75 عاما على مؤتمر يالطا.. هل تغيرت الخرائط؟!

تغيرت المسميات والاحزاب، لكن خرائط التقسيمات للقوى الكبرى بقيت على حالها.

احيت روسيا قبل ايام ذكرى واحد من اشهر واخطر مؤتمرات القرن العشرين، مؤتمر يالطا، الذي عقد في جزيرة القرم السوفيتية يوم 4 شباط 1945، وجمع الثلاثة الكبار، روزفلت وستالين وتشرشل. كان الهدف المعلن للمؤتمر هو القضاء على النازية ومحاكمة رموزها. لكن الحقائق المخفية التي انتهت اليها مخرجات المؤتمر، ظلت تتكلم على مساحة واسعة من الارض، ومازالت اثارها وتداعياتها ماثلة الى اليوم. استمرت الجلسات من 4 الى 11 شباط. تفاهم خلالها الزعماء الكبار على تقاسم النفوذ في العالم، بعد ان رسموا لجيوشهم خرائطها العسكرية لحسم المعركة، ورسموا ايضا الخرائط السياسية المستقبلية. لقد وضعوا خطا فاصلا تقف عنده جيوش المعسكرين، التي ستلتقي لاحقا في برلين، وكان لابد من ان يأخذ كل طرف حصته منها، وليفرض عقيدته عليها ايضا. ففي كل الاحوال، سيجد من يتعاون معه، ايمانا بها، او خوفا وطمعا بمنصب!

لم يكن الامر بافضل منه في كوريا، المستعمرة اليابانية التي فقدت سيادتها منذ العام 1910 وتم خلع امبراطورها غو جونغ فعادت محررة في العام 1945 ببركة اتفاق القرم، الذي سيتحول الى لعنة دفع ثمنها الشعب الكوري ومازال، الثمن غاليا، اذ تقاسمها الجباران، الجنوب للاميركان والشمال للسوفييت. وحين حاول الشماليون، توحيد البلاد تحت العلم الشيوعي، بدفع من الصينيين وليس السوفييت، صار الحد الفاصل بين الشطرين، نهرا من دم، بعد قتل اكثر من ثلاثة ملايين كوري، من دون ان يتزحزح اي من الجبارين عن استحقاقاته لصالح الاخر، ليبقى الواقع على ما هو عليه الى اليوم، حتى بعد ان تغيرت الدنيا وتبدلت العقائد، كونها بالاساس، اقنعة للمصالح، التي هي الابقى والاكثر ثباتا على الارض.

المأزق الاكبر الذي تركه هذا المؤتمر، كان في الشرق الاوسط، مخزن الطاقة الذي ورثته الولايات المتحدة من سابقتها بريطانيا، وتحالفتا على ان لا ينافس نفوذهما فيه السوفييت او غيرهم، لانه يمثل عصب الاقتصاد العالمي، ليس بالضرورة لحاجة اميركا وبريطانيا للطاقة، بل، وهذا هو الاهم، للتحكم باسعار هذه السلعة الحيوية، التي يتحرك اقتصاد الدول على ايقاعها، وتهبط وترتفع اقيام عملاتها بسببها. السوفييت، وهذه حقيقة تأكدت للجميع، تنازلوا للاميركان عن الشرق الاوسط، لاسيما دول منطقة الخليج، فجعلوا قوى اليسار الشيوعي اشبه بعروس الوعد الذي لن يجيء، وان اية محاولة من اي حزب شيوعي او ماركسي، لاستلام السلطة في اي بلد من بلدان هذه المنطقة، تصطدم اولا بالحاجز السوفيتي، وكأن لسان حالهم يقول، لا تجعلونا في مواجهة مباشرة مع الاميركان، لقد تقاسمنا الحصص، وانتهى كل شيء!

نعم، هذه هي الحقية المرة التي لم يدركها اكثر اليساريين العرب والعراقيين، من الذين دفعوا اثمانا باهظة فيما بعد، لان احلامهم تجاهلت هذه العقبة الواقعية. فسال الكثير من الدم وضاعت الكثير من السنين وتعطلت الكثير من الكفاءات، لانها وجدت نفسها اما محيّدة في بلدانها لاسباب سياسية، او هجرتها للمنافي.

لاشك ان اسرار مؤتمر يالطا كثيرة، وبعضها بات معروفا وبعضها الاخر مازال طي الكتمان. لكن السؤال الذي يطرح نفسه امام انظمة منطقتنا اليوم، وبعد التجربة المريرة الطويلة، هل بامكاننا ان نسلك طريق الاستقلال الفعلي، مع وضع مصالح الاميركان والروس في الحسبان؟ الجواب الذي يعرفه كل عاقل، هو؛ نعم، لكن حين تتوحد رؤية دول المنطقة لمستقبل شعوبها، بعيدا عن اية تهويمات عقائدية، تعمل على استعداء الشعوب لبعضها، وتستنزف ثروات وامكانيات الدول، كنتيجة لهذا العداء غير المنتج، وان نتعامل بواقعية مع مشاكل منطقتنا، بموازاة ادراكنا لحساسيتها العالمية، فعندها نكون قد وضعنا الجميع، كبارا وصغارا امام واقع جديد، يفرض عليهم احترامنا، مثلما يقطع عليهم وسائل التدخل في شؤوننا.

الاميركان والروس، موجودون الان في المنطقة، وان تنسيقا عالي المستوى بينهما، لان لكل منهما مصالحه التي يعرف كيف يحافظ عليها بالتفاهم، لكننا للاسف لم نعرف تماما، اين تكمن مصالحنا، وكيف نسلك الطرق الصحيحة اليها، فاصبحنا من حيث ندري او لاندري، ادوات لتنفيذ مصالح الاخرين، بل ومطالحهم ايضا، ارضاء لشهوة العداء المستحكمة بين الانظمة.. الانظمة وحدها!