الملائكة تطارد ريشة تيسير رمضان

مفردات الصمت، الحلم، التأمل، الأنثى، الأمل تشغل أفكار تيسير رمضان ابن اللاذقية وتكاد تختزل روحانياته بتنوعاتها الغنية وبخبراتها الجمالية غير الظامئة.
تصورات تيسير التعبيرية تأتي بعد مخاض من الواقعية والإنطباعية والتجريدية

الصمت، الحلم، التأمل، الأنثى، الأمل، التفاؤل، الحب، هي مفردات من هِيَم أفكار تيسير رمضان (اللاذقية 1990) ، هي مفردات تكاد تختزل روحانياته بتنوعاتها الغنية، بخبراتها الجمالية غير الظامئة إلا إلى قطرات صغيرة من التعاطف بينها وتلك الإستطالات العذبة المتعلقة بموضوعات ليست غائبة عن الحواس وبين تلك الأفكار المترابطة والمتقاربة زمكانياً رغم التفاوت في عواطفها وإنفعالاتها التي تقوم بالأساس بالتوجه إلى الآخر.
 ولأجل المزيد من التعميق في نماذجه الجمالية لا بد من التسلح برهافة ذوقية تقينا من الإنزلاقات والتحيزات.
 وهذا يستدعينا ألا نفوت كل ما يقع تحت مجهرنا مهما كانت صغيرة أو كبيرة، رغم يقيننا بأن ما نقدمه ليس حكماً عاماً على جمال العمل أو عدم جماله، بل هو إختبار لإنفعالاتنا التي تنفلت منا غائراً في العمل علها تجلب لنا جمالاً روحياً خاصاً مع مزيد من الجوانب الإدراكية الغامضة لبراعته في الأداء والتكوين، دون أن ننسى أن المتعة التي نستمدها منها (من العمل) والمرتبطة إلى حد كبير بعواطفنا وإنفعالاتنا الداخلية هي المقام الأول الذي ينبغي أن نطوف حوله.
 وهي التي مع مرور الزمن تكسبنا رهافة ذوقية عالية المعتمدة أصلاً على الخيال أولاً، والذي عليه يترتب لا إحداث المتعة فحسب بل الخروج بسلات متنوعة من ثمار مختلفة في الطعم، وعلى الملكة المعرفة بمزوداتها الكثيرة ثانياً والتي عليها تقع إكتشاف طبقات جديدة من المعنى للعمل وهي إكتشافات تعمق المعنى الأصلي بجهة ما.
 وهنا لا بد من حضور الذوق أيضاً مع معياره، أو بلغة أخرى عليه أقصد على الخيال والمعرفة تقع إستنباط المعنى وتعدديتها، كما تقع عليهما حضور جوانب التأثيرات الموضوعية الخاصة بالعمل الفني ذاته.
 وهنا قد يكمن السر الذي يقف خلفه التعدد في قراءة العمل فكل إنسان يفسره بالمعنى الذي يروق له، وما يماثل هنا في أهميته وتكامله تلك الإستطالات وما تثيرها من إحساسات جمالية خاصة غير متطابقة لدى جميع البشر، إحساسات جمالية غير قابلة للتفسير، قد تتمثل إحدى خطواتها في ثقافة المتلقي وما يحمله في جعبته من نظريات جمالية أو من قيم معرفية توفر له طرق الأصول بمتعة وسرور بمعناهما الإنفعاليتين لميادين جد مميزة، ميادين لا تحتاج إلى العودة خلفاً لفهم تصوراتها، فالجميل والجليل فيها أنها ميادين تحمل كل مقومات حضورها.
 ومن خلال تلك المقومات نستطيع أن نحدد المفاهيم والتي بها سنسبر العمل الفني وبنيته الداخلية، بل بها نحيط بالعمل الفني في الإتجاهين الأفقي والرأسي (العمودي) ، فنتعرف مع المتلقي على النقاط الإرتكازية الأساسية فيه وفي تكويناته والتي لا يمكن أن تكون كاملة حسب تعبير الكاتب الألماني رودولف أرنهايم (1904-) ما لم يوضع حضور المتلقي في الإعتبار.
 أنه يؤكد لنا قوله المعروف "إن مسرحاً بلا جمهور مسرح لا قيمة له" وفي إشارة إلى الرؤية بوصفها توترات داخلية موسيقية تتجلى من خلال الخصائص الأولية للعمل الفني كالشكل واللون والحركة فهي تمنح كل جوانبه أوزاناً إدراكية مختلفة تساعد في فهم العمل وما يحيط بعوالمه. 
يؤكد تيسير رمضان على أن هناك دوافع ذاتية في أكثر الحالات التي يجنح إليها بريشته، دوافع تظهره مرتبطاً بعمله إلى درجة يرمي ذاته في العمل بما فيها صورته مهما كانت الشخصية التي يرسمها رجلاً كان أم إمرأة، فيطلق فيها سراح ملامحه بعلاقاتها المفعمة بالمعاني.
 وهذا يسمح له بإبراز مهاراته على نحو أكثر فاعلية، حتى تحظى بمكانة أعلى مقارنة بما يعمل عليه وفق تقديرات مرتفعة تمنح عمله تقييمات مرتفعة وفق جماليات إيجابية، وحين يفعل رمضان ذلك أقصد حين يرسم وجهه لا ليزخرف بها أحكاماً ذاتية قد تكون ضحلة إذا إكتفينا بذلك، لكن كشكل من المحاكاة الفنية بين داخله وخارجه، أو كشكل لتأجيج الإنفعالات القوية، وهذا يضمن له إسهاماً إيجابياً في التطهر من الإنفعالات السلبية، وقد تكون ذلك وسيلة للوصول إلى المعرفة الجمالية وعرضه لحقائقها الفلسفية، أو لإثبات تلك الحقائق عند مستوياتها المختلفة والمتباينة، كتمهيد لأفكار حديثة يريد سربها في عمله الفني وسردها لنا لاحقاً ضمن القراءات المتعددة للحقيقة الواحدة، وضمن تعدد التأويلات و تداخلاتها، وبدرجة تضمن لها أن تكون مشبعة ومقنعة في ذاتها وكأنه يريد الإقتراب من مقولة أرسطو ويؤكد معه بأن العمل الفني الجيد يشتمل على إكتمال في الشكل وإعتدال في الأسلوب.
 فهناك بالفعل عنده ما يحاكي الأشياء الجزئية في مظاهرها وهذه تسجل له لا عليه، بطبيعة الحال حين تبدأ نغمات رمضان بالعلو فهي تعني بأنه يحاول من خلالها عبور الفجوات التي تعترضه متكئاً كثيراً في إختزالاته على ميكانزمات داخلية موجودة في دواخله تتفق إلى حد كبير بالأسس التي تقوم عليها خبرته وهذا إسهام آخر يسجل له . التصورات التعبيرية التي نلتقطها من أعماله الفنية لم تولد ولادة قيصرية بل جاءت بعد مخاض طويل نسبياً من الواقعية والإنطباعية والتجريدية، تصورات مفعمة بروحانيات تذكرنا بتلك الأيقونات التي تفوح من معابدنا الشرقية، حتى أننا نسلم مباشرة بأن وجوهه أيقونات للسيد المسيح و أمه مريم.
 وهي مصاغة وفق قوانين الترابط الكامنة في أرواحهما وإن كان يكثف التركيز على الذاتي لا لشخصنتها بل للإقتراب أكثر من المفاهيم الإنسانية ومن الروحانيات المتراكمة فيها وبتفاصيلها الدقيقة والصغيرة، فكل شيء عنده يتعاطف مع ممارساته العميقة للطقوس الداخلية والتي تشكل ثراءه المعرفي الجمالي الذي يمنح تشكيلاته صياغات جد متميزة والتي تساهم إلى حد كبير في التشكيل الإنساني له.
 نعم كل شيء عنده يتعاطف مع حلمه الجميل الذي سيطعم الخبز والروح له، ولنتاجه الإبداعي أيضاً.
 تيسير رمضان مشدود بقوة للإنسان الذي يواجه دواخله والتي هي على شكل لوحة يخرجها إلى السطح بمعالجات لونية أو ضوئية وبحركات يهز هذا السطح، بل يضجه بأحلام تتحرك كحقائق غير خطرة، كحقائق حساسة في مواجهة التوترات النفسية العميقة.
 وهذا ما يجعل تحولاته تأخذ في إتجاهات ومضامين مختلفة لها ظروفها الممزوجة بتلك الأحلام وما تحمله من رموز تفرض نوعاً من التعبيرية المتحررة أو المتمردة بصيغة أخرى، فرمضان يقبض بسهولة أكثر عليها حين يشتغل في مساحات لها أهميتها والتي تجعله يتفرد شكلاً ومضموناً في إستثمارها بوجوهه الملائكية والتي تمارس صمتها، حلمها، أملها، حبها، .... إلخ بإثارات خاصة تحمل كل مقولاتها بدلالاتها وبمسؤولية مغلفة بصرخة تكاد تكون البروشور التعبيري لكل ما يجري في هذه الأرض.
 فقط أحب أن أشير بأن رمضان أبدع باللجوء إلى السمكة مثلاً حين أراد الإقتراب من رموز جمالية كالعشتار مثلاً سعياً للإرتقاء الأنثوي والإنساني كما يقول ونقول نحن معه، و لكني  أختلف معه باللجوء إلى الورود مثلاً لإظهار ذلك، بل تلك الورود تحولت إلى عبء للوحة تجرها إلى رومانسية مصطنعة ومستهلكة، بل تكاد تهد كل الخصوصية التي تعب رمضان في صياغتها والوصول إليها، وقد أكون غير مصيب في ذلك، هي وجهة نظر أو قراءة بعيون مختلفة .