ملك مختار في تجربة جديدة مع الأطفال اللاجئين السوريين
كانت تراودها فكرة أن تعرض أعمالها على مقبرة الشاعر الكردي الأميز شيركو بيكس مذ قرأت وصيته : "اتركو فسحة للفنانين كي يعرضوا لوحاتهم على مقبرتي"، ولهذا حين جاءتها الدعوة لإقامة معرض فردي في السليمانية في كردستان العراق لم تتردد في القبول، وكان ذلك ولاقت النجاح على أكثر من صعيد، إن كانت في الجماهير التي بقيت تواظب على الحضور على إمتداد أيام العرض ( 26-31-08-2021 )، أو في التغطية الإعلامية والإهتمام الكبير، أو في السير في إنجاز مشروع كانت تشتغل عليه. فالمعرض الذي حمل عنوان (الصمت المباح) والذي أقيم في متحف الأمن الأحمر الوطني في السليمانية كان بحق اكتشافاً لتحولاتها الخاصة نحو إعتبارات متماسكة فيها من الجانب الخيالي ما كان حاسماً، إكتشافاً لفضاءات فيها من التقاطعات التي تفسر وعيها المعرفي والإبداعي بتلك الوقائع وكائناتها والتي تحاكي العديد من الأبعاد الجمالية في رحلة بحثها هذه دون أن تكف في تغيير ملامحها في نمط تعمل عليه، أقول لم تذهب فكرة ملك مختار في عرض لوحاتها على مقبرة بيكس من بالها، بل اشتعلت هذه الفكرة وأومضت حين زارت معرضها مجموعة من الأطفال برفقة ذويهم وحولوا المكان إلى صور قائمة عليهم وكأنهم في نزهة يستباح لهم الأمكنة كلها، يتلقفون الكلام محتمين بقسماتهم التي رسمت برغبة الخروج من دوائر المجاز التي أحيطت بهم، منتشيلين الإستعارات المتعارفة عليها من مآزقها، نعم أومضت فكرتها، وصاحت في نفسها وجدتها، تقليداً لنيوتن حين سقطت التفاحة على رأسه وصرخته المعروفة وجدتها، نعم وجدت مختار ما يترجم الفكرة والوصية معاً، فكرتها ووصية بيكس، ستجمع الأطفال السوريين اللاجئين في الحديقة التي تضم رفات بيكس (حديقة آزادي).
وعلى إيقاعات قصائده ستنفذ مع الأطفال عملاً فنياً بقياس كبير يشارك جميع الأطفال في رسمه وهي معهم، وهكذا كان، ففي ظهيرة يوم 2-09-2021، كان شيركو بيكس بإنتظارهم ، وكان الجو حارقاً، فشمس الصيف في هذه المدينة تشعل إحتواءاتها كلها.
وبدأت العائلات السورية مع أطفالهم يزحفون نحوها، حتى كانت لحظة الجد و المرح، لحظة الإبداع والفرح، لحظة طفولة تسحر الألباب، فبسطت المساحات البيضاء على الأرض ووزعت ألوانها وريشها على الجوانب تاركة حرية الإختيار للأطفال، وبدأ الجميع يعزف باللون، وهي تعزف معهم وتتركهم على سجيتهم، وعفويتهم، تلك العفوية التي لم نعد نراها منذ عقد من الزمن وأكثر.
وبدأت البسمات تتحرك في رحابهم، و كل متعلق بفرشاته وألوانه ولا سبيل من تحويلهم إلى جزء من اللوحة، يرشقون المساحات البيضاء بمتعة كبيرة تاركين أثر الرشقات على ثيابهم وعلى أصابعهم ووجوههم، فالأمر لهم لعبة لم يعتادوا عليها، لعبة بها ينشدون الفرح والجمال في زمن قل ذلك، لعبة في غاية العذوبة يمارسون فيها براءتهم، والقهقهات التي كانت سجينة أقفاص صدورهم جاءت من تخرجها بحب وفرح، فبدأت بالخروج وهي في أشد حماسها.
بدأت تمتد لا في سموات عوالم بيكس ومقبرته وحدها، بل في سموات حديقة آزاد، بل في سموات السليمانية كلها حتى تبللت بهم، وكأنها معزوفات متعارفة عليها تبث وكأنها إحدى صور بيكس الشعرية، القائمة على نوع من الصور ذاتها التي يكشف عن دلالاتها وكأنه يحاول جاهداً أقصد بيكس أن ينتشل صوته من بين التراب علّه يستعيد دفقة مجازات تعصف بالكفن مخاطباً ضيوفه اللاجئين بأنهم ليسوا وحدهم باتوا غرباء، بل العالم برمته يشاركهم في غربتهم تلك، فالكل بات غريباً عن الكل :
لست غريب الدار وحدي
فالدار غريبة حارتها
الحارة غريبة مدينتها
المدينة غريبة بلادها
البلاد غريبة العالم
العالم غريب الكون
ملك مختار الموسيقية والتشكيلية التي حلت ضيفة على مدينة السليمانية بدعوة رسمية، والقادمة من بلاد الصقيع ها هي تحل ضيفة على شيركو بيكس مع اللاجئين من أبناء ملتها لتقول ومع الأطفال ما قالته في كل أعمالها وحياتها: بالحب يبنى الإنسان، وبه يبنى الأوطان، و به ينجب الجمال ليزرع في كل مكان يتواجد فيه، فهو عابر للقارات وللقوميات، للأجناس والمحيطات، فهو يحتل أديم الحياة من كل مواضعه، ولا يتلاشى بل يزرع وينمو ويعاش، بل ويوظف واقعاً ولمحاً وإيماء .
بدأت الشمس تغيب، و بدأت العتمة تفرش عباءتها، والعمل لم ينته بعد، و مازالت مختار والصغار يلعبون ويلونون المساحات البيضاء التي أكلت العتمة بعضها، وحدها أضواء قلوب الصغار تنير المكان حتى يكتمل المشهد الذي لم ينته من سرد حكايته وكأنه يقول : حكايتي طويلة، طويلة جداً قد تحتاج إلى مليون ليلة وليلة لتروى .
هذه التجربة جديدة وجميلة في الوقت ذاته، تجربة تضاف إلى رصيد ملك مختار وهي التي تمضي كينبوع رقراق، لا تكل ولا تمل من رش رذاذها العذب لتجميل كل ما تمر به، تجربة ما إن تغادرها حتى يبرح بها الشوق يقض روحها وقلبها الحنين لتعود إليها مستدعية شعر بيكس ليحملها نحو الذرى الجمالية التعبيرية التي تنشدها والتي تمضي بها إلى السماء العاشرة لتبني الحقيقة التي أعلنت عنها، ويمضي العمل الفني الذي أنجزتها مع صغار بلدها إلى جدار في المحافظة (محافظة السليمانية) لا ليزينه فحسب بل ليروي حكايته تلك التي لما تنتهي بعد.
وحدها ضحكات الصغار ورجفات قلوبهم وأضواء عيونهم تبقى لتحوم في المكان علها تبعد شبح الليل عن شيركو بيكس وروحه وهو يلقي قصائده وحبه وصلواته عليهم ولهم :
رسمتُ طائراً
وجعلت من "كلمة" رأساً له
وجعلت من "نبلة القلم" منقاره
ومن "حفنة تراب" جسده
ومن "وتر" رقبته
ومن "حبّة زيتون" قلبه
ومن "العُشب" ذيله
ولكنه لم يطِر
حتى جعلتُ من فرشاة ڤان غوخ
جناحا له .
.. حين كبرت
رأى معصم يدي اليسرى
كثيراً من الساعات
و لكن قلبي لم يفرح بها
بقدر فرحته
حين كانت أمي تعض معصمي يدي
اليسرى
وتصنع بأسنانها
وأنا طفل
ساعتها على يدي