سيلفيا بلاث: مملكة الله للعنيفين

المتلقي يقعُ على علامات تؤكدُ أن رواية "الجرس الزجاجي" سيرة ذاتية مكتوبة في قالب روائي.
الكاتبة الإميركية طوعت روايتها الوحيدة "الجرس الزجاجي" لتدوين جوانب َمن سيرتها
إيستر تتذكر معاينتها لأجنة الأطفال الذين ماتوا قبل ولادتهم

الإبداع هو نزع المألوف عن الأشياء وتقديم الظواهر في صور وصياغات جديدة، وذلك ما تصبو إليه الفنون بأنواعها كافةً إذ تتطلبُ هذه العملية إيجاد علاقات غير معهودة بين المعطيات المتوفرة في الواقع، وبهذا يكتسبُ صاحب الأثر الرهان في إقناع المتلقي بأنَّه أمام ثغرة في سلسلة المشاهد المتتابعة والمعادة. وبأنَّ ما يقعُ عليه النظر هو جانب غير مطروق فيما تعودَّ عليه.
ولا يكتفي عدد من المبدعين بنزع الألفة من نتاجاتهم بل يعيشون حياةً ربما أكثرَ غرابةَ مما بلغت إليه أعمالهم الفنية والأدبية الأمر الذي تراه بالوضوح في حياة كافكا، وميلينا، وفان كوخ، أليخاندرا بيثارنيك، على سبيل المثال لا الحصر كذلك فإنَّ الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث تنضمُ إلى هذا الفصيل، فكانت حياتها صاخبة مع أنها عاشت عمراً قصيراً لذا فإن وقائع أيامها ظلت مثيرة للإهتمام بينما تبدو نصوصها الشعرية ظلالاً شاحبةً لتجاربها الحياتية علماً أن ما كتبتهُ بلاث برأي الناقدة الأنكليزية كارول أوتس يعبرُ من أحد نواحيه المهمة عن الشعر الرومانسي الذي قد شهد صعوداً متجدداً في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، وكان اكتشافها لقصيدة روبرت لويل "دراسات حياتية" أثراً كبيراً في تعاملها مع مفهوم الشعر كونه مرآة حقيقية للحياة الفردية حسبما يشير إلى ذلك سامر أبو أبوهواش في تقديمه لترجمة مختارات بلاث الشعرية.

هل انتحرت بلاث المحبة للطبيعة والحياة  نتيجة كآبة متأصلة في شخصيتها حيثُ تفصحُ عن ذلك على لسان بطلة "الجرس الزجاجي"؟

المرجعية الذاتية
 إنَّ تأمل التجارب الذاتية لا يقفُ عند النص الشعري لدى سيلفيا بلاث بل طوعت روايتها الوحيدة "الجرس الزجاجي" الصادرة من دار الرافدين لتدوين جوانب َمن سيرتها لاسيما سنوات الدراسة والرحلة إلى نيويورك لتباشر العمل بمجلة "يوم السيدات" إذ تشارك إيستر وهي الأنا الأخرى للكاتبة في هذه التجربة برفقة اثنتى عشرة فتاةً، وتقيم بأحد فنادق نيويورك ويهمها أن تكونَ ناجحةً في إنجاز فروضها الدراسية في المواعيد المقررة فيما توبخها دورين على قلقها الدائم بشأنِ كتابة القصة وتسليمها لجيسي. 
وجدت إيتسر في مديرة العمل شخصية ودودة وهي تتقن لغتين وعلى معرفة بالكتاب المهمين في عالم الموضة. وتستشف من الحوار الذي يدور بين صديقتين أنَّ دورين شخصية يستهويها الإلتذاذ بالتواصل والعلاقات ولهجتها لاذعةُ غير محتشمة في إطلاق الأوصاف على من لا يعجبها. فيما تظهر إيستر بصورة أقل دراية بمثل هذه الأجواء ولم تستوعب منظر تكدس الطعام الذي يصيبها بالغثيان لأنَّ الجدة قد تربتها على وجبات مقتصدة، وكلما رفع أحدهم اللقمة إلى فمه تذكره بأنَّ رطلا واحداً كلفها خمسة وأربعين سنتاً.
وهذا ما خلف لديها الشعورَ بأنها تأكل نقودا بدلاً من الطعام. وما يشكلُ قلقاً لابنة بوسطن هو أتيكيت المأكل لكن ما لبثت أن تكتشف بأن المرء إذا أساء التصرف حسب أتيكيت المائدة، لكن بطريقة كأنما يفعله هو الصحيح، فيتمكن من أن ينفذَ بجلده والغريب في محتويات هذا العمل هو حضور شبح الموت، إذ ينطلقُ السردُ بإستعادةِ اللحظة التي يتمُ فيها إعدام آل روزبيرغ، ومن ثمَّ ترى إيستر تشابها بين أحواض الإستحمام الحديثة وتوابيت الموتي مشيرةً إلى أنَّ هذا الوعاء المكاني هو طريقها المفضل نحو التأمل العميق. 

وفي السياق ذاته تتذكر إيستر معاينتها لأجنة الأطفال الذين ماتوا قبل ولادتهم ومن ثمَّ تصحبُ صديقها بدي ويلاد لمتابعة إمرأة تمر بحالة المخاض وتستخلص من المشهد بأنَّ المخدر الذي يخفف ألم الولادة مخترع رجولي ليجعل المرأةَ مستمرة في الولادة. وهذا الرأي يضمرُ توجهاً نسوياً يحاججُ الأنظمة المجتمعية بتمظهراتها المختلفة. وهكذا تتابعُ أجزاء الرواية بأسلوب عفوي حيثُ يتم سرد الأحداث بالضمير الأول، وهذا مؤشر أولي لتداخل الرواية مع سيرة بلاث.
كما أنَّ الفراغ الذي يتركه رحيل الأب لدى إيستر يحيلُ إلى حرمان الكاتبة من رعاية والدها الذي مات حين كانت سيلفيا في السابعة من عمرها. وإنَّ قيام إيستر بالإهتمام بقبر والدها محاولة لإستعادة دفء الطفولة والشعور بالرعاية المفضلة على كنفه، وفي مفصل آخر تعبرُ البطلة عن رغبتها لكتابة رواية لكن تتساءلُ "كيف أكتب عن الحياة وأنا لم أعِش تجربة حقيقية ولم أنجب طفلاً لأهبه الحياة؟" ما يفهمُ من عبارة إيستر هو إدراكها لضرورة النضج العقلي والتجربة العاطفية قبل الشروع في كتابة العمل الروائي. 
وما يدفعُ هذا العمل نحو حقل السيرة الذاتية إضافة إلى العلامات المشار إليها آنفاً إشتراك بلاث لبطلتها الروائية الرغبة في الإنتحار إذ تجربُ إيستر عدة أساليب لإنهاء حياتها منها الشنق والغرق وتعاطي الحبوب وقطع الشرايين. هنا تلمحُ إيستر إلى سينكا الذي رأى في قطع الشرايين داخل حوض الإستحمام طريقة مناسبة للإنتحار وتبدي إستغرابها من أسلوب الإنتحار الجماعي لدى اليابانيين مقتنعة بأنَّ ذلك يتطلبُ شجاعة كبيرة كما تسألُ صديقه كال بشأن الموضوع نفسه معلنةً "كل شيء قرأته في حياتي عن المجانين علق في ذهني بينما تلاشت الأشياء الأخرى إلى الضياع". 
وبعد هذه المحاولات تكتشفُ إيستر طبيعة جسدها المراوغ وتمكنه من تفادي الموت. ويكون السردُ أكثر كثافةً عندما تتحول الراوية إلى الحديث عن الأيام التي تمضيها في المصحة وتتفاجأُ بإنتحار صديقتها جوان، والملاحظ هو غياب حياة عاطفية لدى إيستر وإن تواصلها جسدياً مع إيرون لم يكن إلا محاولة لمعرفة وضعية أخرى للجسد.
درج
يقعُ المتلقي على علامات تؤكدُ أن رواية "الجرس الزجاجي" سيرة ذاتية مكتوبة في قالب روائي إذا تابع وحداتها بموازاة فتح درج رسائل سيلفيا بلاث كانت الأخيرة على منوال بطلتها تكتبُ القصص ويساروها القلق من التعثر في الكتابة كما أنَّ تطلع إلى حياة غير عادية لدى الشخصية الروائية هو عنصر بارز في شخصية بلاث أيضاً. أكثر من ذلك فإنَّ التقلب بين الإنطوائية والمرح هو مشترك آخر بين سيلفيا بلاث وصنيعها الورقي إيستر هذا فضلاً على العلامات المكانية والمهنية التي تضعُ إيستر وبلاث على خط واحد. ما يعني أنَّ الرواية تتطابق في خطوطها العريضة مع وقائع حياة بلاث بما فيها محاولاتها المتعددة للإنتحار لكن الأهم في رسائل سيلفيا بلاث هو التفاصيل الدقيقة التي تسجلها حول علاقتها بالشاعر البريطاني تيد هيوز إذ تعطيه كل الحب، ولا تني عن وصف ذكائه وجاذبيته بل تدسُ ما كتبَ عن أشعاره في الرسائل التي تتبادلها مع أمها وصديقاتها وتعبرُ عن إعجابها الشديد بشكله وقسمات وجهه. تقولُ "إنه الشخص الذي إحتجته لكن لم أظن أنه يمكن أن يوجد".  

novel
المرأة لا تموت من الحب، لكنها تذوي بحثاً عنه

يمدُ هذا المناخ المشحون بالحب بلاثَ بالطاقة إذ تدرسُ في الجامعة وتتابعُ إنجازات تيد الإبداعية لكن ما قالته سيلفيا بلاث لأمها عقب لقائها بتيد قد حصل فعلاً "الشيء الأكثر تدميراً هو أننى في الشهرين الأخيرين واقعة في حب غامر الأمر الذي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى ضرر كبير". 
ما أن يطوفُ شبحُ امرأة أخرى بينها وبين تيد حتى ينسف الحب بين الاثنين، إذ تقول بلاث في إحدى رسائلها بأنَّ تيد هيوز يتمنى لها الموت وهو مدرك لما وصلت إليه سيلفيا من الإحباط والإنهيار العصبي لذا يترقب انتحارها ليبيع البيت ويحوزَ على الأموال وابنته فريدا. 
وما يعذبُ بلاث أكثر أن تيد هيوز كان يتمتعُ في لندن بشهرته برفقة عشيقته الجديدة آسيا، ويفل المرأة الماكرة حسب المواصفات التي تذكرها بلاث في رسائلها إذ عبرت ثلاثة رجال قبل أن ترتبط بتيد هيوز ما يثير السؤال لدى المتلقي هل انتحرت بلاث المحبة للطبيعة والحياة  نتيجة كآبة متأصلة في شخصيتها حيثُ تفصحُ عن ذلك على لسان بطلة "الجرس الزجاجي" لافتةً إلى توارث الكآبة في القرية التي نشأ فيها الأب أو بسب العنف الذي اتصفت به وانعكس في تعبيرها عن الحب أيضاً، إذ تعضُ تيد في أول لقاء يجمع بينهما "مملكة الله للعنيفين" على حد تعبير سيمون دو بفوار، وتقول إليخاندرا بيثارنيك "إنْ كنتُ أيَّ شيءٍ، فأنا العنفُ" أو أن كل ذلك غير صحيح إنما هروب تيد هو ما حدا بها لإختيار الإنتحار، وبذلك ردت على نيتشه الذي قال "المرأة لا تموت من الحب، لكنها تذوي بحثاً عنه". 
أخيراً ما يجدرُ بالإشارة أنَّ إيستر تنطقُ بجملة ذات دلالة عميقة "الإنسان الذي لا يتوقعُ شيئاً من أحد لا يشعر بالخيبة مطلقاً". كيف كانت طبيعة حياة بلاث لو مارست الحياة وفقاً لهذا المبدأ الرواقي.