2020 عام اللاشكل

ما يثير سؤالاً إشكالياً مع السنة التي لم يبقَ منها إلا ساعات معدودة ليس الشحة في التسميات بل الزحمة في معجم المفردات المتداولة لتحديد تصور حول هذه السنة.
العالم كله أصبح في مهب  الخوف والقلق
الحكم على شيء فرع من تصوره
إعطاء الشكل لمدة زمنية مطلب الذاكرة

 تبدأُ علاقة الإنسان مع الأشياء والظواهر من خلال تسميتها، وهو لا يدع ما يقعُ حتى خارج المحسوس إلا ويستنبطُ له اسماً. إذاً فإنَّ الكائن البشري يستمدُ فرادته من إمكانية نحت الأسماء وتجسير الهوة بينه وبين الأشياء بالأسماء. كما أنَّ هذه العملية محاولةُ لاستبدال الغموض الموجود في الظواهر بالغموض اللغوي. "وعلمنا آدم الأسماء كلها". 
ما يثير سؤالاً إشكالياً مع السنة التي لم يبقَ منها إلا ساعات معدودة ليس الشحة في التسميات بل الزحمة في معجم المفردات المتداولة لتحديد تصور حول هذه السنة. ومن المعلوم بأنَّ الحكم على شيء فرع من تصوره. هنا قد لا يكون الحكمُ مهما بقدر ما يجبُ رصد المترادفات التي تشيرُ إلى التضييق في مجال حركة الإنسان وظهوره الجزئي، فالوجه الذي يُعد مجازاً لكينونته أصبح شبه محتجب في 2020. كما لم يعد هناك مكان آمن، فالعالم كله أصبح في مهب  الخوف والقلق. 
والحال هذه، فماذا يكون عليه شكل 2020 في الأذهان، لأنَّ إعطاء الشكل لمدة زمنية مطلب الذاكرة على حد تعبير ميلان كونديرا، وما أن وقعت الإغارة الوبائية على العالم حتى علت بعض الأصوات مطالبةً بتعديل الرقم وإن كان هذا الأمر لا يعدو ضرباً من المزاح لكن يكشفُ من جديد عن حلقة مجهولة في طبيعة البشر والتوسل بالتعاويذ لفك عقدة الأزمات عندما يتأخر إيجاد الحلول بطريقة عقلانية.

حين كسر الناس حاجز الخوف، ودبت الحياةُ جزئياً في الشوارع بعد تحديد ساعات للحركة كان النظر يقع على مشاهد ربما لم تخطر على بال أي مبدع

ربما ليس من الخطأ توصيف الحالة التي لا يزال يعيشها العالم في الصراع مع الوباء، بالحرب، فبرأي الفيلسوف الفرنسي آلان تورين أن ما نمرُ به حالياً هو حرب بدون مقاتلين، فالعدو غير مرئي، وبالتالي يتمُ التعامل مع الآخر بوصفه كائناً ملغما.
مرحلة فاصلة
طبعاً تعكسُ العبارات الإرشادية في وسائل الإعلام "في التباعد حياة" حجم القلق والتحول الذي أحدثته الجائحة في شكل التعامل الإجتماعي وسلوكيات الحياة اليومية بحيثُ صار الناسُ أكثرَ حضوراً في الفضاء الإفتراضي مع الإنسحاب من الواقع، إذ حلت الشاشةُ مكان الفصول الدراسية، وما يحظى باهتمام الرأي العام العالمي هو أخبار متسربة من مختبرات العلم بدلاً من تصريحات السياسيين. فكان الوباء عاملاً حاسماً في الإنتخابات الأميركية، ولولا تقاعس ترامب في التعاطي مع تصاعد عدد المصابين والوفيات في أميركا لما وجد خصمه الطريق سالكاً إلى البيت الأبيض. ما يعني أن الأولوية ستكون للصحة بالنسبة للمواطن. وأنَّ ما يفيدُ الدولةَ ليس الترسانة النووية بل وجود الطاقات والعقليات العلمية التي يمكن التعويل عليها لتفادي الإنجرار إلى الكارثة.
يشارُ إلى أنَّ كورونا قد كشف ثغرات في النظام العالمي وأبان عن القصور في إدراك المخاطر التي تحدق بالبشرية، وغاب عن الجميع بأنَّ مفهوم الزمن الآمن ما هو إلا وهمُ، وإنَّ تاريخنا سلسلة من الأحداث الكبيرة التي لم يتوقعها أي شخص وفق رأي نسيم طالب، ومن جانبه يرى المفكر الأميركي نعوم تشومسكي في الجائحة علامة تحذير ودرس للبشرية مشيراً إلى ضرورة البحث عن الجذور التي تؤدي إلى أزمات، قد تكونُ أكثر شراسة مما نواجهه اليوم.
إذاً فإنَّ تاريخ إعلان أول حالة الإصابة بكورونا في 7 يناير/كانون الثاني 2020 يعدُ مرحلة فاصلة في حياة الأمم والشعوب. إذ ما عاد التفكير في النهاية أو الفوز بفرصة جديدة للحياة هو ما يشغلُ الإنسان فحسب بل الفراغ الناجم من الإنسحاب إلى البيت وفائض الوقت قد سببا أرقاً وشعوراً بالخواء لدى الجميع أيضاً، فشن كل شخص من جانبه حرباً دونكيشوتية على التقيدات والعزلة الإجبارية، وما تمت مشاهداته من العروضات على وسائل التواصل الإجتماعي كان أعراضاً للجنون الجماعي.
هكذا عندما حلَّ الصمت وأصبحت الإنسانية واقعةً على تخوم الجنون بدأت بومةُ مينيرفا  تبسطُ جناحيها، واحتل الفلاسفة صدارة المشهد العالمي، ومرد هذا الإهتمام الكبير بالفلسفة في وقت الأزمات، هو حاجة الإنسان الملحة إلى الحكمة والإعتدال في إدارة أيامه بعيداً عن الخوف الذي يصفه أبيقور بالعدو الأكبر، والكتاب الذي يواظب على متابعته وزير الصحة الفرنسية منذ إنتشار كوفيد19  هو "تأملات ماركوس أورليوس" حسب ما يذكر ذلك عبدالسلام بنعبد العالي في مقاله بعنوان "رواقيون من دون رواقية".  
ويشيرُ الكاتبُ العراقي علي حسين في كتابه "مائدة كورونا" إلى أن الفلسفة لم تثر إهتمام الناس منذ السنوات مثلما هو واقع اليوم عليه. إنَّ ما قاله العالم البريطاني ستيفن هوكنغ عن موت الفلسفة لم يكن إلا تطرفاً ناشئاً من الإنتشاء بالعلم، ففي زمن كورونا استعادت أروقة الفلسفة اعتبارها وتبين بأنَّ العلم لا يفكرُ على حد قول هايدغر فيما حذر أحد المفكرين قبل أكثر من نصف قرن بأن الناس يجدون أنفسهم في مواجهة واقعة لم يكن في وسع أحد أن يتخيلها.

الصمت
لا يثيرُ صوتُ زمجرة آلات قتالية ولا دوي القنابل ريبة الإنسان، إنما الصمت الذي يدوم أكثر مما هو متوقعُ يعمقُ شكه لدرجة قد يفقدُ توازنه، لذلك قال الفيلسوف الفرنسي باسكال "إن صمت هذه الفضاءات اللامتناهية يخيفني"، صحيح هو يقصدُ بكلامه الكون وما يلفه من الصمت، غير أنَّ من خرجَ أثناء فترة الإغلاق العام قد شعرَ بثقل الصمت في الشوارع والأماكن العامة، فأينما وليت بصرك فثمة اللامتوقع الخالي من التشويق. نعم قد يبدو لك المشهدُ جديداً لكن لا يمكنُ الإستئناس به. من يملأُ كل هذا الفراغ الممتد في الفضاء المسكون بالصمت، ما يشدكُ ليس صوت العصافير ولا حفيف الأوراق ولا زرقة السماء ولا هواجسك الداخلية، بل اللاشكل الجاثم على الأشياء.
وحين كسر الناس حاجز الخوف، ودبت الحياةُ جزئياً في الشوارع بعد تحديد ساعات للحركة كان النظر يقع على مشاهد ربما لم تخطر على بال أي مبدع، إذ كانت حركة الناس وهم يخرجون من التجمعات التسويقية قبل نفاد الوقت في غاية الغرابة. وأكثر ما لفت الإنتباه في هذا المشهد هو شكل إنتشار المارة الحاملين لأكياس البضائع، ومن ثم الصمت الذي كان يعقبهُ من جديد. يخيلُ إليك أن ما شاهدته فيلما ما استمرَّ إلا لحظات محدودة. 
أخيرأً عام 2020 سيمضي قريباً هل يحقُ لنا التفاؤلُ بالعام الجديد؟ 
من الأفضل التفكير فوق ثنائية التشاؤم والتفاؤل، ونتصرف بإيحاء من كلام محمود درويش:
حين تبدو السماء رمادية
وأرى وردة نتأت فجأة
من شقوق جدار
لا أقول: السماء رمادية
بل أطيل التفرس في وردة
وأقول لها: ياله من نهار
ونحنُ بصدد الحديث عن الشعر لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ صحبة الشاعر طيب جبار والحديث معه بشأن الأدب والفلسفة، ونحن نتمشى في الشوارع التي تكادُ تكون خالية من السيارات كان بمنزلة نزهة معرفية إذ دارت مروحة الكلام  حول الشعراء والروائيين والفلاسفة الرواقيين كأنَّ المراد من كل ذلك هو إستعادة هؤلاء لتخفف من ثقل الفراغ.