أزمة ثقة بأميركا قبل أي شيء

حسابات الإدارة الأميركية قد لا تكون في مكانها عندما تعتبر أنّ الغاز والنفط الإيرانيين سيساهمان في التخفيف من حدّة أزمة الطاقة التي يعاني منها العالم.
ثمّة توجه أميركي وايراني إلى عقد صفقة توفر لطهران أموالا هي في اشد الحاجة إليها
ادارة بايدن فشلت في طمأنة حلفائها في المنطقة ونجحت بإغراق بوتين في الوحول الأوكرانية

بعد سنة على الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان، يتبين كم أن الإدارة الحالية في واشنطن بعيدة عن فهم الشرق الأوسط والخليج وابعاد الدور الإيراني في المنطقة. كان لا بدّ من ظهور إرهابي من نوع ايمن الظواهري في كابل كي يتأكّد الأميركيون من أنّ حركة مثل "طالبان" لا يمكن ان تتغيّر.

استطاع الأميركيون التخلّص أخيرا من الظواهري شريك أسامة بن لادن في التخطيط لغزوتي نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001. كشف ظهور الظواهري في كابل أن "طالبان" و"القاعدة" توأمان وأنّ حرب أفغانستان التي استمرت عشرين عاما لم تحقّق أيّا من أهدافها.

في النهاية، عادت "طالبان" إلى حكم أفغانستان وعادت توفّر ملاذا للإرهابيين من "القاعدة" وغير "القاعدة". كلّ ما في الأمر، أن اميركا لم تعد قادرة على تحمّل استمرار تلك الحرب المكلفة في ضوء الفشل الذريع في إقامة نظام عصري قابل للحياة في كابل. كان الانسحاب من أفغانستان ضرورة اميركيّة، لكنّ الأحداث كشفت أنّ مثل هذا الانسحاب، بالطريقة التي تم بها، بعث كلّ الإشارات الخطأ إلى حلفاء اميركا في المنطقة. شعر هؤلاء الحلفاء أن الإدارة الأميركية لا تمتلك استراتيجية بعيدة المدى في منطقة حيويّة تمتلك كميات كبيرة من مصادر الطاقة. التي ما لبثت ان عادت إلى الاهتمام بالمنطقة في ضوء الحرب الأوكرانيّة وأزمة الطاقة التي تسبّبت بها.

من حقّ هؤلاء الحلفاء الذين يجدون نفسهم امام إدارة عاجزة عن تقدير خطورة المشروع التوسعي الإيراني وضع يدهم على قلوبهم، خصوصا بعدما بدا انّ إدارة بايدن تتجه إلى توقيع صفقة مع ايران في شأن ملفّها النووي. تكشف مثل هذه الصفقة أن "الجمهوريّة الإسلاميّة" في ايران في وضع لا تحسد عليه بسبب الفشل الداخلي على الصعيد الاقتصادي قبل أي شيء آخر. قدمت "الجمهوريّة الإسلاميّة" تنازلات كبيرة لأميركا بعدما اكتشفت أنّ إدارة بايدن لا تستطيع الموافقة على رفع "الحرس الثوري" من قائمة الإرهاب. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أن إدارة بايدن تجاهلت المشروع التوسّعي الإيراني وادواته وتجاهلت خصوصا برنامج الصواريخ والمسيّرات الإيراني. مثل هذا البرنامج يشكلّ تهديدا لكلّ دولة من دول المنطقة. هذا ما ظهر واضحا عندما راحت ايران، قبل فترة قصيرة، تطلق صواريخ بعيدة المدى ومسيّرات من اليمن في اتجاه الأراضي السعوديّة والإماراتية.

ثمّة توجه أميركي وايراني إلى عقد صفقة توفّر لإيران الحصول على أموال هي في اشد الحاجة إليها. هناك اطراف عدّة تلعب دورا في اطار تشجيع مثل هذه الصفقة. هناك اللوبي الإيراني في واشنطن، وهو لوبي لا يمكن الإستهانة به، وهناك دول في المنطقة مثل قطر تمتلك مصالح مباشرة مع ايران بسبب مشاركتها في استخراج الغاز من حقل واحد يمتد في البحر بين البلدين...

متى ستجد ايران أنّ الوقت بات مناسبا لعقد الصفقة مع "الشيطان الأكبر"؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها في وقت تبدو "الجمهوريّة الإسلاميّة" في حاجة اكثر من أي وقت لرفع جانب من العقوبات الأميركيّة عنها.

عقدت الصفقة أم لم تعقد، سيظلّ مطروحا كيف التعاطي مع المشروع التوسّعي الإيراني الذي تعتقد "الجمهوريّة الإسلاميّة" أنّه علة وجود النظام فيها، لا لشيء سوى لأن هذا النظام في حال هروب مستمرّة إلى خارج حدوده. تفسّر حال الهروب هذه التصعيد الإيراني في العراق، كذلك التصعيد في سوريا ولبنان واليمن حيث يمارس الحوثيون لعبة في غاية الخطورة. إنّهم مهتمون باستمرار الهدنة اليمنيّة من جهة لكنّهم يتابعون حملة تجييش وتعبئة من جهة أخرى. يصرّ الحوثيون، الذين ليسوا سوى أداة ايرانيّة على نشر اشرطة عن تخريج مئات المقاتلين الجدد الذين يمتلكون أسلحة حديثة وآليات ودبابات. ما الذي سيفعله الحوثيون بهؤلاء المقاتلين؟ هل يعدون العدة لجولات قتال جديدة... أم انّ هدفهم يقتصر على تهديد دول الجوار، في مقدّمها المملكة العربيّة السعوديّة؟

فشلت الولايات المتحدة في طمأنة حلفائها في المنطقة. نجحت إدارة بايدن في اغراق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانية. لكنّ ذلك لم يحل، بعد ستّة اشهر من بدء الحرب الروسيّة على أوكرانيا، دون تعميق الأزمة الغذائية وأزمة الطاقة في العالم. كلّ ما يمكن قوله أنّ حسابات الإدارة الأميركية قد لا تكون في مكانها عندما تعتبر أنّ الغاز والنفط الإيرانيين سيساهمان في التخفيف من حدّة أزمة الطاقة التي يعاني منها العالم. في احسن الأحوال، سيساعد ذلك في خفض سعر غالون البنزين في الولايات المتحدة نفسها مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية في تشرين الثاني – نوفمبر المقبل. ستكون لنتائج هذه الانتخابات أهمّية كبيرة في مجال تحديد مستقبل جو بايدن وادارته التي تسيطر في الوقت الراهن على مجلسي الكونغرس.

 لدى عرض شريط الأحداث التي شهدتها المنطقة منذ دخول جو بايدن إلى البيت الأبيض، يتبيّن أننا امام إدارة أميركيّة حائرة لم تستطع امتلاك زمام المبادرة في يوم من الأيّام. تريد هذه الإدارة مواجهة الصين وهي لا تعرف أن الصين باتت مرتبطة بعلاقات استراتيجيّة مع دول عدّة في المنطقة. تعرف هذه الدول تماما أن اميركا على استعداد لإرتكاب كلّ الأخطاء التي يمكن ارتكابها من اجل خدمة المشروع التوسعي الإيراني.

يؤكّد ذلك ذهاب إدارة بوش الإبن إلى العراق في العام 2003 قبل انتهاء المهمة التي ذهب إليها الجيش الأميركي في أفغانستان. سلّمت اميركا العراق على صحن من فضّة إلى "الجمهوريّة الإسلاميّة". كل ما تلا ذلك مجرّد تفاصيل تدفع دول المنطقة ثمنها في الوقت الحاضر. تدفع دول المنطقة، بكل بساطة، ثمن أزمة الثقة في التعامل مع اميركا، قبل أي شيء آخر.

في ضوء غياب الثقة ليس مستبعدا ان تثير صفقة اميركيّة – ايرانيّة كل أنواع المخاوف في غياب أي جواب عن سؤال بديهي: ما الموقف الأميركي من سلوك ايران خارج حدودها ومن برنامجها الصاروخي ومن مسيراتها؟