ضربة مرّت بسلام

هل المشكلة في السلاح الكيميائي الذي يمتلكه النظام السوري ام في مكان آخر؟ ما الفارق بين قتل السوريين بالسلاح الكيميائي وقتلهم بواسطة البراميل المتفجرة؟ هل الموت بالسلاح الكيميائي مختلف عن الموت بالبراميل المتفجرة او قذائف المدفعية او القنص؟

لا يختزل السلاح الكيميائي الازمة السورية. من الواضح انّ النظام لن يكون قادرا في المرحلة المقبلة على استخدام السلاح الكيميائي، لكن ذلك لن يمنعه من متابعة تهجير السوريين من ارضهم خدمة لهدف إيراني محدّد. يتمثل هذا الهدف في تغيير التركيبة الديموغرافية لدمشق والمنطقة المحيطة بها. ليس ما حلّ بأهل الغوطة الشرقية سوى دليل على ذلك وعلى متابعة تنفيذ مخطط يصبّ في السيطرة على دمشق بعد تدمير حلب وحمص وحماة.

يمكن ان تكون للضربة الاميركية – الفرنسية – البريطانية أهميتها في حال اندرجت في سياق استراتيجية متكاملة تستهدف حصول تغيير في العمق في سوريا. مثل هذا التغيير يتطلب مرحلة انتقالية لا يكون فيها بشّار الأسد رئيسا. كلّ ما عدا ذلك إضاعة للوقت يكشفه كلام رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي عن انّ الهدف لم يكن المسّ بالنظام السوري. لم يكن الموضوع موضوع \"تغيير للنظام\"، على حد تعبير ماي. يؤكد هذا الكلام ان الضربة كانت ذات طابع تجميلي لصورتي ترامب وماي في واشنطن ولندن، فيما لدى فرنسا ورئيسها ايمانويل ماكرون همّ من نوع آخر هو الرغبة في العودة الى الشرق الاوسط ولعب دور فاعل فيه من البوابة السورية.

في النهاية، هل كانت الضربة الاميركية المنتظرة التي شاركت فيها فرنسا وبريطانيا للاستهلاك الداخلي، خصوصا في الولايات المتحدة وبريطانيا؟ في الولايات المتحدة، هناك حاجة لدى الرئيس دونالد ترامب الى ابعاد التركيز على مشاكله الداخلية. وفي بريطانيا، تحتاج رئيسة الوزراء في كلّ يوم الى اظهار انّها شخصية قويّة قادرة على البقاء في الموقع الذي تشغله منذ استقالة ديفيد كاميرون الذي اورثها الكارثة التي تسبب بها الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي صيف العام 2016، أي ما يعرف بـ\"بريكسيت\".

عسكريا، كانت الضربة المشتركة ناجحة. دمّرت كلّ الأهداف المطلوب تدميرها من دون مقاومة تذكر وذلك عن طريق استخدام سلاح الجوّ والصواريخ، خصوصا صواريخ \"توما هوك\". حصل كلّ ذلك بالتنسيق مع روسيا التي أبلغت مسبقا بالضربة فاتخذت موقف المتفرّج واكتفت بعد ذلك بالاشادة بما قام به الجيش السوري الذي اسقط من وجهة نظرها 71 صاروخا!

يؤكّد ذلك ان كلّ التهديدات الروسية للغرب ليس سوى تهديدات فارغة وانّ موسكو تعرف تماما انّها لا تستطيع البقاء في سوريا من دون شروط معيّنة امتنعت الى الآن عن تلبيتها، لكنّه سيتوجب عليها ان تفعل ذلك في يوم قد يكون قريبا. بين هذه الشروط استيعاب الوجود الايراني والحدّ منه. هناك مكان لروسيا في سوريا ولكن لا مكان لإيران فيها في المدى الطويل، اللهمّ الّا اذا حصل تفاهم في هذا المجال بين طهران وتل ابيب. وهذا يعني ان تحلّ ايران في سوريا مكان النظام الذي امّن الهدوء والأمان المطلوب تأمينهما لإسرائيل في الجولان المحتل منذ العام 1974. سيتبيّن قريبا ما اذا كان هناك مشروع لتفاهم إيراني – إسرائيلي يتعلّق بالوجود الايراني الدائم في سوريا وحتّى في لبنان. سيتبيّن هل في استطاعة ايران، من اجل ضمان وجودها في الجنوب السوري وفي لبنان، تقديم الضمانات التي تريدها إسرائيل، وهي ضمانات مشابهة لما كان يقدّمه النظام السوري في عهدي الأسد الاب والأسد الابن.

ولكن ماذا عن النجاح السياسي للضربة؟ هل يمكن ان تغيّر شيئا في سوريا باستثناء ان لا استخدام للسلاح الكيميائي بعد الآن؟ المؤسف انّ ليس ما يشير الى ايّ تغيير على الأرض، لا لشيء سوى لانّ مشكلة سوريا لم تكن يوما في السلاح الكيميائي. ظهر ذلك من خلال إصرار الجانب الروسي على نقطة في غاية الاهمّية. تتمثّل هذه النقطة في ان الضربة لم تستهدف المطارات التي يستخدمها النظام كنقطة انطلاق لشن هجمات على القرى والبلدات والمدن السورية بغية إرهاب المواطن العادي واجباره على ترك بيته وارضه. لو كانت هناك نيّة فعلية بالتصدي للنظام وشلّه، لكانت الخطوة الاولى في الضربة الثلاثية استهداف مدرجات المطارات العسكرية.

لعلّ اخطر ما في الامر انّ الضربة الثلاثية لا تندرج في سياق استراتيجية أميركية شاملة ومتكاملة في الشرق الاوسط والخليج، الّا اذا كانت التغييرات الأخيرة في واشنطن ستؤدي الى بلورة مثل هذه الاستراتيجية. هناك وزير جديد للخارجية هو مايك بومبيو ومستشار جديد للامن القومي هو جون بولتون. هل يوحي وجود هذين الشخصين في موقعيهما الجديدين بانّ الإدارة بدأت تفكر بطريقة مختلفة وان دونالد ترامب سيكون بالفعل مختلفا عن باراك أوباما، خصوصا في ما يخصّ ايران؟ هل توحي التغييرات الأخيرة في الإدارة الاميركية بانّ الولايات المتحدة ستخرج من حال الضياع التي تعاني منها منذ عشر سنوات، أي منذ وصول باراك أوباما الى البيت الأبيض... وهو ضياع استمر مع دونالد ترامب، اقلّه الى الآن؟

ليس سرّا انّه سيكون على إدارة ترامب، قبل الثاني عشر من ايّار – مايو المقبل، اتخاذ موقف من الاتفاق في شأن الملف النووي الايراني الذي تم التوصّل اليه صيف العام 2015. هناك اتجاه قوي في واشنطن الى الغاء هذا الاتفاق الذي توصلت اليه ايران مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا، أي مع البلدان الخمسة ذات العضوية الدائمة في مجلس الامن والمانيا. لكنّ الاوروبيين يصرون على التمسّك بالاتفاق وربطه بمسائل أخرى من بينها الصواريخ الباليستية وسلوك ايران في المنطقة. وهذا ما يفترض في ترامب وادارته مراعاته الى حدّ ما.

مرّت الضربة بسلام. لم تتحرّك روسيا. لم تفعل ايران شيئا. لم يطرح مصير النظام السوري، على الرغم من انّه صار في مزبلة التاريخ منذ فترة طويلة. ماذا عن مرحلة ما بعد الضربة؟

سيعتمد الكثير على ما اذا كانت واشنطن باتت تعرف ماذا تريد في سوريا وهل يمكن التوصّل الى مرحلة انتقالية تؤدي الى حل سياسي يأخذ في الاعتبار انّ روسيا ليست قادرة على حماية النظام الى ما لانهاية وانّ ثمّة حاجة الى ضبط ايران واعادتها الى حجمها الطبيعي تفاديا لانفجار كبير في المنطقة كلّها.

مرّة أخرى، ليست المشكلة في السلاح الكيميائي الذي يمتلكه النظام السوري والذي كان مفترضا ان يكون تخلّص منه في العام 2013 بضمانة روسية. المشكلة في مصير سوريا ككلّ وهل تكون قاعدة إيرانية وجزءا من المشروع التوسعي لطهران الذي يشمل العراق ولبنان ايضا ام لا؟

مثل هذه الأسئلة سيطرح نفسه عاجلا ام آجلا في حال كان مطلوبا ان تكون الضربة الثلاثية الأخيرة آخر الضربات وليس مقدّمة لمزيد من التصعيد والضربات في الشرق الاوسط كلّه والخليج.

لا يختزل السلاح الكيميائي الوضع السوري مثلما لم يختزل الملف النووي، كما كان يعتقد باراك أوباما، كلّ مشاكل المنطقة.