الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها

القيادة الفعالة هي التي تنشر الثقافة المؤسسية التي تنهض بالمجتمع، فلا تتذرع بالأديان كغطاء لأكل الحقوق والتمييز.

درة أخرى من حكم ابن خلدون "الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها" والقهر يعني الظلم، أي سلب الإنسان حقوقه دون مبرر. واذا افترضنا صدق مؤشر الفساد الصادر عن المنظمة العالمية للشفافية، فإن جميع الدول العربية ينتشر فيها الفساد، حيث كان تقييمها يتراوح ما بين "فاسد جدا" كالعراق، "وفاسد" كبقية الدول العربية، باستثناء الإمارات العربية المتحدة التي احتلت المرتبة الأولى بين الدول العربية بخلوها من الفساد وجاءت قطر في المرتبة الثانية، (وهذا فيما يتعلق بالمواطنين وليس الوافدين الذين يعانون الأمرين في قطر). وتعتمد المنظمة في تقييمها على معايير الحوكمة الرشيدة، أي أن موضوع بحثها هو الحكومات، وهذا يعني أنه إذا انتشر الفساد في الحكومات، فإنها تقهر شعوبها في سلبهم لحقوقهم المادية والمعنوية، إذ أن المال العام تنهبه الحكومات الفاسدة والمواقع القيادية يحتلها اقارب المسؤولين وبطانتهم. أي أن دراسة الفساد تعتمد على قياس حسن الإدارة ونزاهتها بعيدا عن الأمور السياسية، فطريقة الحكم تسمى في الولايات المتحدة "إدارة" أي administration وهي تقوم بتقييم الممارسات الإدارية للحكومات.

أما قياس فساد الأخلاق على المستوى الشعبي، فهذا لا تتولاه أية جهة رسمية، بل يمكن استخلاصه من الإعلام والأدب العربي والعالمي، على الرغم من وضوحه في النشاطات الاجتماعية اليومية، حيث يظهر سوء الأخلاق في مئات التصرفات والمواقف الاجتماعية، مثل انتشار الكذب والنفاق والنصب والاحتيال وهضم حقوق الأطفال والنساء والإقصاء والتهميش والاستقواء على الضعفاء والمغيبة والنميمة وعدم اتقان العمل والتهرب من العمل والانتماء العشائري والقبلي الضيق والتدين الزائف والفرق الكبير بين القول والفعل وحلف الأيمان الغليظة عند أي حوار مهما كان بسيطا وانعدام ثقافة التطوع والتبرع... إلخ. ومع ذلك، فإن هناك مؤشرات أقوى على سوء الأخلاق عند العرب نجدها في الكتابات الغربية.

 في دراسة قديمة أجراها فؤاد مغربي في عام 1978 بعنوان Arab Basic Personality ونشرت في مجلة دراسات الشرق الأوسط، توصل مغربي إلى أن الشخصية العربية في الكتابات الأجنبية تتسم بالعدوانية والجمود والشك وعدم اختبار الواقع. وتعزو تلك الكتابات عدم قدرة العربي على النهوض إلى هذه السمات التي نتجت عن طريقة التربية في الصغر، فالآباء يفرطون في تدليل الأطفال، وعندما يكبر الطفل، يصدم بوجود مئات الممنوعات، كما أن التمييز الكبير بين البنات والأولاد يؤدي إلى اضطراب المقاييس لديهم، وزعزعة معايير الصواب والخطأ، مما يدفع الأطفال إلى قبول حالة الفوضى وانتهاج أسلوب الكذب والمراوغة والإفلات من المحاسبة نظرا لانعدام الثبات في القوانين والأنظمة.

لكن مغربي يشكك في صحة هذا التحليل التبسيطي ويقول أن سلبية الشخصية العربية ناجم عن جملة عوامل منها ما هو اجتماعي واقتصادي وسياسي، ويستشهد بالشخصية الفلسطينية تمكنت من التميز في بضعة سنوات فقط بسبب اضطرار الفلسطينيين إلى بناء الشخصية لمحاولة استعادة أرضهم المفقودة.

إن عوامل التدهور في الشخصية العربية هي جميع ما ذكر سابقا، فكل عامل من تلك العوامل أسهم في سلبية الشخصية العربية، ولكن العامل الأهم هو طريقة إدارة البلاد، فالقيادة علم يدرس في الجامعات وهو هام للغاية، إذ أن الدولة برمتها تعتمد على نوعية القيادة، وهناك معايير محددة ينبغي للقيادة الالتزام بها وهي غير خافية على أحد. ولنأخذ تونس على سبيل المثال، فهذه الدولة تعتبر أرقى البلاد العربية، وقد خاضت غمار التغيير بأقل الخسائر الممكنة نظرا لأن الشعب متعلم جيدا وواع لطريقة حوكمة المؤسسات. فهناك انتخابات وهناك دستور وهناك برلمان فاعل تمكن من سن قوانين جريئة تصدت للثقافة الشعبية التي ترسخ الظلم وهضم حقوق فئات معينة من المجتمع.

إن القيادة الجيدة هي مفتاح التغيير، فهي التي تفرض مؤسسية القرار وتفصل ما بين السلطات وتطبق القوانين التي يسنها ممثلو الشعب الذين يعكسون إرادته، دون القضاء على المعارضة التي تريد عكس ذلك، لأن القوانين سنت بالتصويت، وعندئذ، فإن المعارضة تعمل للترويج لأفكارها دون لجوء إلى السلاح. والقيادة العادلة القوية هي التي تحرص على تطبيق القوانين على الجميع دون تمييز، وهي التي تراقب الفاسدين وتعزلهم، وهي التي تعين أصحاب الكفاءة في المناصب العليا وليس ابن فلان أو من العشيرة الفلانية. والقيادة الجيدة هي التي تحرص حرصا شديدا على السلطة القضائية واستقلاليتها وقوتها ونزاهتها.

لم تعد سمات القيادة الرشيدة تخفى على أحد وأصبحت من المعلومات العامة التي يعرفها طلاب السنة الأولى في كليات إدارة الأعمال، ولكن الأزمة الحقيقية هي التوصل إلى القادة المناسبين وتسليمهم مهمة إدارة البلاد. فعلى سبيل المثال، اختارت بريطانيا والولايات المتحدة الانسحاب من الكثير من المنظمات الدولية لأنهما خاسران فيها، ورغم السخط الدولي العام عليهما، إلا أنهما فعلا ما يصب في مصلحة بلادهما وهذا حق سيادي لهما.

إن القيادة الفعالة هي التي تنشر الثقافة المؤسسية التي تنهض بالمجتمع، فلا تتذرع بالأديان ولا تقول الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو أية ديانة أخرى تتطلب منهم أن يفعلوا كذا وكذا، فهذا الأمر من عوامل الهدم وغطاء لأكل الحقوق وتنصيب الناس شرطة على بعضهم البعض، بل تقوم بوضع القوانين بطريقة مؤسسية تضمن حقوق الجميع دون تمييز وتطبقها على أتم وجه، وفي هذه الحالة، تتغير الثقافة من هدامة إلى بناءة وتتغير الشخصية من سلبية إلى ايجابية ومن عدوانية إلى متعاونة ومن منافقة إلى مستقيمة ومن فاسدة إلى نزيهة، وذلك لأن جميع أفراد المجتمع مقتنعون أن الدولة يحكمها القانون ويحصل الجميع على حقوقهم فلا يجدون دافعا لسوء الأخلاق والكذب والنفاق ولا يوجد مجال للفساد ونهب المال العام وعدم المساواة بين الناس.