محمود الجوابرة يقارب الرموز الأسطورية وإشكالاتها المحتملة
بداية نقول بأن محمود الجوابرة (م: 1950 درعا) هو راوي حكايات، راوي تغريبة لازالت تسبر الجهات، ولازال هو جزء منها، يتحرك فيها بما له من زمن معلوم، وبلغة معلومة، يؤسس علاقاته معها في مقاربتها جمالياً وتاريخياً، ويذهب فيها بوسائط ترجع وصولها إلى حقائق بحثه ومراجعه بمعطياتها وإحداثياتها والأسباب الموجبة ذاتها، فيأخذ من صفات السرود البصرية ما تلامس مسارات حكاياته تلك ونبضها، يتملكه على نحو دائم الرغبة التي لا تقاوم في أن يروي تلك الحكايات الأكثر قدرة على التأثير به وبمتلقيه معاً، فهو يخلص لجوهرها كما شكلها، يقدمها كمبادرات متحررة في صور أكثر دقة سُوّقت بنجاح مرموق.
من المفيد أن نأخذ بعين الاعتبار مكانة حكاياته وأفكارها بإشكالياتها الكثيرة في السياق العام. فالجوابرة مسؤول عما تتوافر من صيغ بصرية تنظم بتنوعها وغناها في سرود غير متفق عليها، وحده يواجه تعقدها وصعوبتها مهما غضبت منه الفضاءات أو رفضت أفكاره، فهو سيجد أمامه سلسلة أسئلة طرحت بعضها بحثاً عن خصوصياتها النوعية، وبالتالي عن خصوصياته هو في صيغها الحكائية الفنية، وطرحت بعضها الآخر للإجابة عليها داخل اتساع الثقافات الآتية من التاريخ وأساطيره وما يقتضي القيام به حتى يفهم مشروعه وتفاصيل نصوصها. فهو يمضي بخياره السردي وبجهد إبداعي متميز نحو استبطان الأعماق، يغوص في كثافات البنية الجمالية وطبقاتها المتداخلة لسبر حقائقها التي كثيراً ما تختبئ خلف قوالب مقاماتها التي صمدت طويلاً بعناصرها المتوحدة والمغتربة في الوقت ذاته، ضمن العمليات الجديدة من إنتاج وإعادة إنتاج الشكل بما يحقق وظائف مغايرة قد تؤدي إلى تقوية الحدود الفاصلة بين أنظمته السردية الكاشفة لرؤيته الدقيقة بوصفها الثمرة الكاشفة لحركة تمازجاته المقترنة بالنظرة غير السائدة والمهيمنة على مشهده الإبداعي. ومن الحق أن نشير إلى صحوته وتطلعه إلى أفق جديد، بتقنياته الخاصة ساعياً، جاهداً إلى تحقيق قيم جمالية لها مغزاها وأهميتها، لها لحظاتها وألوانها، وله أدواته التعبيرية بشعوره الملح للانعتاق من الخوف الراقد بهدوء في حركة فرشاته، والخروج من مسامات مبهمة للتحديق في البعيد باحتمالاتها الكثيرة، فهل يتوفر له حينها ما يملأه ثقة وطمأنينة، ما يبقي في أعماقه مخزوناً يؤكد على استمراريته مهما كان حجم التعب وعذاباته، يؤكد أن المؤثرات الآنية لن تدس في ملامح تجربته، فالنبضات التي تتسارع على فضاءاته قادمة من روح انتماءاته الذاتية منها والجمعية، وستكون جواز سفره بها يغزو البياض أكثر.
محمود الجوابرة يتعامل مع ألوانه وكأنها سر من أسرار الكون، فيجمع ما فيها من مؤثرات ورموز محرضاً بها إبداعاته، مشكلاً مقاطعه البصرية بتشكيلات كل ما فيها تفاعلات بين لمسات الألوان ودفئها حين ترجع إلى حساسيتها وروحها، وبين تراكماتها التاريخية ضمن متغيرات دائمة. وهنا تكمن فلسفته ومبررات وجودها، تكمن معزوفته التي تمتلئ برائحته وبذاكرة يقظة تزحف إلى المداخل كلها، وإلى حواف جعلته أكثر قرباً من نفسه، وهنا قد تكمن أزمنته أيضاً، فيمتص كل دقائقها، وكل زحامها، ولأهميتها الغنية يحشد المساحات الواسعة بها وبما تناثر منها من الحيوية والانفعالات والبقع الضوئية ويمنحها امتدادات داكنة فيها من التوتر على قدر ما فيها من السكينة، فهو الفنان المتخمر تجربة، وبحثاً عن أجوبة لأسئلة كانت تنعش خصوصية إمكانية وصوله في هذا الطريق الطويل، الطريق الذي يمتد رائحته في الروح فتلونه بالمشاعر كافة، وبأحاسيس تنتشر فيها كالنار في الهشيم، كمغترب يلتقي بتراب يحضن والديه وأفراد حنينه منذ عقود كثيرة، الطريق الذي يقبل أوراق التأمل لتعشعش في قدرته البصرية وما يشغلها من تفاصيل اللوحة واحتمالات صياغتها وهي تحمل جذورها في الأزمنة كلها، بقدر ما يقبل أوراق الحياة وزخمها وما لها من علاقات بالقيمة المعرفية ذاتها.
عالم محمود الجوابرة الذي فيه يمارس مواجهاته واسع وكبير جداً، فيه يرسل روحه في جسد لوحته لتحمل عنه بعضاً من خباياه، أو مما تركه معلقاً في المداخل، في أصوات هاربة من المكان إلى اللامكان دون جوازات سفر، ودون أذونات وقتية، فكل تفاصيله إسقاطات لاواعية من الضرورة مزجها بخيوط حسية أو تفاعلات إنسانية تساعده في الرجوع إلى حركيته الأساسية بمقاطعها المرتبطة بصرياً بما وراء الواقع، وهذه حاله على إمتداد تجربته، ويتعامل مع ذلك بطريقة جديدة هي وليدة رحلته الطويلة.
يرتقي الجوابرة بعملياته الجمالية وتنويعاتها المختلفة وعبر تحديدات لبعض مفاهيمه الأساسية نحو تشكيلات غير هجينة، لكن ممزوجة بأساطير الأقدمين، يتخذ من بعض مفرداتها (كالثور مثلاً) مرتكزاً لوجهته، داعماً لتعبيره الخاص، ولإدراكه للحالات الداخلية وما تثيرها من إنفعالات في مجاله الإدراكي، وداعماً أيضاً لإستخداماته في التقصي لأساليب معرفية يهتم بها الجوابرة لإنجذاب المتلقي وجره نحو إستراتيجياته والإستمتاع بها، وهذا نوع جديد من التفكير والتحريض عليه، والإتفاق بينهما يشجع على الإبداع خلقاً وقراءة، فالجوابرة يقارب الرموز الأسطورية وإشكالاتها المحتملة بجملة رهافات وحساسيات جمالية لافتة محققاً ولادات لأنماط تعبيرية لها كل قيمها المعرفية والإبداعية، يقاربها بوصفها إقتباسات لزمن مضى وأشبه بحلم، كاشفاً خصوبتها في خلق مشاهد لها مساراتها الخاصة، لها ما يستثمره في خلق جديد يتجاوز آفاق الفعاليات الذهنية وإنزياحاتها، وعليه فإن الجوابرة يتلقى الإشارات البصرية من جهة ما، أو لنقل من موروث ما وينقلها إلى شاشاتها أقصد فضاءاته، يساوره في ذلك الرغبة في معرفة الأصل، الرغبة في تحقيق إمكانية الإقتباس المباح والمتاح للوصول إلى تعالقات دقيقة بعنصريه المكان بالزمان، وبإحتمال لمدلولات كثيرة تمضي جميعها نحو جهات مغايرة.
وبالعودة إلى ثيمة الثور كإحدى أهم ثيماته، وكإحدى أهم كائناته التي تسكن مشهده البصري، وهي ذات الأثر الأهم في تأسيس علاماته المطمورة في مساره الفني، فهي بالمحصلة ثمرة من العلائق الممكنة وغير المعزولة بين الذاكرة القريبة بمخزونها الريفي، والذاكرة البعيدة بمخزونها الميثولوجي، والتي ستشكل بتزاوجهما رؤيته في سبر الواقع، ورؤياه في سبر قصص الأولين فينتج لديه نص مختلف ومتباين بكل دلالاته، وإن بدرجات متفاوتة من الوضوح، سعياً لإبراز مكامن الإرتكاز في تراكيبه بعيداً عن أي إلتباس قد يحبطها دلالياً، فما الإشارات والإحالات إلا عناوين لتحريك مسارات تجربته بآليات غير قابلة للحسم من داخل النص وبلورة ذلك ميتافيزيقاً ومنحها نقاط التلاقي من منطلق الإخضاع الكامل للإختزال وإستدعاء كل علامات الإستفهام حولها بلغة غير إعتيادية، ومنغمسة في بحار ألوان غير إعتيادية، وتحمل معرفة غير إعتيادية من أعماق غير إعتيادية، فقدوم عمليات الخلق حافلة بالأسئلة وبلحظات العطش حين ينتزع من جذور تربة غير إعتيادية.