وحيد قصاص يكسر المسافات ويمعن في تكثيف البنية الجمالية
"هناك فقاعات تظهر وتبهر البصر، لكنها تنتهي بلا عودة، وهناك حبات من المطر تمكث في التراب لتجدد دورة الحياة" هذا ما يقوله الفنان التشكيلي وحيد قصاص (حلب 1958)، والقافلة التي يقصدها قصاص طويلة، فكثرة الترويج والتهويل، والتصفيق لأسماء معينة والنفخ فيها حتى كاد أصحابها يصدقون بانهم من أهم الأسماء المهمة والفاعلة لا في المحترف التشكيلي السوري بل العالمي، حتى أشرقت الشمس فذاب الثلج وبان المرج كما يقال، المرج الذي لم يكن أكثر من تلك الفقاعات التي قال عنها فناننا قصاص.
وإذا ما حاولنا أن نطبق عليه مقولته فهو حتماً سيكون حبات المطر التي تسقط على التلال وعلى الحقول، لتفعل فعلها وتترك الأثر، فهو الذي كان يرسم صور الحيوانات وهو لم يزل على باب المدرسة التي ما إن ولجها حتى دعاه معلمه إلى رسم رموز ثقافية وتاريخية بدلاً عن تلك الحيوانات وأبدع فيها أيضاً، ومن هنا يبدأ رحلته مع الرسم وحبه له حتى بات هاجسه الأهم، والذي بدأ يترسخ رويداً رويداً حتى بات هواءه الذي يتنفس منه/به.
وعلى تخوم هذا الهاجس ستلد سهوب الفنان التي ستنتظر أصابعه ليزينها بخيام من لون وضوء، فتحت تأثير عشقه للرسم والذي بقي في حالة صعود حتى بات قريباً من ملحمة الأفق حين تغرد فوضاه، أقول تحت تأثير عشقه هذا تبدأ تدفقات إنفعالاته على شكل بقع لونية هي أشبه بمقاطع موسيقية تمنح بداية تجربته مداخل ستبقى على إمتداد الزمن تدغدغ أحلامه وهي تترجم على مساحات بيضاء وكأنها طفرات لصياغات تمتلك كل شروط الإستمرارية، فإمكانياته في كسر المسافات كبيرة وهائلة، ولهذا خياراته في طرح قضاياه بوصفها تجليات كاشفة للضوء كثيرة أيضاً، دون أي تحريض لها، فخوض الإحتفاءات الإثارية للقبض على اللحظات الأكثر قيمة مع مسوغاتها هي التي تراهن على ذاتها وبأنها الأكثر إمعاناً في كثافات البنية الجمالية، وفي كيفية تكريس نتاجه لذائقة متلق لا يلغي تخيلاته مطلقاً، بل ينزاح نحو سبرها والغوص العميق في أسرارها وإبراز نقاط الإختلاف والتباين فيها، مع إمكانية الإبحار في تفاصيلها المؤثرة، فهو يدرك حجم المسؤولية التي تقع على عاتقه في الكشف عن حالة العشق التي منها ينهل ألوانه والتي يستثمرها بإحساس يمتلك كل الحركة للعبور بمفارقاتها اللافتة نحو خطوط التحول بخطوات متقدمة تفرضها تعبيريته بنكهتها الحلبية بالتزامن مع ما يمكن تسميته بالحساسية الجديدة والتي تشبه الجدل الخصيب، والشديدة الدلالة في الآن ذاته، وهذا يغني منجزه، ويغني أبعاده الواقعية والمتخيلة معاً، ومن الممكن أن تفضي به إلى مرحلة لا تقوم على التوصيف والتحديد، بل تقوم على التجريد والإختزال وفق معايير وضوابط ستحمله إلى آفاق أبعد، بها يتجاوز قصاص تجليات الموضوع والجانب الحكائي لها، وبالتالي يتجاوز الزحام / الفقاعات إلى تساؤلات، الإجابة عنها ستكون عنوان المرحلة التي دفع ببابها بثقة تطفح به إلى حد الجنون، حينها يستطيع قصاص تحميل منجزه بمتن يمكن أن يحتضن ولادة جديدة تكون مساهمته الأهم في هذا المحور التشكيلي الذي يضيئه قصاص بكل لهفة وإمتاع، مكرساً أساساً لعملية تعرف بنقطة التحول من العنوان إلى النص حيث يكون المولود في أنضج حالاته .
يقول قصاص ما معناه : إذا لم يكن الفن شاهداً على عصره فستزوره الريح وتذهب به لتذريه تماماً حتى لم يبق له أي أثر، فالحقيقة أن أعماله ليست شاهدة على االعصر فحسب، بل تحمل كل ملامحه بلا رتوش وبلا حسابات، تحمل كل ألمه وأمله، فالعصر موجع إلى درجة اللاحب، والحيثيات برموزها مرتبطة بالمعاناة الإنسانية بكل توجهاتها وإمتدادتها، وهذا كله يتصاعد في منجزه وكأنها ستحاور السموات لتنقل لها صرخاته الطافحة بالأنين والقلق، وكادت تشكل لغته وكأنه يؤكد بأن هدف اللحظة عنده لا إلتقاطها في الوقت المناسب، بل ملاحقتها بما يوازي غليان التعب في أرواح شخوصه حتى باتت دون ملامح، فيفاجئنا قصاص بهذا الكم الهائل من إستطالاتها وكأنها حيارى في فضاءات مغايرة، كل منها تدلي بدلوها في الخوض في لحظات الحسم وما تتيح لهن من التأمل في قطيعة الأشكال وما تفرزه من أطياف تعبيرية تمده بعناصر هي في حالات إرتباطية خاصة فيما بينها، في فسحة زمنية غير معينة، فهو على قدر كبير من الإطلاع العميق على تفاصيل الدخول لعوالم جديدة يرتادها هو وقليلون ممن يملكون أسرار مفاتيحها، فهو يخصص الموضوع ويعطيه دلالته وينخرط على خلفية فلسفية بمرجعياتها الجمالية.
فإذا أخذنا تقنية التكرار لديه فسنرى أنها أشبه بفعل مفتوح لا نهاية لها، وثمة إنتقال من علاقته ما بين الحكاية وفعلها، وهذه ميزة تسجل له لا أن يؤخذ عليها، بل يحسم خياره في الكشف عن تلك الإشارات التي توحي بما ينطوي عليه من خطوات إبداعية تؤكد على حضور إمكاناته وتضافرها، مع معالجته لمشكلات حيوية تحتج على عصره بجسارة فنان تفتح أمامه كل الأبواب المغلقة، فلا يتردد في دخولها واحداً تلوى الآخر، مبرزاً إستجاباتها لخصوصيته الإبداعية، وما فيها من علاقات التفاعل والتبادل من جهة، والتوتر والصراع من جهة ثانية، مما يسهم في تحديد أبنيته بتنوعها دون أي إغفال عن نظرته فيها وفي آليات تشكلها، وسيلاحظ المتلقي دوائر تقاطعها وما تعتمد عليه من الإحالات دون أي سقوط في النمطية.