الألوان تعالج ما تداعى في الإنسان

لوحة "زمن الكورونا.. الألم والأمل" للفنان التونسي محمد المالكي في شهر الفنون بمتحف قصر خير الدين.
الألوان ترمم ما انهار من جدار الروح تنشد الخلاص وتمدح براءة الأفعال
في تجربته الفنية يمنحنا محمد المالكي ممكنات تجوال ممتع في عالمه التشكيلي

لم تغب الفكرة الجمالية للفنان محمد المالكي بتقنياتها ورؤيتها عن لحظتها التاريخية ليقدم لنا في سياق تجربته مع الأحجام الكبيرة عملا فنيا مميزا عنوانه "زمن الكورونا .. لألم والأمل" ليشير بتخيره اللوني والتقني إلى فداحة الألم المفعمة بالأمل في زمن الجائحة، وما أضفته على الإنسانية من ظروف استثنائية وحيرة وخوف وانهيارات اقتصادية وإحباط. إنها لعبة الفن النبيلة تجاه الكائن والكون حيث لا مجال لغير الجمال قولا بالحلم والفرح والأمل.
إنها كذلك فكرة الألوان وهي تعالج ما تداعى في الإنسان ترمم ما انهار من جدار الروح، تنشد الخلاص، وتمدح براءة الأفعال. هي فسحة غناء عذب في ليل الإنسان تقول بالنور والخلاص.
اللوحة معروضة ضمن شهر الفنون لاتحاد الفنانين اتشكيليين بمتحف قصر خير الدين المتواصل إلى غاية يوم الأربعاء 31 مارس/آذار الجاري.
محمد المالكي وفي تجربته الفنية يمنحنا ممكنات تجوال ممتع في عالمه التشكيلي الذي تخيره ويواصل ضمنه دأبه بكثير من الحرص والاشتغال والحلم كيف يمكن للفكرة أن تنحت لونها المتشظي في الألوان. وهل يمكن للكينونة البوح بمعادن أحوالها دون نشيد. ثم كيف للذات الحالمة أن تنتشي بدواخلها لتصير اللوحة حالة من ترجمان المعاني الكامنة. 

في تلوين الفنّان محمد المالكي مجال جديد متجدد، مفتوح على اعتمالات الكائن وهو يشهد حالاته بشتى تلويناتها حالما متطلعا متشائلا منكسرا

هكذا تكون الرحلة حيزا من عذابات السؤال الفني والجمالي بحثا عن خصوصية ما. وهكذا أيضا تجتمع الأسئلة ضمن صياغة متأنية للسؤال الكبير وهو سؤال الهوية الفنية. من هنا تأخذنا الرغبة طوعا وكرها إلى عوالم فنان تقصد الرسم كعنوان قادم من العلاقة الأولى بين الأنامل والجلود ضمن مسار سنوات مع الحرفة. والحرفة هنا كانت التعلة والمجال المحيل على التعاطي مع الألوان لتكون اللوحة بالنهاية مجالا أوسع للقول ببلاغة الحرف في حياة الناس. الناس الذين يستبطنون ضربا من الحنين تجاه الجمال المعتق في تنويعاته ومظاهره. هذا الذي ينسبه البعض إلى - بل يسميه - التراث.
محمد المالكي هذا الفنان الذي جاء من مدن الشمال التونسي وتمرس بالحرف وسافر ضمنها مبكرا إلى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا حيث التربصات وامتلاك الخبرات في التصاميم والنماذج والديكور، إلى جانب فنون الموضة. قاده هذا النهج منذ السبعينيات إلى واحة اللوحة وظلال الألوان فغدا شابا عاشقا لفنون التشكيل وعوالم الألوان. بإحساسه المرهف تجاه الأرض وألوانها الملائمة تخير الفنان محمد المالكي ضربا من العلاقة الحميمة معها في تنويع تشكيلي ينهل من التراث باعتباره كونا من الخصوصية والملامح والتواريخ.
مسيرة فنية متعددة التلوينات من الهوية إلى التراث إلى المدينة، لتتواصل المغامرة في بحثها عن الذات في اشتغالاتها وأسئلتها المقترحة. تبرز أعمال الفنان محمد المالكي في مرحلة منها بمراوحاتها الجمالية التي تقول بالتراث والخصوصية المحلية من حيث اللباس والحلي والخلال والزخرفة والعلامات الدالة في المنسوجات، وكلها تجمع بين توق الفنان إلى الإصداح بحيز من المخزون كمحصلة وجدانية وثقافية وأحداث المتعة الفنية البصرية لدى المتقبل المتجول في تفاصيل اللوحات الذي يجد أشياء من أرضه وبالأحرى بلده تونس.
سبق للفنان المالكي تقديم العديد من لوحاته في معارض مختلفة فردية وجماعية بمواضبع وثيمات شتى بشأن التّراث والطّبيعة والمجتمع وخصائص تونسية من خلال تاريخها وتراثها ومناسباتها وتقاليدها. 
وتتعدد اللوحات لتذهب إلى ذات العنوان وهو الوجدان التراثي. كما نجد عملا على سبيل استذكار تجربة لفنان كبير راحل هو عم الهادي التركي، حيث كانت اللوحة ضمن عوالم تجربة التركي من حيث الألوان والخطوط والخصوصية.
إن محمد المالكي بهذا الخيار الفني، يبرز مكانة التراث في تجربته التي يقول عنها "... هي ثمرة هذا السفر الذي قادني إلى الينابيع، إلى ذاتي، ومن ذلك هذه الإفادة الكبيرة من الخبرات الفنية التي جعلتني أنتبه للفن ودوره الاجتماعي والثقافي...".
هناك لوحة أخرى تشير إلى المقاومة الفلسطينية وعبر الكولاج تسع مساحتها الشاب الفلسطيني الذي يقاوم بالحجارة وهو يحمل العلم الفلسطيني. وهنا مجال حميمي بين الفنان وانتمائه الوجداني لتظل فلسطين في القلب. وغيرها من لوحات أخرى بتقنيات مزدوجة تبرز جانبا مهما من مسيرة فنان عانق اللون وسافر مبكرا بحثا عن القيمة، والكيان والفن في حيز منه هو ذاك التأصيل للكيان ونحت الحلم.

fine arts
المتعة البصرية والمسحة الجمالية 

المكان.. لنعني المدينة وأحوالها الملونة بأحاسيس الفنان ونظراته الحالمة. ماذا لو صارت المدينة ملاذا للحلم والقول بالدواخل وهي تلهج بالصور التي هي بمثابة التفاصيل. نعم المدينة كون حلم ودهشة وتفاصيل حيث الفنان يصغي للايقاع الذي يحب بكثير من شهقات اللون والموسيقى الذافئة. 
مرة أخرى يشير الفنان محمد المالكي في عمله المنجز ضمن مرحلة جديدة إلى هيامه بالمدينة التي جعل لها غمامة حلم ملونة، هي قوس قزح لينعم الأطفال بالنشيد وبالغناء. وفي هذا الحيز لم يقطع الفنان صلته بالتلوين، فبعد الأعمال كبيرة الأحجام منها سيدي بوسعيد... وغيرها، يأتي عمل المدينة بقوس قزح في جمالية عرف بها في لوحاته وبتقنية مزدوجة يمنح الناظر شيئا من المجال ليرى ما تقترحه الألوان من ممكنات الحلم في مدينة لا يمكن إلا أن يسعد الكائن فيها. هي تونس أغنية القلب، عمل جميل فيه فسحة مريحة من بستان اللون ومتعة وسحر بعيدا عن تعقيد الراهن وضجيجه وقولا بالعميق والأجمل في الحلم الجغرافي لتونس.
نظرة للفنان المالكي تجاه الأنا الموزعة في جغرافيا الحنين، وفي سياق مواصلة التجربة التشكيلية والفنية مثلت هذه المرحلة طورا آخر من تجربة المالكي وفق أعمال منها لوحات «عرس في سيدي بوسعيد» و«تسونامي» و«عين دراهم» و«سيدي بوسعيد المدينة الزرقاء» و«الطبال والزكار والكرسي» و«العاصفة».. وغيرها.
وهذه الأعمال الجديدة مثلت تجربة مغايرة في مسار أعمال المالكي من حيث الروح التجريدية والمتعة البصرية والمسحة الجمالية للعمل على غرار «تسونامي» و«سيدي بوسعيد». وهنا نكتشف الممكنات الجمالية الجديدة للمالكي كفنان اهتم بتيمات التراث والخصوصية التونسية والجانب التقليدي في مظاهر الحياة التونسية ليعانق الأمكنة والمدينة منها كحالة جمالية وكما تخيلها شكلا ولونا وأسلوبا.
في تلوين الفنّان محمد المالكي مجال جديد متجدد، مفتوح على اعتمالات الكائن وهو يشهد حالاته بشتى تلويناتها حالما متطلعا متشائلا منكسرا. وما إلى ذلك من عناوين دأبه في عالم متغير.