
برنارد ماندفيل في ثلاثة أعمال مترجمة لأول مرة
مرة أخرى بعد سبع سنوات عاد المترجم عبدالرحيم يوسف إلى الفيلسوف الإنكليزي برنارد ماندفيل! حيث كان اللقاء الأول في عام 2014 حين ترجم له كتاب "ثلاث دراسات حول الأخلاق والفضيلة" الذي ضم ثلاثة مقالات طويلة لماندفيل هي: "بحث في أصل الفضيلة الأخلاقية" و"بحث في طبيعة المجتمع" و"مقال عن الخيرية والمدارس الخيرية".
نُشر الكتاب في سبتمبر/ايلول من نفس العام، وفي عام 2017 حصل عن ترجمته له على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب فرع ترجمة الأعمال الفكرية لعام 2016، حيث تُقدم الجائزة في العام التالي على عام التقديم لكنها تحمل رسميا تاريخ عام التقديم.
وفي عام 2017 أيضا صدرت طبعة أخرى للكتاب ضمن مشروع مكتبة الأسرة في الأردن.
في ترجمته الجديدة لماندفيل اختار له عبدالرحيم يوسف ثلاثة أعمال: قصيدته الشهيرة (أمثولة النحل) التي أثارت ضده هجوما عنيفا ودفعته لكتابة الكثير من مقالاته ودراساته ردا على هذا الهجوم، والعمل الثاني مجموعة من الأمثولات التي كتبها ماندفيل تحت عنوان "في ثوب إيسوب" في إشارة إلى ذلك الكاتب الإغريقي الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد ونُسبت إليه تلك الحكايات المسماة بـ"خرافات إيسوب" ويقال إنه وُلد عبدا ولم يكتب الأساطير بنفسه لكنها أصبحت جزءًا من التقاليد الشفوية لتلاوة القصص المدونة في آخر الأمر من قبل معاصريه. يكتب ماندفيل تسعة وثلاثين أمثولة أو حكاية خرافية ويعترف في مقدمته أن اثنتين منهما فقط من إبداعه والبقية هي معالجة صاغها شعرا ونثرا مسجوعا في أغلبه لحكايات إيسوب.
أما العمل الثالث فهو "رسالة إلى ديون" وهو آخر ما نشره ماندفيل، وجاءت هذه الرسالة ردا على كتاب "ألسيفرون، الفيلسوف الدقيق"للأسقف بيركلي تحت اسم مستعار "ديون"، والذي حملت إحدى محاوراته هجوما عنيفا على ماندفيل وكتابه أمثولة النحل.
يدافع ماندفيل هنا عن نفسه وعن كتابه ويوضح أفكاره ومقاصده بطريقته الساخرة واللاذعة والجادة كذلك.
ويشير عبدالرحيم يوسف في مقدمته للكتاب الجديد المعنون بـ"رسالة إلى ديون" الذي صدر عن دار صفصافة وضم هذه الأعمال المشار إليها سابقا، مقتبسا من مقدمته كتابه السابق"ثلاث دراسات حول الأخلاق والفضيلة" الجزء الخاص بالتعريف بماندفيل مع بعض التعديل، يقول "برنارد ماندفيل أو برنارد دي ماندفيل هو فيلسوف وعالم اقتصاد سياسي وكاتب ساخر هولندي وُلد في روتردام "وفي رواية أخرى دوردريخت" في الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1670، وعاش أغلب حياته في انكلترا وكتب ونشر معظم أعماله بالإنكليزية".
ويتابع "رغم أن ماندفيل كان طبيبا محترما إلا أنه لم يكسب الكثير من عمله كطبيب، وعاش حياة متقشفة على معاش منحه إياه بعض التجار الهولنديون وما كان يحصل عليه من مُقطِّري الخمور نظير دفاعه عن فائدة المشروبات الروحية.. أشهر أعماله هو كتابه "أمثولة النحل" الذي كانت بدايته قصيدة شعرية حلمنتيشية من مائتي مقطع بعنوان "الخلية المتذمرة أو المحتالون ينقلبون شرفاء"نشرها عام 1705 في كراسة من عشر صفحات بيعت بستة بنسات، وتُصوِّر جماعة من النحل تزدهر أمورها وتتطور حتى تغدو كلها فجأة شريفة وفاضلة، لكن مع انعدام رغبة أفرادها في المكسب الشخصي ينهار اقتصاد الخلية ويلجأ الباقي من النحل إلى جذع شجرة مجوفة ليعيشوا حياة بسيطة، في إشارة ضمنية إلى أنه بدون الرذائل الخاصة لن توجد منافع عامة. ثم أعاد نشرها عام 1714 كجزء تكميلي لكتابه "أمثولة النحل أو الرذائل الخاصة والمنافع العامة" الذي اشتمل على تعليق نثري بعنوان "الملاحظات" ومقال "بحث في أصل الفضيلة الأخلاقية".
وفي طبعة لاحقة ظهرت عام 1727 تضمن الكتاب "مقال عن الخيرية والمدارس الخيرية" و"بحث في طبيعة المجتمع".
أثار الكتاب اعتراضات قوية حتى أنه خضع لدعوى قضائية عام 1729 بتهمة النزعة غير الأخلاقية. واعتبرته هيئة المحلفين الكبرى في "ميدلسكس" كتابا مزعجا، وهاجمه العديد من الكُتَّاب في الصحف ثم في فصول من كتبهم. ومع ذلك ظل الكتاب يُطبَع وظهرت الطبعة التاسعة منه عام 1755 وطُبع بعدها كثيرا. وقد وصفه المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت في مجلد عصر فولتير بموسوعة قصة الحضارة بأنه أقذع ما كُتب من تحليلات للطبيعة البشرية".
ويضيف عبدالرحيم أن فلسفة ماندفيل أثارت الكثير من الاستياء في زمنه، وكثيرا ما وُصمت بأنها زائفة ومتشائمة ومخزية. وكانت فرضيته الأساسية هي أن أفعال البشر لا يمكن تقسيمها إلى أسمى وأدنى، وأن حياة الإنسان الأسمى هي مجرد خيال خلقه الفلاسفة والحُكَّام لتبسيط مفهوم الحكومة والعلاقات في المجتمع.
وأن الفضيلة "التي يُعرِّفها ماندفيل بأنها كل أداء يسعى به الإنسان – بالمخالفة لبواعث الطبيعة – إلى فائدة الآخرين، أو إلى إخضاع عواطفه الشخصية من منطلق طموح عقلاني لأن يكون صالح هي في الحقيقة معيقة لتقدم الدولة التجاري والفكري، لأن الرذائل ـ مثل أفعال البشر التي تراعي صالحهم الشخصي فقط ـ هي التي تدفع المجتمع نحو التقدم عبر الابتكار وتدوير رأس المال في البحث عن الرفاهية والحياة الفخمة. وهكذا تكون الرذائل الشخصية سببا يؤدي إلى المنافع العامة.
وتبدو وجهة نظره أكثر حدة عند مقارنتها بآراء آدم سميث (1723 – 1790). فكلاهما يؤمن بأن أفعال الأفراد الجماعية تجلب المنفعة العامة، لكن ما يفصل بين فلسفة الاثنين هو العامل المحفز لتلك المنفعة. فبينما كان سميث يعتقد أن وراء هذا التعاون غير المرئي اهتمام شخصي ذو طبيعة خيِّرة.
رأى ماندفيل أن ما يدفع نحو ذاك التعاون هو الطمع الشرير وذلك إذا تم توجيهه بشكل سليم. هذا الاشتراط الخاص بالتوجيه السليم هو فرق آخر بين طرح ماندفيل وموقف سميث المنادي بحرية السوق والمتمثل في مقولته "دعه يعمل دعه يمر". فماندفيل بشكل أساسي يدعو السياسيين لضمان أن تؤدي العواطف والميول البشرية إلى المنفعة العامة.
كان اعتقاده الذي ذكره في خرافة النحل هو أنه "من الممكن عبر الإدارة الحاذقة لسياسي ماهر أن تتحول الرذائل الشخصية إلى منافع عامة". كما كان ماندفيل من أوائل من تكلموا عن تقسيم العمل، وقد استفاد سميث من بعض أمثلته في معرض حديثه هو أيضا عن تقسيم العمل.

ويرى أن آراء ماندفيل كانت صادمة للرأي العام، ولم تفلح كتاباته الأخيرة "أفكار حرة حول الدين 1720" و"بحث في أصل الشرف وفائدة المسيحية 1732" في أن تقلل من حدة هجوم منتقديه.
وفي الوقت الذي تبدو فيه مفارقات ماندفيل الساخرة شيقة بشكل أساسي لانتقادها المثالية (اللطيفة) للورد شافتسبري، فإنها تبدو كذلك أكثر حيوية عند مقارنتها بالأنساق الفكرية الجادة والنرجسية لمفكرين مثل توماس هوبز (1588 – 1679).
لا يمكن إنكار أن ماندفيل كانت له بصيرة فلسفية كبيرة، لكنه في الوقت نفسه كان انتقاديا وهداما إلى حد كبير، وكما قال هو نفسه أنه كان يكتب "من أجل إمتاع أهل المعرفة والعلم". ويمكن القول عنه باختصار أنه أزاح العقبات من أمام مذهب النفعية القادم من بعده. وقد توفي ماندفيل في 21 يناير/كانون الثاني 1733 عن 62 عاما بعد إصابته بالأنفلونزا. والجدير بالذكر أن الفيلسوف والاقتصادي النمساوي الشهير والحاصل على نوبل عام 1974 فريدريش فون هايك (1899 – 1992) أشاد كثيرا بأفكار ماندفيل عن المجتمع والسياسة في كتابه (القانون والتشريع والحرية 1974).
ويلفت عبدالرحيم يوسف"سعيت في ترجمتي لقصيدة أمثولة النحل إلى الحفاظ على وجود القافية التي تتغير كل بيتين غالبا كما في الأصل، وقد حاولت جاهدا أن يكون هذا ضمن حدود المعنى والمبنى للنص الأصلي. وفي ترجمتي للأمثولات تخففت غالبا من سجعها ملتزما بالمعنى إلا إذا جاء السجع دون تكلف محاولا الاقتراب من أسلوب الكاتب المفضل في كتابته للحكايات. وجاءت ترجمة الجزء الثالث دون هذا الجانب غالبا لكونها مقالة لم يسع ماندفيل لتسجيعها ولا تقفيتها، وإن استمرت جمله الطويلة وطرائقه البلاغية الملفتة وحس الدعابة الغالب عليه رغم جديته. وفي هذا أرجو أن أكون قد أوفيت الرجل بعض دينه وما سببه لي من سعادة من حيث لا يدري!".
مقتطفات من: التنّينان، أمثولة
منذ زمن ليس بالبعيد جاء سفير الترك العظام إلى الإمبراطور وامتدح قوة سيده، التي تتجاوز قوة الألمان. أحد أفراد الحاشية، عاشق لبلده، قال متفاخرا إن جلالة إمبراطوره لديه أمراء كثيرون تحت إمرته، أقوياء جدا لدرجة أن كل واحد منهم بإمكانه أن ينهض بجيش وحده، وأكثر مما يمكن لشخص يلبس تاجا. فقال الآخر: أعلم جيدا أن دوقاتكم وقواكم الانتخابية، مع أشياء أخرى، هي ما تدفع قُدُما مجد الإمبراطورية. لكني سأحكي لك قصة: حلمتُ أني رأيت وحشا مخيفا، له مائة رأس على الأقل. في البداية جفلتُ لمرآه ووجب قلبي، لكن سرعان ما تعافيت من رعبي. جازفت بالتقدم، وعندما اقتربت منه، وجدت أنه لم يكن لديّ عذر في الخوف منه: لأن كل رأس كانت تفعل ما يحلو لها، بعضها يعمل بكل ما أمكنه من قوة، لكن أغلبها راقدة متكومة. وبدت كما لو كانت نائمة، بينما الأخرى، على أمل الحصول على فريسة أفضل، كانت تشد نفسها في طريق آخر تماما. أدرت رأسي وتلصصت. على الجانب الآخر كان وحش جبار: زينت رقبته المفتولة العضلات رأسٌ واحدة، لكن مائة ذيل حمت ظهره. وبينما كانت المائة رأس تزحف سائرة على الأرض، كانت الأذيال تتبع الرأس الواحد منصاعة لأمره، قاطعة الرؤوس في كل مكان. استيقظت، وفكرت أن الوحشين كانا إمبراطوريتين، لكن الأذيال لنا، وكل الرؤوس المجيدة لكم.
الذئب والكلب
ذئب مسكين وهزيل على نحو جدير بالشفقة عظامه نفسها برزت من جلده. (وهي علامة على أن الكلاب كانت يقظة). قابل كلبا متينا من فصيلة الدرواس، كلب أملس الشعر وسمين. السيد الذئب، المنتقم من خصومه، كان ليقتله -كواحد من هؤلاء الذين أعاقوه عن سرقة الماشية- لكنه خاف من الالتحام في معركة مع خصم بدا كما لو كان بمقدوره أن يصارع فحل جاموس، ويقيم عليه حفلا طيبا. ولذلك أولى كامل انتباهه بطريقة ذليلة للكلب، وتحدث بلين شديد، وباح بحمولة عربة من الشكاوى عن كونه على هذا الحال، رغم خاصرته القوية ووجهه الظريف. أجابه الكلب الدرواس: سيدي الذئب، يمكنك أن تكون سمينا كأي ظبية، فقط لو اتبعتَ نصيحتي. لأني بإخلاص أعتقد أنك لست حكيما. أن تتجول رائحا غاديا في غابة، حيث لا يوجد شيء طيب تناله، لا لحم صدقة، أو لقمة حتى يطيب أكلها. لكن ما تناله القوة المحض، تدفع ثمنه في النهاية بالتبعية. ولذلك أنتم وزوجاتكم العجفاوات وأطفالكم الضامرون لا تعيشون إلا حياة بائسة، على خوف دائما من أن يمسكوا بكم. إلى أن تموتوا جوعا كالعادة أو يطلقون عليكم الرصاص. قال الذئب: دلني على سبيل للرزق، وعندئذ فليأخذ الشيطان الغابة، فأنا دائما في حاجة إلى طعام أفضل، وسأكون سعيدا لو أكلت في هدوء. لكن من فضلك، لو سمحت، ما العمل؟ - لا شيء، إلا ما هو سهل للغاية؛ أن تنبح في وجه الأشخاص الذين يبدون فقراء، وتطرد المتسكعين اللصوص بعيدا عن الباب، وبعد ذلك، وهو الموضوع الأهم، أن تهز ذيلك وتلاطف وتداهن أفراد العائلة. في مقابل هذا سيعطونك مائة نوع من اللطائف: مثل عظام الدجاج، وخواصر الضأن المسلوقة، تلك التي يطيب دائما غرز الأسنان فيها، ولعق الطبق المدهن. وكل الأطايب التي يمكن أن يتمناها القلب. وعلاوة على ذلك، سيعانقك السيد، ويبصق في فمك، و – باركتك السماء يا سيدي الطيب، دعنا نذهب فورا، هكذا أجاب الذئب، وبكى من الفرح. انطلقا، ورغم أنهما سارا بسرعة، إلا أن الذئب لمح هنا وهناك موضعا في عنق الكلب الدرواس، حيث بدا ناصحه الكلب قد فقد بعض الشعر، فقال: من فضلك أخي الكلب، ما هذا؟ لا شيء. لا، قل لي، ما هذا؟ تبدو أشبه بقرحة. ربما هي من طوقي. أفهم من هذا إذًا أنهم يربطونك في البيت. نعم. لا أميل إلى هذا، أم أنه يرتخي عندما ترغب في ذلك. في الحقيقة ليس دائما، لكن ما هذا؟ ما هذا؟ قال، الفأر يلعب في صدري، إن حريتي كنز كبير، ولن أقايضها بأي متعة دنيوية. وعند هذا فر الذئب، وما زال يفر إلى ما لا أعلم.
الضفدع
ثبَّت ضفدع عينيه الطموحتين على ثور، معجبا بحجمه، وانطلاقا من جرمه الصغير كبيضة، سعى لأن يصبح كبيرا مثله. نفخ نفسه، ونفخ، ونفخ، ومع كل خطوة كان يصرخ: حسنا يا أخي، هل تضخمت بما يكفي؟ ألم أصبح كبيرا مثله؟ يالها من تخمة! من فضلك انظر مرة أخرى. لا شيء على الإطلاق! والآن. لم تقترب من حجمه بعد. ومرة أخرى ينفخ نفسه، وينفخ بسرعة كبيرة، إلى أن انفجر في النهاية، بعد أن شد جسده أكثر. هكذا يمتلئ بالتكبر كل عصر! المواطن لا بد أن يكون لديه خادم، وللأمير التافه سفراء، وللتجار مربو أطفال. شخص لا يساوي قملة، لكنه يحتفظ بمركبته وبيته الريفي، تاجر منفوخ بالعجرفة، يبدو أكبر مما هو عليه بعشر مرات يشتري كل شيء ويستغل صديقه كأن رصيده لا ينفد. وأخيرا يتمدد بقوة عتية، حتى ينفجر كالضفدع بالتبعية. وتكتشف من خواء جلده، أنه لم يكن مليئا إلا بالهواء.