'أحلام سعيدة يا صغيري' تجذب الانتباه وتجرد الأقنعة
"أحلام سعيدة يا صغيري" رواية سيرة ذاتية، يسرد فيه الروائي والصحفي الإيطالي ماسيمو غارميلليني الصعوبات التي واجهها في حياته بفقدانه والدته في سن التاسعة من عمره، والعيش في عالم مكتظ بالرجال، خال من الدفء الأمومي، والحب الطبيعي الذي لا يمكن إلا للأم أن تمنحه للطفل دون قيد أو شرط.
الرواية التي ترجمها مينا شحاتة وصدرت عن دار العربي ليست مجرد قصة ماسيمو، ولكنه قصة لنا جميعًا: يمكن للجميع التعرف على أنفسهم في حيرة البطل ومخاوفه، أي شخص فقد أحد أفراد أسرته أو وظيفته أو الإحساس بوجوده، يشعر بالفراغ الذي يمسك الروح بداخله. لم يعد هناك يقين، فالحياة تتكون فقط من الشكوك وعدم الأمان والظنون التي تؤدي إلى اختيار المسار الأكثر عقلانية. يتم إسكات الأحلام والرغبات: إن حقيقتها مخيفة لأنها تمثل خطرًا مؤلمًا للغاية يجب مواجهته. التنازل هو الطريق التي يبدو من الأسهل اتباعها، ولكنها في الواقع تترك وراءها أثرًا طويلًا من الندم.
مسار الرواية ينطلق من الطفولة مرورا بفترة البلوغ وانتهاء بسن النضج،لنعيش نبضات وجروح الحياة، والصراع المستمر ضد الوحدة والفقد والشعور بالوحشة، لذا فإن الهدف المؤلم هو انتزاع الحب والوجود الكامل والأصيل، والذي سيسمح أخيرًا للبطل بإبقاء قدميه على الأرض دون التوقف عن تحريك عينيه نحو السماء، بعد أن كان يمشي على رؤوس أصابعه ورأسه للأسفل لأن السماء تخيفه وكذلك الأرض.
يعيش ماسيمومنذ الطفولة "مع شظية مزروعة في قلبه"، ففقدان والدته لم يكن طبيعيا، لقد انتحرت بسبب اليأس والاكتئاب جراء المعاناة من ورم في جسمها، هذه الحقيقة التي يكتشفها الآن في سن الخمسين تقريبًا، يكتشف حقيقة أنه ربما كان يعرف دائمًا في أعماق قلبه. أن والدته لم تموت بنوبة قلبية، لكنها اختارت أن تذهب بعيدًا، حيث تترك نفسها تسقط في الفراغ في ليلة رأس السنة المليئة بالثلج.
ماتت الأم وتركت ماسيمو مع والده.. الاثنان في مواجهة عالم جديد يحاولان فهمه والتعايش معه. والده الكتوم الذي لا يفصح عن مشاعره والذي يخفي عنه سرًا ربما يغير حياته كلها تمامًا، وهو الطفل الصغير الذي يفتقد أمه وحنانها، فيحلم بالمربية الجديدة التي ستحتضنه وتحكي له القصص قبل أن ينام، لكنها لم تفعل. عاملته بجفاء، فكانت تلك هي الصدمة الثانية بعد صدمة وفاة أمه.
ينزوي "ماسيمو" إلى عالم بناه لنفسه، عالم ما زالت أمه فيه على قيد الحياة، ويعامله أبوه فيه بحنان ويبتسم له. وهكذا، بين ماضيه وحاضره، ينتقل بنا المؤلف بين "ماسيمو" الطفل الذي ينمو وتتغير شخصيته، و"ماسيمو" الشاب الذي يبحث في كل امرأة يقابلها عن أمه.
إنها رواية حزينة جدًا يبحث فيها البطل دائمًا عن شخصية الأم، وفي نفس الوقت يقوم بتحليل توقعاته وانعكاساته، وفي النهاية يحاول فهم نفسه. الرواية هي تحليل ذاتي مستمر للبحث عن الحقيقة. بطلها نفسه لا يريد معرفة ما حدث بالفعل، بل يجعل ألمه أحد أسباب عيشه وقدرته على مواجهة الحياة، على الرغم من أنه يعرف دون وعي ما حدث. لكن الجهل هو وسيلة للحماية من الألم.
بالنهاية فإن تظل "أحلام سعيدة يا صغيري" قصة قادرة في البداية على جذب انتباه القارئ ثم تجريده من جميع أقنعته وكل حواجزه. فالمؤلف نجح بالدفع بأجزاء من حياته ودمجها مع حياة البطل الصغير الذي يحمل اسمه أيضًا "ماسيمو"، لذا جاء حديثه مباشرة إلى قلب هذا القارئ، وبعمق وبساطة يدفعه إلى البحث عن أكثر رغباته عمقًا زالسعي إلى تحقيقها، ومن ثم فهو يغرس الشجاعة والأمل أمام تحديات الحياة.
يذكر أن ماسيمو غارميللينيوُلد في "تورين" عام 1960. ماتت والدته وهو في التاسعة من عمره، حيث انتحرت بسبب إصابتها بالمرض والاكتئاب. لكن أخبره والده بأنها ماتت بسبب أزمة قلبية، وهو ما أثر فيه كثيرًا طوال حياته. واكتشف الحقيقة بعد موتها بأكثر من 20 سنة. عمل بالصحافة، ونشرت له العديد من المؤلفات التي تناقش المجتمع والسياسة الإيطالية. كتب كذلك عن فريق كرة القدم المفضل لديه "تورينو إف سي". نُشرت أول رواية له عام 2010 تحت عنوان "آخر سطور الأسطورة" وبيع منها 250000 نسخة في إيطاليا وتُرجمت لعدة لغات. وصدرت هذه الرواية "أحلام سعيدة يا صغيري" عام 2012، والتي كانت أكثر الروايات مبيعًا في ذلك العام؛ حيث بيع منها أكثر من مليون نسخة.
مقتطف من الرواية:
عشية ليلة رأس السنة الماضية، اقتحمت المطبخ مسرعًا، مُعلنًا لأُمِّي خبرًا هامًّا:
- ماما، هيَّا استعدِّي. لقد أقنعت أبي أن يأخذنا لمشاهدة الفيلم الجديد "جيمس بوند".
أجابت أُمِّي وكأنها تغيظني:
- حسنًا، لن أذهب من دون "مادامين"!
آه، إنني أطلب منها الخروج معي! ألا يَكفيها ذلك؟ ألم أعد أكفيها بعد الآن؟
- حسنًا، دعيني وشأني! إنني أكرهك!
أسرعت إلى غُرفتي مغلقًا على نفسي جيِّدًا بالمزلاج، الأمر الذي استلزم سلطة أبي كي يُرجعني عن قراري وأفتح الباب.
ظلَّت أُمِّي بجانب "مادامين" وأيديهن متشابكة طوال الفيلم؛ "العميل 007 في خدمة سرية لصاحبة الجلالة". لم يكُن "شون كونري" البطل المعتاد هذه المرَّة. ألعلَّهم استبدلوا أُمِّي أيضًا؟ لم أعد أدرك من تكون تلك المرأة، وبدا ذلك جليًّا ممَّا فعلته في تلك الليلة. آه، ليت أحدهم أخبرني بأنها الليلة الأخيرة التي سنقضيها معًا!
كانت ترقد على فراشها عندما نادتني وطلبت منِّي الصفح عما بدر منها في أثناء مشاهدة الفيلم. تعانقنا بشدة بطريقتنا المعتادة؛ وتلامس شعرها برأسي، واستنشقت رائحته. اعتقدت حينئذٍ أن أُمِّي التي أعرفها ستعود لي مثلما كانت، ولكن ظهر ضعفها على الفور، وانتابتها نوبة سُعال شديدة. أوصتني مجددًا بصوتٍ متهدجٍ أن أتعامل بأدبٍ مع الجميع، لثقتها بأنني لم أكن أتحمل التعامل مع أي أحدٍ، حتى مع المتسولين.
- حسنًا يا أُمِّي. تصبحين على خير. هل أذهب الآن؟
- بالطبع، أحلام سعيدة يا صغيري.
- لست صغيرًا، فسأصبح أطول منكِ قريبًا.
- بالتأكيد، بل وأقوى أيضًا. أتعدني بذلك؟
لم أعد أستطيع التحمُّل أكثر من هذا، فأسرعت إلى غرفتي. حتى إنني لم أغسل أسناني كنوع من التمرد، وانزلقت تحت الغطاء على الفور، مستغرقًا في نومٍ عميق.
كشفت لي "مادامين" لُغز الرداء المُلقى بجانبي. أيقظ أُمِّي "شرٌّ لعين" في أثناء الليل، وتوسلت إليه أن يصبر ولو قليلًا؛ فهذا هو وقت الاطمئنان عليَّ في غُرفتي والتأكد من أنني ما زلتُ ملفوفًا بالغطاء. عند خروجها من الغرفة، كانت قد نسيت خلفها ذلك الرداء بجوار الفراش.
انتابت "مادامين" موجة من البكاء، ولم تستطع الاستمرار في الحكي أكثر من ذلك، بل ودائمًا ما كانت تتوقف عند تلك النقطة تحديدًا. لم أتخيل كيف صارعت أُمِّي ذلك الشر اللعين؟ لعلَّه مخيفٌ بعض الشيء، لذا فقد أنعم الله على جميع الأمهات بنعمٍ كثيرة، ولم يكُن مستحيلًا أن تتمكَّن أُمِّي من إقناع ذلك الشر اللعين بأن يتركها في تلك الليلة وتأتي كي تُغطِّيني.
اختلق أبي - بخياله الضعيف - كل هذه الأكاذيب كي أتيقَّن من أن أُمِّي دائمًا ما تمنَّت لي الخير، حتى في لحظاتها الأخيرة. ومن يدري، فلعلَّها هربت مع هذا الشر بسبب أنها لم تعد تريدني من الأساس، أو قد تكون سئمت من أمر ما لم أدركه. ولكن لماذا توقفت عن حبي بهذه الطريقة المفاجئة؟
من المؤلم ألا تكون محبوبًا، ولكنَّ الأكثر ألمًا أنك لم تعُد محبوبًا كما كُنتُ من قبل. فالحب من طرف واحد تضيع أهدافه، بل إن الشعور الوحيد الذي يمنحه إيَّاك؛ هو الشعور بالحرمان. يأخذ منك المُحِب كل شيء، ولا يعطيك أي شيء سوى في مخيلتك فقط. ما إن يتوقف ذلك الشعور المتبادل بينكما، تتوقف معه على الفور طاقة الحب بكل قسوةٍ. يشعر أولئك الذين تم هجرهم بأنهم مذنبون بلا سببٍ، وكأنهم حلوى سيئة المذاق، ينفر منها كل من تذوقها.
كانت تلك هي مشاعري التي لم أتمكَّن من استيعابها بمفردي. لعلَّ أُمِّي ذهبت بحثًا عن طفلٍ يجعلها أكثر سعادةً. على الرغم من كل ذلك، شعرت بأنها قد تعود مرَّة أخرى، حتى لو بصُحبة ابنٍ آخر. حسنًا، سأتحلَّى بالصبر، مُعلنًا استعدادي لقبول أي إهانةٍ، شرط أن تعود إليَّ.
***
عاهدتُ نفسي على انتظارها، ولكن الحاجة إلى ترشيح أُمٍّ بديلة باتت مُلِحَّة، ولسوء الحظ استبعد القدر أولئك المُقرَّبات لقلبي.
كانت الجدَّة "إيما" - والدة أبي الرومانية - واحدة من هؤلاء النسوة اللائي تناقلت بشأنها أساطير عجيبة. لعلَّ من أشهرها؛ أنها صفعت أحد شابًا من بلدها - أصبح دوقًا فيما بعد - عندما حاول مغازلتها على كومة القش. كان مصدر هذه المباهاة غير المنطقية هو جدي الاشتراكي، ولكن كل من كان يتلقى ضربة من يدي جدتي، كان يُسلِّم بحقيقة الأمر. هناك رواية أخرى، وكانت مؤكدة بالبراهين، حيث داهمت جدَّتي موقع بناء أسفل المنزل، وأجبرت مهندس الموقع المسؤول، على دفع رواتب العمال المؤجلة، بعد أن رفعت في وجهه عصا العجين المُتَّسخة بالدقيق. وهدَّدت أولئك العُمَّال بعد ذلك، مُستخدمة العصا نفسها، إذا تجرَّأوا وصرفوا رواتبهم في الحانات بدلًا من وضعها في أيدي زوجاتهم.
عند بلوغها الثلاثين من عُمرها، انتقلت للعيش مع جدِّي في "تورينو"، وعملت حارسة عقار خلال النهار، أما في المساء فكانت تتجوَّل في مطاعم البيتزا كي تبيع بعض منتجاتها؛ سجق لحم الخنزير، وأطباق العصيدة. احتفظت جدَّتي بمدخراتها في صندوق صفيح، وبمجرد حصول جدِّي على راتبه - كان يعمل سائق ترام – تستولي عليه جدَّتي على الفور لتلبية حاجة البيت من النبيذ من جهة، وخوفًا من أن ينفقه مع أصدقائه من جهة أخرى. وهكذا كانت تضعه في مأمنٍ بجانب راتبها.
قسمت الجدَّة "إيما" ذلك الكنز إلى ثلاثة أكوام؛ الأول للفواتير، والثاني للتسوُّق، أما الجزء الثالث - وهو الأهم - فكان لتحقيق رغباتها. اعتنت جيِّدًا بنموِّ تلك اللائحة على وجه الخصوص شهرًا تلو الآخر، وتنامت بداخلها رغبة غامرة في اقتناء الغسالة، والثلاجة، وماكينة الخياطة. لم يجرؤ أحدٌ من أفراد العائلة على الاقتراب من ذلك الصندوق؛ فكان عليهم أن يواجهوا تلك المرأة العجوز ذات الجسد البدين، والذي ينم عن كل هيبة وسلطة كشخصها تمامًا.
بلغت لائحة الرغبات مرحلة النضج، وفي الحال اتَّجهت جدَّتي إلى المتجر مُرتدية فستانها الخاص بالمناسبات، وارتسمت على وجهها علامة النصر، لدرجة أن الأميرة في قصة "الأميرة وحبة البازلاء" الأسطورية لن تتمكَّن من منافستها بعد الآن.
في ذلك اليوم، اقترح عليها البائع الدفع بالتقسيط. نظرت إليه شزرًا كما لو كان دقيقًا تريد عجنه بعصاتِها المُفضَّلة قائلة:
- آه، هل تعتقد حقًّا أنني غبية لدرجة أنني أستمر بالدفع لأجل شيء صار بحوزتي بالفعل؟