الكورونا ومصيدة مالتوس

بين البحث في أصل الدّاء وتدبير الشفاء، نختبر مناعة أجسادنا ومناعة وجودنا ونُراجع نمط حياتنا وقيمناالإنسانية.
هل تتعرّض البشرية اليوم إلى تصفية طبيعيّة أو مقصودة لسكان العالم وخاصة للمسنين؟
البعض يحاول إلباس الوباء "جبّة إيديولوجية"، فيعتبره صنيعا إنسانيا مفتعلا يهدف إلى التحكّم في التوازنات السياسية العالمية الراهنة

يتعدّى الانشغال بموضوع الكورونا (كوفي 19) اليوم مجرّد التفكير في ظاهرة وبائية تمسّ من صحة الأجساد وتهدّد بقاءها، إذ يهتمّ المحلّلون من اختصاصات متعدّدة بهذا الموضوع في سياق أعمّ من المشكل الصحي الذي يطرحه.
 ينكب الخبراء على تقدير التداعيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الممكنة المترتّبة عن ظهور هذا الوباء والناتجة عن حظر السفر وشلل المعاملات التجارية وانحسار الأنشطة الاقتصادية في العالم. ذلك أنّ استباق الأزمات السياسية والاقتصادية والتفكير في الحلول الممكنة للاضطرابات العالمية الطارئة لا يقل أهميّة عن محاولات للتصدي للفيروس.
يتساوق الجهد العملي المبذول مع جهد نظري يسعى بدوره إلى إيجاد فكرة ناظمة توضّح أسباب تأزّم الوضع الحالي، حيث يشخّص الفلاسفة الأحداث متسائلين عن أصل العلّة وعن مآل البشرية. لعلّنا اليوم نقف بعسر على عتبة أبواب مرحلة جديدة من تاريخنا البشري وها نحن، بين البحث في أصل الدّاء وتدبير الشفاء، نختبر مناعة أجسادنا ومناعة وجودنا ونُراجع نمط حياتنا وقيمناالإنسانية.
نعثر في سياق التحاليل الفكرية على تأويلات متنوّعة لأسباب ظهور الفيروس، إذ يحاول البعض مثلا أن يلبس الوباء "جبّة إيديولوجية"، فيعتبره صنيعا إنسانيا مفتعلا يهدف إلى التحكّم في التوازنات السياسية العالمية الراهنة. يحمّل هذا الموقف العولمة مسؤولية تأزّم الوضع الرّاهن ويرى أنّها قد تنجح في إحكام قبضتها على البشر عن طريق توظيف المشكل الصحّي المطروح.
في المقابل، يفترض موقف مغاير أنّ تداعيات الوباء تنذر بإمكانية تقويض ظاهرة العولمة، على هذا النحو تتالى المقاربات المتنافرة وتُفنّد بعضها البعض من دون أن تُقنع فكرة بعينها أو تسود بإطلاق.
نُحاول فهم هذه الوضعيّة وذلك من خلال  طرح السؤال الإشكالي: من يستهدف فيروس من الكورونا بالضبط؟ وإذا كان الأطباء يُجمعون على أنّ هذا الوباء يُضرّ أكثر فأكثر بالفئة العمريّة المسنّة، فإن ذلك يدفعنا إلى التفكير في أنّ تلك الفئة هي المستهدفة؟

هل يمكن أن توظّف وجهة نظر مالتوس اليوم في شكل فيروس طبيعي؟ أم أنّ الطبيعة تضيق ذرعا بمنتجات البشر على أرض تفوق فيها الكثافة السكانية حجم طاقات البيئة والموارد المتاحة؟

لقد تواتر الحديث منذ مدّة عن مسألة "الشيخوخة الدّيمغرافيّة"، حيث يعتبرها بعض علماء الاقتصاد السياسي معضلة العالم اليوم وذلك لما لها من تأثير على السّوق الماليّة وقطاع الخدمات. يشير مفهوم "الشيخوخة الديمغرافية" إلى ظاهرة التحوّل الديمغرافي المرتبط بارتفاع مستوى متوسّط العمر المتوقع في دولة مّا. وقد سبق أن توقّعت الأمم المتّحدة أن تترسّخ هذه الظّاهرة في القرن 21 ويتضاعف متوسّط عمر السكان في كل أقطار العالم باستثناء بعض الدول وقد يبلغ عدد المسنين ما فوق الستين سنة ثلاثة أضعافه حتى يصل إلى 2,1 مليار تقريبا بحلول سنة 2050. لذلك حذّر معهد أوكسفورد للشيخوخة السكانية من مخلفات كل ذلك على البلدان لا سيما قارة آسيا التي تشهد انخفاضا كبيرا في معدّل الولادات وتراجعا مهما في نسبة الوفيات. أمّا هجرة الشباب، فلا تعتبر الحلّ الأمثل لمثل هكذا مشكلات بالدُّول المتقدّمة ناهيك أنّها تُفاقم مشكلة التهرّم بالبلدان النامية التي هجرتها.
تتضافر جهود الجمعيّة العالميّة للشيخوخة منذ سنة 2002 من أجل خدمة قضايا المسنّين وتسهر على التذكير بمستحقّاتهم الماديّة والنفسيّة، وتدعو في هذا السيّاق إلى دعمهم للاستفادة من خبراتهم في مجال التنمية والعمل. لكن في مقابل ذلك، تتبرّم السياسات العالميّة من تزايد عدد المتقاعدين الذي يُشكلّون عبئا ثقيلا على المنظومات العموميّة وعلى صناديق الصّرف باعتبار أنّهم يتقاضون أجورهم دون عمل فعليّ يؤدّونه. أمّا التمديد لهم في سن العمل، فلا يمثّل بدوره حلّا أمثل، لأنه سيكون على حساب الناشطين وبمعنى آخر سيُفاقم البطالة ويخلق بالتالي مشكلا كبيرا لدى العاطلين عن العمل الذين ينتظرون دورهم في طوابير سوق الشغل. وهم في واقع الأمر، يثقلون كاهل الدولة والعائلات الساهرة على رعايتهم على حدّ سواء. كما لا ننسى في هذا السياق، أنّ بعض العاطلين عن العمل، لا سيّما في البلدان النامية، لا تتوفّر لهم فرصة عمل إلّا عند بلوغهم مرحلة الكهولة.
يتساءل المختصّون في علم الاقتصاد في مورغان ستانليك، وهي أكبر مؤسسة خدمات مالية واستثمارية متعددة الجنسيات في الولايات المتّحدة الأميركيّة والعالم: "هل يمكن تفادي المشكلات التي تطرحها القوى العالميّة العاملة في سنّ الشيخوخة عن طريق زيادة الإنتاجية؟ يُرجّح أغلب المفكرين أنّنا لن نجد لهذه المعضلات مخرجا حيث تشكو عدة بلدان مثل إيطاليا من معدلات نمو إنتاج ضعيفة وفي تراجع، ويقترحون بدائل أخرى لتطوير الإنتاج مثل التشجيع على تطوير الأتمة وتوظيفها بكثافة في قطاع الخدمات.
تخلق فوبيا "التهرّم الديمغرافي" إذن، هاجسا ملحّا عند العديد من خبراء الاقتصاد الذين يعتبرون أنفسهم معنيين بإيجاد حلّ لما يعتبرونه خطرا محدقا بمصير المصالح المالية.
فهل تتعرّض البشرية اليوم إلى تصفية طبيعيّة أو مقصودة لسكان العالم وخاصة للمسنين؟ ربما يقف الناس اليوم على أعتاب "مصيدة مالتوس". يطلق هذا اللّفظ على النظرية المسماة "بكارثة مالتوس" أو"تصحيح مالتوس" أو" أزمة مالتوس" نسبة إلى عالم الاقتصاد الإنجليزي توماس روبرت مالتوس. يشرح هذا العالِم في كتابه "مبادئ الاقتصاد السياسي" مدى اختلال نمط العيش الإنساني في ظل تفاوت كبير بين معدلات الإنتاج وعدد السكان. ممّا يؤدي حتما إلى الفقر المدقع ويخلق المظالم الاجتماعية.
يحصل التوازن في تقدير مالتوس على إثر تفشيّ الأوبئة أو المجاعات أو ظهور الكوارث الطبيعيّة التي تؤدي إلى الإنقاص من زخم البشر وعودة النظام الطبيعي للأشياء.
يقول مالتوس في مؤلفه "بحث في مبدأ السكان": "إنَّ الرجل الذي ليس له من يُعيله ولا يستطيع أن يجد عملاً في المجتمع، سوف يجد أن ليس له نصيب من الغذاء على أرضه، وبالتالي فهو عضو زائد في وليمة الطبيعة، حيث لا صحن له بين الصحون. وعليه فإنَّ الطبيعة تأمره بمغادرة الزمن".
لكن هل يمكن أن توظّف وجهة نظر مالتوس اليوم في شكل فيروس طبيعي؟ أم أنّ الطبيعة تضيق ذرعا بمنتجات البشر على أرض تفوق فيها الكثافة السكانية حجم طاقات البيئة والموارد المتاحة؟
هل يعقل أن تبرّر المشاكل الاقتصادية الإبادة الجماعية، فتكون دافعا لسحق فئة اجتماعية دون غيرها؟ أيّ عدالة هذه التي تُبيح تقدّم البشرية بمحق البشرية نفسها؟