ينتفضون ويغنون

العراقيون لا يكتفون بالغناء المتهكم على السياسيين ورجال الدين الفاسدين، بل يستعيدون غناءهم الحقيقي في ألحان وطنية في غاية التعبير.
بدا المشهد باهرا في حجم الانتفاضة ومعبرا عن وجه العراق الحقيقي في نوعية الغناء الذي لا يقبل المراثي الطائفية باعتبارها غناء

ليست علاقة العراقيين بالغناء غامضة فحسب، إنها أعمق من الغموض نفسه، فتلك العلاقة عصية على التفسير، وتكتفي كل التحليلات بما يعرفه العراقيون أنفسهم عن علاقة وجدهم بالغناء، فهم يغنون عندما يحزنون ويغنون عندما يسعدون، ولذلك تأثير مريح في أعماق النفس يصعب فهمه، فالبكاء غير الضحك! حتى علماء جامعة مانشستر يرون أن الغناء مع المذياع مثلا يذهب وقعه مباشرة إلى الجزء المسؤول عن تسجيل المتعة في الدماغ ما يعطي إشارات تتحول إلى إحساس فوري بالسعادة. لكن مثل هذا التفسير لا يرتبط بمتعة البكاء مع الغناء التي يمارسها العراقيون منذ أن غنى ذلك السومري لابنته القتيلة!

لسوء حظ العراقيين تحول الغناء منذ أن اختطفت البلاد من قبل الميليشيات الطائفية وسقطت في لجة الخرافة الدينية، إلى مراث طائفية وفقد نكهته، صارت للغناء وظيفة واحدة وافتقد مواصفاته التاريخية. هذا لا يعني أن العراقيين خلال أكثر من عقد من احتلال بلادهم لم يطلقوا أصواتهم بالغناء، لكنه نوع من الغناء الرث هو أشبه بنتاج مكائن التخلف. وضاع الغناء العراقي بين ما ضاع بأيدي الخاطفين ذوي العمائم السود والبيض.

بالأمس تهكم أحدهم ممن ما زال يرى أن وجود إيران في العراق حل لحكم الطائفة على حساب الوطنية، على المتظاهرين، واصفا انتفاضة الشباب بأنها مجرد حفلات غناء ورقص في ساحة التحرير. فجاء الرد البارع من أحد شجعان انتفاضة العراق متسائلا “ومن قال لك نحن نثور من أجل إقامة جمهورية إسلامية”.

كان الغناء واحدا من أروع الحلول على مر التاريخ، واليوم هو أحد سبل التعبير في الاحتجاجات المتصاعدة. العراقيون لا يكتفون بالغناء المتهكم على السياسيين ورجال الدين الفاسدين، بل يستعيدون غناءهم الحقيقي في ألحان وطنية في غاية التعبير، وهذا يفسر لنا طريقة إعادة ألحان باهرة في تعبيريتها الوطنية قدمت إبان سنوات الحرب مع إيران مع نصوص جديدة مناسبة لها.

بل إن أكثر من مغن عراقي من أجيال سابقة كان يعيش سنوات الخيبة والصمت، استعاد حيويته الفنية وبدا يغني للعراق والمنتفضين.

بدا المشهد باهرا في حجم الانتفاضة ومعبرا عن وجه العراق الحقيقي في نوعية الغناء الذي لا يقبل المراثي الطائفية باعتبارها غناء.

تأملوا ردود الفعل المتهكمة على ما قام به نجم المراثي الطائفية الأول في العراق وهو يحاول التقرب من شباب الانتفاضة عبر نص عائم حوله إلى بكائية كعادته، لترون ما معنى أن ينتفض العراقيون من أجل الفرح واستعادة وجه البلاد المخطوف.