغيرة معانيَ كثيرة، ففي ظل هذه الفوضى لم يعد أمامه إلا أن يبحث عن إختلاله! ما يؤكد الضياع عدة تعبيرات نجدها تصدمنا وتحاول إفاقتنا من ترهل وجودنا:
"السرير نعش"
"يرقب تلاشيه كلما حاول لمسه لكنه وفي كل مرة يضل الطريق"
"تمرر طعم الحب، وطعم الضحك وحتى طعم الصديق"
 لذلك نجده: 
"اختليت بفراغي"
ثم يلم شعث ضياعه فيعبر عن مخاوفه الحقيقية، لقد أصبح يدرك حقيقة خوفه، فالخوف عندما تتعوده الروح يصبح أوضح، لقد صار خوفه أن تتهدم روحه، وأن يموت فلا يجد قبرا، من يموت لا يهمه أين ولا كيف، لكنه هنا يخاف أن يموت فتتبدد بقاياه ولا تجد مكانا يحتضنها، لم يعد خائفا من الحياة، فلم يعد عنده ما يخاف عليه، لم يعد يبحث عن بيت فالجدران لا تحتضن، بل صار يخاف ألا يجد قبرا! لقد سلم بالحقيقة وعليه مواجهتها. 
المرآة من الأدوات التي نجدها في خلفية المشهد في معظم فصول الديوان، كانت مجرد شيء موجود بالغرفة، ثم نجدها تتهشم في زلزال 1992، والآن وقبل نهاية الديوان بقليل صار الشاعر ينظر إليها لكنه عندما نظر، هل رأى وجهه؟ لا لم يره، فقد رأى آلاف الوجوه ولم ير وجهه هو، ثم نجد الشاعر وبعدما بدأ يرتاح للحقيقة التي وصل لها، تطرز كلماته نغمة صوفية محببة "امنحني أزليتك، إرني ما شئت لا ما أشاء أن أرى، إني أسلمت لك الأول والآخر"، "حين تنظر في وتراني ولا أراك"، وفي الجملة الأخيرة مناجاة عذبة روحية خالصة فقد قال هنا حين تنظر في، ولم يقل حين تنظر إليّ، وهو ما يعني أنه في داخله حتى النخاع.
بعد هذه النزعة نراه يعود إلى سيرته الأولى، حيث يتأرجح بين ذراعي الدنيا تارة وبين موجات روحانيته تارة أخرى، صار يبحث عن موته بعدما كان يبحث عن الحياة، لم يعد خائفا أن يموت بلا قبر، بل صار يبحث عن النهاية وليكن ما يكون، لكنه يعرف أنه حتى الموت أحيانا نحتاج لاستجدائه: 
"لن يشفق عليك أحد فيطعنك طعنة نافذة، أو يسمم طعامك أو فراشك"
ثم يصل:
"مت قبل أن لا تجد الموت"
وأخيرا يفصح أكثر عن معاناته، فقد اتضح له كل شيء، فعندما ينقشع ضباب الضياع نستطيع امتطاء صهوة الحقيقة، ونرى بشكل أفضل، الشاعر هنا يجثو على ركبتيه بعدما عرف حقيقة وجعه وكنه آلامه؛ في صباح قريب سنرى جميعا: 

الفرار بيت النجاة
خبئ روحك

كل شيء عار
كل شيء بلا وطن”
الوطن هنا هو الرداء هو الدثار، هو الدفء، وهو الحب.
ثم يخرج بنتيجة: "إن من مات ما كان ليعيش ومن عاش لم يكن ليموت".
بعد كل هذه الحقائق التي تكشفت له عندما نفضت روحه الغبار عن تفاصيلها يقول:
"من أنا، أنا ظل روح، أنا غبار نور، أنا فرح ليس له أن يكون".
ثم يدرك المعاني بشكل أكثر وضوحا:
" الخطيئة ليست ألا تعرف، الخطيئة ألا ترى عريك".
إنه يعاني بشدة ، يقتات على أيامه، يحاول أن يجد الوطن: 
"دخلت النهار كما دخلت الليل وحيدا أبحث عن رحم أمي".
وفي نهاية الديوان يبدأ في الصراخ، أفيقوا، لا تركنوا إلى ذهول يضيعكم، لا تتسولوا حقوقكم، كعجوز باتت يلمها الرصيف تبحث عن قضمة من رغيف الرحمة، أنا أختلف عنكم فكونوا مثلي مستندا إلى خيالي أمثل جسدي وأخرج شاهرا أعضائي، فمن يجرؤ على ردي، وهنا يمكننا أن ندرك معنى عنوان الديوان، فلم يبق له إلا يده هي سلاحه، هي أداته لأنه كاتب، يده الأخيرة.
إنه يعرف مسئولية الكاتب والمبدع تجاه الأجيال القادمة لكن ماذا يمكن أن يقدم؟ 
"أيها القادمون أقسم أنني لم أخذلكم"
وينهي الديوان بكلمة ـ عنوان القصيدة الأخيرة ـ تجعلك تعيد قراءة الديوان كله من البداية فقد وصلت الفكرة وتحتاج أن ترتشفها بعين جديدة.
ونقرأ من أجواء الديوان "وطن لله":
1
هم بانتظاركم لو تيسر القتل
فتحت الشوارع أبوابها 
نادت: هلم إليّ 
اليوم يومكم
أيها الجوعى
المقهورون 
حرروا أيديكم وافواهكم 
اقطفوا الأعناق 
اتخذوا منها كتابا
يقرأه القادم والعابر..
2
انكسر 
فسقط 
تناثر 
كنسته الأحذية 
وزعته غبارا على الطرقات
لم يعبأ أحد 
ولا أحد سأل من؟ أو لماذا؟ 
يا كأسي 
يا عصاي
على من أتكئ الآن؟..
3
لا تنظر خلفك
اركض
خبئ روحك
وأفلت بجلدك
الجوع هناك 
ينتظر في كل مكان 
يتسول الأعضاء
يصطادها
لا آلهة 
لا أنبياء ولا مراكب
لا بيوت ولا شوارع 
اركض
واصل الفرار
الفرار بيت النجاة..
4
قبل أن تخلع قميصها عليه
وتلقيه في البحر
سلم كل شيء 
وانحنى استعدادا للصعود
مقدرا ألا يعود من قفزته 
أن تبتلعه دوامة تلو الأخرى
حتى إذا انقطعت أنفاسه
سقط مهشمًا كأن لم يكن قبلا سالما..
5
هل يصلي عند قدميها 
أم يصعد قليلا 
أو كثيرا؟
الطائف تائه في حرمها
لا يرى أين يكمن وجعه 
ولا من أين يبدأ
من الروح أم الجسد أم منهما معا؟
يواصل الطواف ساهرا 
يقلب رداءات كعبتها 
يخلعها رداء 
تلو رداء 
يرتلها آية آية
ويصلي 
هنا وهناك 
كيفما كن وكان ويكون
حتى إذا تجلت 
استقبل خفته
وطار..
6
الوجوه التي هشمها الفقر،
الشوارع التي ملأها الخوف،
البيوت التي قبرت أهلها،
المكان، الوقت، الضوء، النور،
الماء، الهواء، التراب، 
و....
وكل الذي سممه الحزن،
سجن وسجان
يقال له "وطن"..