سفيان جلال يعبر عن ذاته دون قيود

خارطة طريق المشهد البصري لابن مدينة السليمانية تبدأ بالتأملات لتجعلنا نستعيد لغته الأكثر إنسيابية والأكثر إنسانية والأقوى دلالة وسط مراهنته على تجاوز المألوف في تجربة غامضة في الكثير من أجزائها.

المشهد البصري الذي يقدمه سفيان جلال إبن مدينة السليمانية في كردستان العراق مشهد مغاير تماماً عن كل المشاهد البصرية التي يقدمها مجايلوه، مشهد غير مألوف وإن كان يحتفظ بمركزيتها ضمن بنيتها الشاملة، فهو يشق طريقه بتحويلات حادة تبرز في تأملاتنا لكشوفاته، تلك الكشوفات التي تكاد تهز المنظومة المتداولة، إن كانت المعرفية منها بوصفها الرابط في ميلها الطبيعي في إستثمار إنكشافاته التي يسعى بها نحو ردم القيود والتخلص منها، أو التقنية منها بوصفها حاكمة لحقوله كلها، وإطلاق العنان لريشته لتملي الفضاءات بالمعنى والقصد وبكل ما يمكن أن يتجاوز به النظام الزمكاني.
 فالإمتياز المعطى لتجربة جلال لا يهدف إلى عزل تجارب الآخرين أو الإقتناص منها، فلكل تجربة لغتها تحمل مفرداتها الخاصة وبلكنات خاصة تؤسس لذاتها ما لا يهدر ولا يقوض وهي تسعى في إبراز تلك الذات.

 أقول الإمتياز المعطى لتجربة جلال ومحاولة إظهار أولويته مبني على الجدل القائم الذي يرفع من الإتساق الداخلي، إن كان في نجاحه في إستعمال لغته الخاصة في ذكر الوقائع، أو بإطاعته لمشاعره ومواقفه بالتعبير عنها بوضع فرضيات تحيله إلى عالم فيه يبحث عن أسس وأصول بنيات تلك التجربة، فهو يطرح نفسه بالطريقة التي يفهمها، وله خطابه في ذلك، ولم يكبت الإختلاف.
 فهو منذ البدء إعتمد على البنى القادرة على إستحضار عناصر الإحالات الحصرية إلى ذاتها، وللبحث عن الحقيقة لا كنتيجة بل كشعور بسيادة الإختلاف الذي يصب لمصلحة خطابه والذي يتجنب شرحه وإن كان يلخص نتائج محاولاته بأشكاله القوية، الحاسمة، ووضعها في إشارات إستفهام لتوحي له ولنا بأن خارطة الطريق لمشهده البصري تبدأ بالتأملات التي ستعطي لنا كل خطوط الحضور، فعلى إمتدادها يجعلنا نستعيد لغته التي من شأنها أن تكون أكثر إنسيابية، و أكثر إنسانية، وأقوى دلالة، إن كانت ما تفعله في مقاصدها، أو ما كانت تجلبه من أصوات تحاكي نفسها وتجسدها في ترددات فضاءاته و تكراراتها. 
يبذل سفيان جلال من الجهد الكثير في صياغة تجربته، تلك التجربة التي تحمل من الغموض في الكثير من أجزائها، ومن الصمت القابع وراء إنعطافاتها ما يجعلها تأتي ملغزة في الكثير من حدود علاماتها.
 فيتشبث بخيوطها المختلفة ليغزلها مع بعضها نحو بلورة منطق آخر هو منطقه في الشروع والحسم حتى تبقى وحداتها بجذورها منغمسة في تربة غير إعتيادية، وترسم الكثير من علامات الإستفهام بعيداً عن الإشتباه فيها، قريباً من التتابع لخطواتها، خطوة تلو الخطوة إلى أن تلد اللحظات التي أجبرت على التخلي عن التحفظات التي رافقت مقولاته وهي منغمسة في أعماق أعماقها، غير قابلة للتعثر، غير قابلة للتبعثر.
 فالتضمينات التي تنطوي عليها تجربة جلال تتسم بخصائص غير مألوفة، يمكن لوقائعه أن يدلل عليها، مبنية على تصوراته الخاصة المستمدة من التجربة ذاتها، وواعياً بها بعيداً عن أي نظرة تقليدية، وهو غير عاجز في إيجاد مساراته التي ستجذر تمايز صوته، بغموضه وخفائه، وبإختلافه الذي سيوفر له القوة اللازمة في تأسيس حضوره ونهوضه.
 فإذا كان للمنطق التقليدي بعداً واحداً، فإن لمنطق جلال أكثر من بعد، كل منها تخترق المعنى بمعنى آخر مضاد، بإختلاف يجعله يقوض المعنى المبتسر بمراوغة حركات تنسجم مع قوانينه في الخلق والإبداع، تنسجم مع إيقاعاته التي لا تتوقف على الإحالات والإشارات والفواصل.
 فالغموض طاغ حتى أنه يشتمل بعض آلياتها، وهو ينشىء شبكة من العلاقات التي تنطلق بفرضيات تتمخض من مقولاته التي ترفض السكون والتوقف، كما ترفض كل الرسائل التي لا تحال من مصادرها لتصل إلى وجهتها في الوقت المناسب، وفي القراءة المناسبة.
 وليس من السهل التدليل على وحداته المخبأة كمرجع ملائم يمكن الإمساك عن طريقه بلحظات إكتمال عمليات الخلق لديه، فجلال يأخذ على عاتقه على نحو دائم مخاطرة ما و هو يصوغ تجريبته في قالب معين تخصه وحده، فهو يطرح نوعاً من الموالفة بين مقولاته الجمالية منها والمعرفية وكأنه يستجيب لمتطلبات خطابه تبعاً لإيقاعه وما يصاحب هذا الإيقاع من أسانيد ومفاهيم من شأنها أن تهبه حيزاً تمارس فيه وظيفتها الربطية و ما يغنيها من معاني ذاتية .
وأهم ما يمكن أن يضيء تجربة سفيان جلال ويمنحها الأهمية أنه فيها يعبر عن ذاته دون قيود مؤكداً أن الطرح المغاير يأتي من الذات المغايرة، وأن تجاوز المألوف يبدأ من تجاوز خطوط المدارات والمسارات التي تتحكم بها مناهج عامة.
 فهو وبوصفه صوت مختلف ويحمل من المهارات ما يجعله قادراً على السير في الإتجاه الذي يخصه ويشبه هو وحده يصر على نفث الروح في ذلك الصوت الذي يمثله، والذي سيكون ملخصاً لمفهومه الحاضر بقوة في المشهد التشكيلي الكردستاني والعراقي معاً، و نرى بأن عناصر ومكونات التعبير لديه هي مفردات لونية مع بعض المفردات التي يقتبسها من واقعه كالقش وأغصان الأشجار، وقشورها لتكون أنسجة حية عليها يبني خطابه البصري، وبها يعبر عن شيفراته وصداها.
 فهو يؤمن بأن الإبداع بوصفه رغب وسؤال أصل الحرية الإنسانية، وهنا تبرز أهمية هذا الخطاب الجمالي الذي ينطوي على إمتدادات سردية كل ما فيها تعني فعالية حكائية بأماكن وأحداث وقصص وأشخاص لا يمكن أن تغيب من ذاكرة من يبحث عن المختلف والمغاير، من لا ينسى أن المجادلة ظل صامت يستنطق دواخلنا إلى حد الإدهاش دون أن تربك كلامنا و علاماته .