عمر هبرة وهيمنة الغائب في الحاضر

إذا كان التشكيلي العائد من بعيد يعتمد على الأبيض والأسود في جوهر تجربته كون أحلامه رمادية ومظلمة أحياناً حسب قوله، فهو يضع الوجع بين الأقواس ويدعو علامات الإستغراب من باب الحذر، من باب الإنغماس في تربة لغة غير اعتيادية.

قد يستغرب المتلقي ونحن معه، كيف بفنان أن ينقطع عن الإنتاج لسنوات، قد تمتد لأربع وأربعين سنة مثلاً كما هو الحال مع الفنان الذي نحن بصدد الوقوف عند تجربته عمر هبرة (حماه 1955)، كيف به أن يتنفس وأن يعيش، كيف به أن يضع فراشيه وألوانه على الرف منتظراً كل هذا الوقت حتى يعود لينفخ الروح فيها من جديد، رغم أنه خلال أعوامه الطويلة تلك لم يكن بعيداً عنها، إذ كان يزاول جوانب أخرى منها، أقصد جوانب أخرى من الفن (مخرج صحفي، مصمم إعلاني)، فهو منذ عام 1982 مقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة وما يزال، فبعد سبع سنوات كمصمم للإعلان في صحيفة البيان بدبي إنتقل إلى قسم الكتب المدرسية وتطويرها لمدة عشرين عاماً، في منتصف آذار/مارس من هذا العام 2022 " عندما شعر أن مخزونه بات جاهزاً للعطاء عاد مسرعاً، عاشقاً ولهاً إلى اللوحة " محبوبته الأولى، وصدق من قال وما الحب إلا للحبيب الأول، عاد وفي جعبته الكثير ليقوله لها، ويخطها ويلونها بأبهى المشاعر وأنقاها، رغم يقيننا بأن كل ما يهدره الفنان من وقت بعيداً عن الفن هو هباء، خلق الفنان ليبدع، ويخلق ما يشاء، الوظائف الأخرى لها أصحابها، الفن نعمة من الرب لا يجب على عبده أن يبتعد عنها مهما كانت الظروف ومهما كانت الأسباب، أقول هذا وأنا أعيد مخيلتي إلى الوراء أربعة وأربعين عاماً، ماذا كانت قامة شجرةهبرة الفنية لو بقي عائماً في بحره الذي خلق منه وله، كم خسرنا من أعمال على إمتداد هذا الزمن، أقول هذا بحسرة عالية وأنا غارق بين أعماله التي تذهل وتدهش، كم خسرنا، نعم خسرنا الكثير فالفنانون رسلنا في هذه الحياة التعيسة، وحدهم يجملونها ويجملون الإنسان فيها، أقول هذا رغم سعادتي بعودته، فأن تعود متأخراً خيراً من أن لا تعود، كم من فنان طحنتهم الزمن وأنيابه، نعم سعيد بعودة هبرة إلى المكان الذي يليق به، إلى المكان الذي يجب أن يكون فيه، فريشته ليست عادية حتى ندير لها ظهرنا ونقول دعها تذهب في الزمن المر، ريشته ريشة فنان حقيقي لديه الكثير ليقوله وما لجوئه إلى السيريالية إلا لجوء المستغيث بالبحر الذي يتلاطم في دواخله والذي يرغب بالخروج دفعة واحدة، لا نقصد بكل ذلك مجرد عتب وتدوين مرتبط بمجاله الإبداعي، بل يقيناً أننا أمام فنان من الخسارة لنا وللزمن أن يهدر طاقته سنوات طويلة في أمور كان يمكن أن يقوم بها من كان، أمام الفنان فمكانه هنا بين السموات والآلهة، وقليلون من يحوزون هذا المكان ويقتربون أسراره.

عمر هبرة من خريجي كلية الفنون الجميلة بدمشق، قسم الحفر عام 1978 وبعدها بعام أي في عام 1979 قدم معرضه الفردي الأول في مدينته حماه صوناً للحب الممتلىء بالوفاء لها، وربما كان معرضه الفردي الوحيد، لهذا عليه أن يقبض على الزمن علّه يسخره لنفسه طالما ليس بمقدوره أن يعيد الزمن الذي مضى، عليه أن يقبض عليه قيمة للحياة وإحياء لطاقة فيه لا بد أن تلد وتخرج إختياراً كأعمال فنية تكون ذاكرته البعيدة منها والقريبة، دون أن يقوم بإقصاء أي حقل من حقولها، ولا حدود جوهرية بين تلك الحقول، فجميعها مثمرة ولكل ثمرة منها طعمها الخاص، ولا نقصد بذلك أن يقوم كنظام بتدوين كل ما هو مرتبط بأنشطتها، بل بمحتوى هذه الأنشطة نفسها، وبذلك يبرز مفاهيمها التي هي مفاهيمه لأكثر عمليات الخلق لديه، وبذلك يخطو خطوة خارج السياج وهذا يمكنه أن يوظف بطريقة معينة وبأسلوب معين تلك المقولات التي سنقرأها داخل جسد تجربته، التجربة التي تستعيد غرابتها وفق ما تثيره من أسئلة تعلن عن ذاتها، والإجابة عليها لا تخضع لتبعية الحقيقة، شأنها شأن كل ما تبحث عن دلالات لا منطقية، غير قابلة للإختزال، فكل تراكيبها تحمل كل التحديدات المرحلية وإن ضمناً تساهم مساهمة عظيمة في تحرير الدال من المدلول الأولي، من إعتمادها على مفهوم خاص للحقيقة، من إعتمادها على مادة متخيلة في تجريبتها، التجربة التي تعد في نقائها الأقرب لتحقيق شرط الحقيقة وهي تنسل من بين أوهام طالما بقيت تعري نفسها بنفسها، فليست بهذه السهولة تفكيك مفرداته وما تحمله من أسارير، يلزمنا الكثير من المستلزمات حتى نتقن لغته وندخل عالمها، إن كان داخل المساحة المحدودة لهذا الإختراق والمحكومة بأسئلة تحمل إحتجاجها في بهاء حضورها، أو كان في حركة التجاوز ذاتها وهي غير قادرة على كبح جماحها وهي تمضي لبلوغ الحد، وهناك تقاطع بين معانيها وصوتها، وهذا موقف تسجل لمحتواه ومتجاوز لحركيته في ذات الوقت، حقاً إن ما يطرحه هبرة لا يمكن أن يفلت من حركة الدال وإن حمل الكثير من الإختلاف، ويجعله يحظى بتفضيل كل ما هو غريب بسبب إمتلاكه لخاصتي الكشف والإخفاء وهذا يدعونا بالضرورة إلى التأمل في صيغه اللغوية وهي تؤسس لهيمنة الغائب في الحاضر بما يمكن التفكير بها وبنظامها التي تعمل أساساً على ترسيخ الإختلاف.

إذا كان عمر هبرة يعتمد على الأبيض والأسود في جوهر تجربته كون أحلامه (أحلامنا) رمادية ومظلمة أحياناً حسب قوله، فهو يضع الوجع بين الأقواس، ويدعو علامات الإستغراب من باب الحذر، من باب الإنغماس في تربة لغة غير اعتيادية، لغة تسمح لعناصرها باللعب داخل الشكل الكلي لبنيتها، البنية ذات المركز الذي يمثل الاتساق والتماسك ذاته، بل البنية بوصفها سلسلة استبدالات لقانون الحضور المنفي في نفسه، ومع ذلك فقد أضحى لديه سيرورة الدلالات هي التي تنظم تلك الإستبدالات، وبذلك يخلص إلى فكرة أساسية هو تحديد الوجود كحضور بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني، فالوضع الذي يعلن عنه هبرة بالأبيض والأسود هي مرحلة تشكله، مرحلة تستدعي تحليلات وقراءات لا تنتهي، ولكن إذا حاولنا أن نحدد بعض النقاط، لا للمفارقة، بل لغرض عرض بعض الملاحظات التي تجعل من تلك المرحلة مرحلة إرتباط بصورة مطلقة بإنتاجه الرصاصي (نسبة إلى قلم الرصاص)، فهو بداية يغامر ميتافيزيقياً، في مساحات غير محدودة في الزمان والمكان على نحو مباشر، هي قد تحد نفسها بنفسها وهذه ميزة تسجل له وتجعله يحدث إتفاقاً بين الذات المبدعة وما يجعلها تؤدي وظيفتها مهما أفلتت منها دروبها، وهو قادر بقيادتها إلى انقلاب له أعمق الأثر في تجربته، التجربة التي يعشقها الرسم بالأبيض والأسود، وفي الأخير أحب أن أردد معه مقولته التي تلخص حجم الطاقة التي يحملها في دواخله وأعيدها له : "نعم لديك الكثير من العنب، والأهم أن تصنع أنت منها النبيذ"، ولك قدرة على ذلك وبطعم مختلف تماماً.