آنا ماريا ماتشادو تكشف جراح الديكتاتورية العسكرية في البرازيل

'عائدة إلى الشمس' رواية عن اختيارات وخيارات كل واحد عند مواجهة القمع العنيف وغير المبرر مما يدفع البعض إلى المنفى والبعض الآخر إلى البقاء من أجل المواجهة سواء بالوسائل السلمية أو بالكلام والمظاهرات أو من خلال الخيار الأكثر راديكالية وهو الكفاح المسلح.

تروي هذه الرواية "عائدة إلى الشمس" للروائية والصحفية البرازيلية آنا ماريا ماتشادو أحداث الفترة الديكتاتورية العسكرية في البرازيل، وذلك من خلال بطلتها الصحفية لينا التي عادت إلى قريتها بعد فترة طويلة من المنفى بسبب الديكتاتورية، لاستعادة حياتها السابقة مع عائلتها وسرد ما رأته وعاشته من مواقف في طفولتها وشبابها. حيث تقيم في منزل على الشاطئ مع والدتها، وتستعرض الأسباب التي دفعتها إلى مغادرة البلاد. لا تتحدث عن القمع والتعذيب أو السجون، ولكنها تروي الحياة الصغيرة لأشخاص بسطاء، معاناتهم، وصدماتهم جراء القمع المتواصل.

تعتبر الرواية التي ترجمتها يمنى خالد شيرازي وصدرت عن دار العربي من أهم الروايات السياسية في الأدب البرازيلي المعاصر. كما أنها رواية عن اختيارات وخيارات كل واحد عند مواجهة القمع العنيف وغير المبرر. في وسط مجتمع تسيطر عليه الدولة الاستبدادية مما يدفع البعض إلى المنفى؛ والبعض الآخر إلى البقاء من أجل المواجهة - سواء بالوسائل السلمية أو بالكلام والمظاهرات أو من خلال الخيار الأكثر راديكالية وهو الكفاح المسلح.

تسرد آنا ماريا ماتشادو بعضًا من أبرز الأحداث في تلك الفترة - المظاهرات الطلابية الأولى، وقمع النظام، وأشكال المقاومة، ولا تناقش فقط كيف يمكن لآليات القمع أن تسيطر على المجتمع، لكن كيف يمكن أن يكون الانتقال إلى الديمقراطية بطيئًا ومؤلمًا. وذلك من خلال دفق عاطفي قوي تتخلله الرقة والحيوية، حيث تظهر في شخصيات الرواية شكوك ومخاوف حقبة بأكملها. بسرد يتدفق بين الذاكرة والحاضر، بين الواقع والخيال يكشف الجراح التي فتحتها الديكتاتورية العسكرية ومحاولات شفاء أولئك الذين عانوا خلال هذه الفترة المضطربة في تاريخ البرازيل.

في الرواية لدينا صوت أنثوي مركزي وقوي يتمثل في شخصية "لينا"، التي تنطلقالأحداث وتتشكل من عودتها ومحاولتهاإعادة تشكيل حياتها بعد المنفى. وبالتالي، فإن السرد يتغلغل في فترة الديكتاتورية العسكرية في البرازيل، التي وقعت بين عامي 1964 و 1985 والتي شهدت قتل وتعذيب ونفي وسجنالكثيرين وغير ذلك من الأحداث التي وقعت في أقبية مخافر وثكنات الشرطة.

"لينا" نفت نفسها لعدم قدرتها على تحمل الاستبداد والقمع وأيضًا لتجنب الاعتقال في نهاية المطاف، حيث لم تكن أكثر من أخت مارسيلو، أحد القادة السياسيين الرئيسيين لحركة الطلاب البرازيلية، وكذلك أحد المسؤولين عن اختطاف السفير الأميركي.

يتشابك التاريخ والخيال في الرواية. على الرغم من أنها ليس تقريرًا أو تحقيقا صحفيًا، إلا أننا ندرك أن في العمل الكثير من الحقائق الحقيقية لهذه الفترة الديكتاتورية. الوقائع كما ذكرنا تُروى من منظور أنثوي، مما يعطي فارقًا كبيرًا في الرواية، حيث أن قلة من النساء كان لهن صوت في هذا الموضوع وقليل منهن بالنسبة إلى جميع سكان البلاد تم تسييسهم. من خلال لينا يتم استجواب المجتمع. والحوار مع الماضي والحاضر والمستقبل.

لم تقصد ماتشادو من روايتها تصوير أبطال أو قادة أو شهداء عظماء، بلتتحدث عن أناس عاديين في تلك الفترةمن بينهم فنانون ومحامون ومثقفون، عانوا خلال نظام قمعي واستبدادي، لكنهم لم يصمتوا ولم يتوقفوا عن المطالبة بحقوقهم.

في "عائدة إلى الشمس" يمكننا أن نتابع مصاعب هذه الفترة الديكتاتورية الحزينة، كما حددتها بطلة القصة لينا تمامًا، من خلال "نظرة محيطية للتاريخ". وهذه النقطة مثيرة للغاية: لماذا من وجهة النظر المحيطية؟ حسنًا، لأن من يخبرنا عن القمع والمخاوف والرغبات والمحن هو "هي" وليس "هو". هل تفهم مكاسبنا نحن القراء من هذا؟ إنها النظرة الأنثوية إلى العنف والفوضى..

وأخيرا فمن بين العديد من النقاط المثيرة للاهتمام في الرواية، يبرز في تقنية الكتابة، حيث المزج بين الأشكال السردية مثل المسرح والرسائل والحوارات وسرد الأحداث والانتقال الزمني بين الماضي والحاضر الذي يتم إجراؤه بشكل جيد للغاية من قبل المؤلفةالتي بالإضافة إلى امتلاكها سردامتميزا، يزودنا باقتباسات جميلة من الثقافة البرازيلية في كل فصل جديد

يذكر أن الروائية"آنا ماريا ماتشادو"وُلدت عام 1941 في ريو دي جانيرو بالبرازيل، وهي واحدة من أشهر المؤلفين في البرازيل. ألفت أكثر من مئة كتاب للأطفال والكبار وتُرجموا ونُشروا في أكثر من 17 دولة. وقد حصلت على أشهر وأرفع الجوائز الأدبية البرازيلية والدولية كذلك. حصلت عام 2000 على جائزة "هانز كريستيان أندرسون" وهي أرفع الجوائز العالمية لأدب الأطفال واليافعين. وقد كتبت "ماتشادو" للأطفال وللكبار، وكتبت الرواية والشعر والأغاني، وكلها على حسب قولها كانوا من أجل التعبير عن حرية الفرد والاحترام لحقوق الإنسان.

مقتطفات من الرواية

لم يأتوا. كانت لينا وأرنالدو محظوظين، فقد استغرق الأمر من الرجال بضعة أيام حتى يصلوا. قلبوا كل شيء رأسا على عقب عندما جاءوا وكسروا الأشياء، وهددوا كثيرا، ولكن كان هذا كل ما في الأمر. كانوا يعلمون بالطبع أن "مارسيلو" لن يكون هناك. كان لديهم عمل أكثر بكثير في اليوم الأول وهم يبحثون في أماكن أخرى. بدا الأمر وكأنهم في حرب؛ اعتقلوا الآلاف من الأشخاص. وفق اليوم الرابع عشر يوم سبت. قاومت الصحف قدر استطاعتها الرقابة القوية. نشرت الأخبار كما لو أنها برقيات؛ مكدسة وبخط صغير. كانت حرفيا بين سطور صفحة الوفيات: اعتقل هذا وذاك، ومن اعتقل. استعملت الصحف حيل الترقيم لتخبر القراء أن الأمور في غاية السوء. كما استعملت عناوين مبهمة، وتعليقات مكتوبة تحمل معاني مزدوجة، وصورا غريبة لا علاقة لها بالموضوع. فعلى سبيل المثال نشرت "جورنال دو برازيل" في حركة مقاومة شجاعة منشورات محظورة بشكل عشوائي عبر صفحات الجريدة بدلا من أخبار خضعت للرقابة. نشرت الجريدة أن مجلس الشعب قد أوقف عن ممارسة واجباته، وطبعت النص الكامل لقانون الدستور رقم 5 وطبعت صورة عملاقة للتوضيح، وعليها تعليق: "لحظة درامية" وتظهر مباراة كرة قدم قديمة حيث يطرد "جارينشيا" المعروف بـ "بهجة الشعب" من الملعب، وأضافت الجريدة بعض الصور الرياضية لتزيد من حدة الموقف مثل الفلفل والشطة. كانت هناك صورة بدلا من المقالة الافتتاحية تحت عنوان "مهمة هرقل الجبارة" تبين طفلا صغيرا يحاول أن يطيح ببطل عالم في الجودو أرضا. كانت هناك صور لـ "الغوريلات" في كل مكان بين المنشورات والرسائل إلى المحرر المتغيرمكانها، وإشارات أخرى للوضع في البلاد.

كان من ضمن الإشارات أيضا صورة قديمة للمنتخب البرازيلي في كأس العالم البرازيلي في مخيم التدريب، وتحتها تعليق: "المحاربون في راحة ـ اللاعبون البرازيليون سعداء بالمرافق وآخذون الأمور بسهولة". كانت هذه طريقة خفية لإخبار القراء بأن هناك العديد من الأشخاص في السجن، احتفظت "لينا" بالجريدة. في الحقيقة، "أماليا" هي من احتفظت بها وأعطتها لها لاحقا. لم تنس الصفحة الأولى حيث احتوى كل ركن علوي على رسالة ما بجانب الخطوط التقليدية حتى الصفحات المطبوعة أمامها. كان هناك على جانب واحد من أخبار عن: "الاحتفال بيوم المكفوفين" في إشارة علنية إلى الاحتفال بعيد القديسة "لوسي"، راعية البصر، وعلى الجانب الآخر نشرة جوية تهديدية تحذر من السحب السودا التي تلوح في الأفق ومخاطر أخرى. وتدعو النشرة الجوية بوضوح إلى الاستلقاء عند الشواطئ المشمسة التي تجذب الجميع إلى البحر: المكان الوحيد الذي لا يزال ممكنا فيه لأن يجتمع الناس ويناقشوا الضحايا ويحاولوا معرفة من اعتقل ومن يختبئ. رمت الجريدة صورة لشمس صيف صارخة متأججة؛ وصورة لجنة استوائية لا تبالي بالإرهاب الذي استوطن الأرض. كان الإرهاب خائنا متهكما على النشيد الوطني وتأكيده على "وفي هذه اللحظة سطعت شمس الحرية بأشعتها البراقة في سماء الوطن".

*****

رن هاتف "لينا" بعد فترة قليلة. كان صوت "لويس سيزاربو" العزيز الذي أعلن وأشار:

ـ أتحدث إليك أن الرسمة التي وعدتك بها جاهزة. صارت رائعة، كما أردتيها بالضبط، إذا أمكن أن أقول هذا بنفسي.

لم تطلب أي رسمة؛ فلم يعدها بأي شيء ولم تملك أدنى فكرة عن محتوى هذه الرسمة. ولكنها شكرته في حذر وانتظرت. أكمل صديقها الكلام:

ـ يجب عليك أن تأتي لتأخذينها قريبا؛ لأن اللوحة ضخمة ويمكنها أن تتجعد، نحن بالمنزل، لماذا لا تأتي الآن؟

فقالت له:

ـ بالطبع، أنا في طريقي

أضاف الرجل العجوز:

ـ ولكن لا تقلقي بشأن الحجم؛ لم أضعها في برواز. يمكنك أن تلفيها وتحمليها بسهولة. أعلم أنك لا تمتلكين سيارة الآن، ولكن يمكنك أن تأخذيها على أية حال. لا أطيق الانتظار حتى أريك إياها. فلا تتأخري.

أغلقت "لينا" الخط، وأخبرت "أرنالدو":

ـ كان "لويس سيزاربو" على الهاتف، يريدني أن أذهب إلى هناك على الفور لآخذ رسمة وعدني بها. إنه أمر طارئ.

فسألها أرنالدو:

ـ الآن؟ ألا يمكنك أن تقومي بهذا في يوم آخر؟

فردت عليه:

ـ كان غير صبور للغاية.

فقال لها:

ولكن هذا غير منطقي يا "لينا". ستخرجين الآن، في يوم كهذا الشرطة تطارد الأشخاص مثل المجانين وتفتش كل الناس وكل شيء دون سيارة، ستذهبين إلى الجانب الآخر من المدينة لتأخذي رسمة، هذا فقط جنون.

صمتت "لينا" ونظرت إليه وقالت:

ـ لم يعدني بأي رسمة يا "أرنالدو" ويعرف تمام المعرفة أنه ليس لدي سيارة.

فقال لها:

إذن، ما تقولينه هو سبب جيد آخر حتى لا تذهبي.

أصرت قائلة:

ـ ولكن أعتقد حقا أنه عليّ الذهاب، بالتحديد بسبب كل ما قلته، أعتقد أن الرسمة كانت حجة في حال كان الهاتف مراقبا. إنه أمر آخر في الحقيقة طارئ.

لفت ما قالته انتباه "أرنالدو" وقال:

ـ مثل ماذا؟

فردت عليه:

ـ هل تذكر مفتاح بيته؟ أعطيته لـ "مارسيلو" وقال أنه لن يستعمله إلا إذا أصبحت الأمور محبطة، وساء الوضع في كل شيء. ولا يزال يملك سيارتي.

قفز "أرنالدو" قائلا:

ـ اللعنة دعينا إذن نذهب على الفور قبل أن يجدوا السيارة في مكان ما هناك.

فقالت له:

ـ لن نذهب نحن، بل سأذهب بفردي

فرد عليها:

ـ هذا محال! ماذا إذا حدث شيء ما؟

فقالت له:

ـ إذا حدث شيء ونحن معا، سيحدث لنا نحن الاثنين. لن يعرف أحد بما يحدث لنا إلا بعد وقت طويل للغاية. من الأفضل أن أذهب وحدي وأن تنتظر أنت حتى تنبه الجميع.

كان من الواضح أن "أرنالدو" لم يعجب بما قالته ولو قليلا، فقال:

ـ لا أعرف لماذا لا نقوم بالأمر بالعكس؟ أذهب أنا، وأنت تبقين وتدقي ناقوس الخطر إذا لم أعد.

فقالت له:

يمكننا أن نقوم بالأمر بهذه الطريقة. ولكن مازلت أعتقد أنه من الأفضل أن أذهب أنا، أنا أخته والسيارة باسمي، وأنا من أتصل بي "لويس سيزاريو". خلاصة القول، أعتقد أنه سيكون من الأسهل أن أصف دوري في هذا الموقف بالدور العادي.

قبل "أرنالدو" بالخطة رغما عن إرادته، ولكنه فرض الشروط:

ـ حسنا ولكننا سنقوم بالأمر بهذه الطريقة: سآخذك إلى هناك، وأنتظرك في مكان ما قريب نتفق عليه. سأعلم أن شيئا ما حدث لك إذا لم تعودي في ميعادك.