
ساهينار تزيح الستار عن العنف ضد المرأة في المجتمع التركي
تزيح الكاتبة التركية سيراي ساهينار في روايتها "أنتابيوز" عما يحيط بالمجتمع التركي المعاصر من فساد يلقي بظلال قاتمة على بنيته الاجتماعية ويتجاوز التأثيرات السياسية والاقتصادية، هذا الفساد يتمثل في دوامة العنف المستمرة من الماضي إلى الحاضر ضد المرأة، نتيجة التقاليد البالية التي تمجد الهيمنة الذكورية، وتدعو إلى إذلال المرأة وتدمير أنوثتها، وإضفاء الشرعية على ما يمارس ضدها من عنف.
عبر أحداث الرواية التي ترجمها د.مدحت طه وصدرت أخيرا عن دار صفصافة تسرد ساهينار الأصول العميقة للانتهاكات ضد النساء والروح السوداء لمجتمع غارق بقوة في العنف والشوفينية الذكورية. فـ "ليلا تي. آر" بطلة الرواية هاجرت من القرية إلى إلى إسطنبول، مع عائلتها سعيًا لتحسين الأحوال، تظل محاصرة في منزلها. ممنوع الخروج. لكن صعوبات العيش في المدينة وأحلام العائلة البرجوازية الصغيرة بشراء منزل وبدء عمل تجاري تحتم عليها الدفع بابنتها للعمل في ورشة لصناعة الملابس. تقبل ليلى فكرة العمل كونه يمثل الطريقة الوحيدة التي ستتمكن من خلالها من التواصل مع الخارج.
لا تتوقع ليلى الكثير من الحياة، إنها تريد فقط أن تؤسس حياة عادية هادئة، مثل كل امرأة عاملة، وأن تبنيها مع الرجل الذي تحبه. لكن الحياة لن تتشكل باختياراتها الخاصة، بل بما يُفرض عليها. الخروج من السجن المنزلي والانخراط في الحياة التجارية والاستغلال في العمل. تتعرض ليلى للاغتصاب بالقوة على يد "هايرى" مدير ورشة الملابس، فترفض العودة للعمل، ويقوم هايرى بزيارتها، ويعد أبيها بمساعدته للبدء في مشروعه الخاص، وبعدها يجبرها أبوها على العودة للعمل، فتلجأ لحبيبها "عمر" رئيس العمال، وبعد أن ينال منها هو الآخر، يعدها بالهرب معها إلى موطنه ليتزوجا، لكنه يهرب منها ومن الورشة ومن إسطنبول، وتجبر على العودة لبيت العائلة، حيث يضربها أبوها بعنف بالغ، بدلا من حمايتها والدفاع عن شرفه، وتضطر العائلة لنقلها للمستشفى، حينما بدأت تنزف من بين ساقيها، لأنها كانت حاملاً- دون أن تدري - وأجهضت، وسعيا للتخلص منها تجبرها عائلتها على الزواج من السكير "رمزي" تاجر الأقمشة الأرمل وهو في عمر أبيها. لتدخل دائرة من البؤس لا تنتهي.
حبكة الرواية تبدو مألوفة، فهي تركز على السلبيات الناجمة عن الرأسمالية كانحطاط القيم الأخلاقية وتفكك البنى الاجتماعية والضغوط التي يخلقها المجتمع الذكوري على النساء، وقوة المال وغياب وعي الفرد، وانتشار الاستغلال والعنف والاغتصاب الذي عانت منه ليلى فور دخولها عالم العمل، وحقيقة أن المرأة ليس لها الحق في الكلام أو الدفاع عن نفسها.
تسرد ساهينار بأسلوب يميل كثيرا إلى السخرية اللاذعة، فللرواية أكثر من نهاية، ففي الصفحات الأولى تعطينا نهاية بطلتها ليلى، ثم يبدو الأمر وكأنها لا تشعر بالراحة تجاه هذه النهاية، فتفتح صفحة بديلة في حياة ليلى، تعود للوراء وتعيد سرد الأحداث من الأول إلى النهاية، ولا تعد بأمل أن تكون النهاية البديلة أفضل من الأولى. شخصية ليلى، شخصية مؤقتة في البداية، تستقر تدريجياً ويصبح من الممكن أن يستوعبها القارئ، لكن هناك شخصية أخرى في السرد تم إنشاؤها بنجاح أكثر من ليلى، شخصية الممرضة أولكر. إنها أكثر تأصلًا كشخصية، وعلى الرغم من أنها تبدو كشخصية خيالية، إلا أنها أقرب إلى كونها حقيقية من ليلى. وهي من نصحت ليلي بأن تعطي زوجها عقار " أنتابيوز" الذي يستخدم في علاج إدمان الكحول.
هناك تناقض فيما يتعلق بالراوي، يبدأ الراوي العليم "الذي يرى ويعرف كل شيء" أولا بإخبارنا أن ليلى، التي كانت مستلقية في غرفة المستشفى قبل يومين، انتحرت. لا توجد مشكلة حتى الآن، لكن المشكلة تبدأ عندما ينتقل المؤلف إلى وضع سرد مختلف ويكون هذا الوضع السردي في صيغة الغائب. هنا، هناك عائق لسرد القصة من فم الراوي نفسه. أخبرتنا القصة بـ "ميت" يروي! هنا، يمكن القول أنه يتم التغاضي عن القاعدة المنطقية من حيث التعبير. في الجزء الأول، أي في السرد الذي ينتحر فيه الراوي "ليلى"، تكشف حقيقة أن الراوي انتحر وهو يروي القصة بنفسه، وهل هذا خطأ؟ ألا يشكل وجود راو يصف انتحاره أمر غير واقعي. نفس المشكلة لا تظهر في الرواية الثانية. نتيجة لذلك، يخبرنا الراوي بحدث أدى إلى مقتله.

مقتطف من الرواية
"امرأة تقفز إلى حتفها مع ابنتها"
ليلا تي. آر. امرأة في الخامسة والعشرين من عمرها، تعيش في إسطنبول في حي الإيمان، قفزت من شرفة شقتها مع ابنتها بعد أن أصيبت بانهيار عصبي. أكد التشريح أنها كانت حاملًا في شهرها الثالث. أفاد جيرانها بأنها هي وزوجها -رمزي تي- اعتادا الشجار. بدأ التحقيق مع زوجها.
جلست أولكر على طاولة في حديقة المستشفى تقرأ الجريدة. تفحصت صورة ليلا بعناية، لأنها بدت مألوفة لها. مرت بها ممرضة، ولاحظت القصة التي تقرأها وقالت:
"رأيت الحادثة أنت كذلك؟ لقد أوجعت قلبي. يا له من عار".
أجابت أولكر: "أقسم إنني رأيت هذه المرأة في مكان ما من قبل".
قالت الممرضة: "ألا تذكرينها؟ لقد قمت بزيارتها في حجرتها ذات ليلة"
"قسم الباطنية - حجرة 424 – قبلها بيومين"
أطلت أولكر من الباب، الذي كان مواربًا. كانت امرأة شابة عانى وجهها من ضربات وكدمات، راقدة في سرير المستشفى وقد علق في ذراعيها ممر وريدي بالمحاليل. لم يكن هناك أحد جالسًا على مقعد الزوار.
دخلت أولكر الحجرة وقالت. "كوني بخير سريعًا يا حلوتي".
نظرت إليها المرأة بحيرة. جلست أولكر.. "اسمي أولكر. ما اسمك؟".
"ليلا".
سحبت أولكر كرة من الغزل وزوجًا من إبر الخياطة من كيس بلاستيك للأدوية. سألت ليلا وهي متوترة بعض الشيء: "هل أعرفك؟".
دون أن ترفع نظرها عن خياطتها قالت أولكر: "قلت لك إن اسمي أولكر. رأيت أنك بلا أي زوار واعتقدت أنه أمر طيب أن آتي إليك. ليس جيدًا أن تظلي وحدك عندما تكونين في مستشفى".
رفعت أولكر القطعة التي كانت تخيطها: "سويتر لرضيع. أرى الزوار الآخرين يخيطون ليمرروا الوقت أيضًا، لكنهم يفوتون بعض العقد. ليست تلك الطريقة التي يجب أن يعملوا بها. السر أن عليك الحفاظ على مواقع الغرز بشكل صحيح. الملابس التي أخيطها لا تبلى أبدًا. ارتديها لعشر سنوات، واغسليها كل يوم، وستظل جيدة مثل الجديدة".
نظرت نظرة خاطفة على التلفزيون، الذي كان على طاولة عند نهاية سرير ليلا: "أقول لك، هذه الحجرات الفردية أفضل من غرفة في فندق خمس نجوم. حبيبتي، أنت لا تستقبلين أي زوار، هل تفعلين؟ اعتبريني زائرة لك. سأكون أفضل صديقة لك على الإطلاق. ارفعي صوت التلفزيون قليلًا يا حلوتي”.
انفتح الباب ودخلت ممرضة. حدقت في أولكر وقالت: "أنت ثانية؟ كم مرة قلت لك، لا يمكنك الاستمرار في فعل ذلك؟".
"انظري للفتاة البائسة، هي وحدها تمامًا. سأكون صديقتها، ما الخطأ الكبير في ذلك؟".
"انسي الأمر. سيكتب لها خروج خلال يومين على أي حال".
"وليكن، ثم ماذا؟ يومان هما يومان".
"كبير الأطباء يقوم بجولته، من الأفضل لك أن تذهبي لعنبر آخر".
"على الأقل دعيني أنهي هذا الصف من الخياطة حتى لا ينحل".
أكملت أولكر خياطتها بهدوء. نظرت ليلا للممرضة متسائلة، وأومأت تجاه أولكر. لوحت الممرضة بيديها كما لو أنها تقول: "فقط تجاهليها".
قالت أولكر، بينما تجمع ما غزلته في حقيبتها البلاستيكية: "كوني بخير، حبيبة قلبي. إذا ما عدت لهنا في أي وقت، أخبريهم أن يستدعوني لرؤيتك. فقط اسألي الممرضات أين أولكر، وسيأتون ويجدونني".
***
نظرت أولكر إلى الخبر المنشور مرة أخرى: "انظري إلى ذلك، يقول الخبر إنها عانت من انهيار عصبي. لكن كيف لشخص أن يقتل نفسه مع ابنته".
قالت الممرضة: "سمعت أن زوجها كان يضربها، وقد أتت إلينا ووجهها مليء بالكدمات. اعتقد أنها كانت على علاقة غرامية مع شخص آخر، رجل يُدعى مظلوم. ظلت تقول اسمه أثناء نومها. قبل أن أنهي ورديتي يوم الجمعة سألتها: "من هو مظلوم؟" لكنها لم تقل شيئًا. إنه لعار حقيقي".
قلبت أولكر الصفحة وغمغمت:"حسنًا، أخمن أنها لم تجد سبيلًا آخر للنجاة".
لا تقلبي الصفحة. قصص الأخبار الشعبية في ظهر الجريدة يمكنها فقط أن تكون مجرد سطور قليلة، لكنها تحكي عن الموت واليأس.
لا تقلبي الصفحة، ليس بعد. دعينا نعود يومين للوراء قبل أن تصل القصة إلى الصحافة. أنا، ليلا تاسي، كنت راقدة بالمستشفى، وليس المشرحة.
ـخيرًا غادرت الممرضة. هي لطيفة، لكنها تسأل الكثير من الأسئلة. هي تفعل بطبيعة الحال. لو كان لي زوج يتركني أصبغ شعري، وأضع أحمر الشفاه وتكون لي وظيفة، كنت لأسأل كل أنواع الأسئلة أنا أيضًا. بالإضافة إلى أنها جميلة. هرولت خارجة من الحجرة قائلة: "أراك يوم الإثنين".
لديها خاتم يلمع في إصبعها. ربما كانت متزوجة حديثًا. المتزوجات حديثًا دائمًا ما يبدون كذلك، يسرعن إلى بيوتهن لأزواجهن كما لو كان العشاء يحترق في الفرن. أعطوهن فقط سنوات قليلة، وسيبدأن في الشكوى. إذا كانت في عجلة من أمرها للعودة إلى البيت، لا بد أنها تحب زوجها. وهو أمر جيد لعائلتها. فهم يمنحونها تعليمًا بحيث يمكنها أن تصبح ممرضة، ثم يدعونها تتزوج (الرجل الذي تحبه. (من المحتمل أنهم قالوا للرجل: "الآن، انظر، من الأفضل لك أن تعتني بها لأن أباها سيستشيط غضبه إذا لم تفعل. نحن لن نسمح لك أن تسيء معاملتها". هكذا يجب أن تكون العائلات.
زوج الممرضة مدرس بالمدرسة الابتدائية. أراهن أنه يحب الأطفال حقًّا. سيرزقون بأطفال خلال عام أو عامين، وسيكون عليها أن تعتني بهم بين الورديات في العمل، لأنها لن تتخلى عن وظيفتها. سيأخذون قرضًا لشراء منزل لهم عندما يولد طفلهم الأول. وستعتني الجدة به. الزوجة امراة عملية تعرف إدارة العلاقات لأنها تعمل منذ أعوام.
في الجوار، حيث تعيش، سيسمونها "الممرضة النارية". مثلًا، افترض أن ضيفًا دق فجأة على بابهم. ستقوم بإذابة الثلج عن دجاجة وتقطع بعض حبات البطاطس لشرائح، وترمي بكل شيء في الفرن مع بعض حساء الطماطم. ثم ستقوم بتسوية بعض الأرز مع الشعرية، وتعد طبق سلاطة.. فممرضتنا النارية دائمًا ما تملك دجاجة في الثلاجة لأوقات مثل تلك. يقولون في التلفزيون:
"اللحم الأبيض صحي أكثر من اللحم الأحمر"
إذا سألتني، يقولون ذلك لأن الدجاج أرخص. على أي حال أنا لا آكل اللحم الأحمر، حتى رائحته تصيبني بالغثيان. الممرضات دائمًا ما يكن كذلك، على أهبة الاستعداد. يحتفظن برقائق من العجين في الثلاجة، فإذا ما فاجأهن ضيف يوم الأحد، يمكنهن أن يخبزن بعض الحلوى. تلك الممرضة لديها عقل جيد فوق كتفيها.
لكن، كل هذه الأسئلة التي تسألها. من هو مظلوم؟ يبدو أنني واصلت ذكره عندما كنت نائمة. “مظلوم، مظلوم، مظلوم". لم تسأل زوجي عن أي شيء، ربما لأنها تعتقد أنني لدي ما أخفيه. ممرضتنا النارية كثيرة التفكير. أعطيتها رقم هاتفي، ستتصل لتسأل كيف تسير الأمور معي، وإذا ما جاء زوجي فجأة وأنا أهلوس باسم مظلوم، ستقنعه أن مظلوم هو مجرد بواب أو شيء ما من هذا القبيل. وإذا ما سألتني، وفي رأسها قناعة بأن مظلوم رجل شاب سيقوم بزيارتي في المستشفى. حسنًا، ماذا عن هذا؟ يمكننا أن نمنحه بالطو أبيض ليلعب دور طبيب. أيتها الممرضة، يا لك من سيدة طيبة، يمكنك أن تحظي بمدرسك، أنا أريد البواب خاصتي..!
عندما رأتني الممرضة وجسدي كله ملطخ باللون الأسود والأزرق، ربما شعرت بالأسى نحوي. ربما أملت أن أنجو من زوجي، وأتمكن من الهرب مع الرجل الذي أحبه، فقد عقدت عزمها: مظلوم هو محبوبي. هي لن تتفوه بكلمة إذا ما هربت إليه، رغم أنني متزوجة بالفعل. ما العجيب في الأمر إذا لم أكن عذراء؟ نحن نحب بعضنا الآخر، هذا ما يهم، صحيح؟ الأفلام على شاشة التلفزيون ليست مثقفة كثيرًا، لكن مظلوم مثقف! ماذا يقولون في الأفلام؟