بروز علي يعيد الفعل الجمالي إلى جوهره قبل ظاهره

أعمال التشكيلي السوري تفيض برهافتها الفنية والإنسانية وبفطريتها وأحاسيسها وتجعلنا نضع أيادينا على حكايته بكل أوجاعها وبكل ما تبثها من قصص وعبر وصف تفصيلي لكن ليست بدفعة واحدة، بل على دفعات وجرعات تستغرق زمناً طويلاً وهي تغادر الأعمال لتستقر في روح وقلب متلقيه بكل عواطفه وتعبه.

يلاحظ من القراءة الأولية لتجربة بروز علي (القامشلي - 1980) أنها تجربة تصاعدية، فالسرد البصري لديه في حالة من التطور الدائم، ولهذا يرى من الواجب عليه أن يضيف شيئاً في كل عمل يخرج من بين أصابعه، وقائمة المهمات لديه طويلة قد لا تنتهي، نعم الحالة الإبداعية لديه مهمة ومسؤولية، ولهذا هي من أهم عناوين حياته، وفي أعلى القائمة لديه، لا ينتظر منها أن تصل وتعلن عن ذاتها، بل يمضي هو إليها ويعيد البحث كثيراً في تفاصيلها، وفي بعض الإستدلالات المضمرة منها، إن كان في العلاقة بينها وبين الإبداع كمشاريع غير مؤجلة، أو في الكشف عن محركاتها الرئيسية على وجه الخصوص، فإشارات البحث والكشف في شريط تجربته تحيلنا إلى الوقوف عند مواقيت ملخصاته التي لا فكاك منها من السرد بلغته الخاصة، تلك اللغة الموحية والداعية إلى الحركة لإعادة الترتيب لفضاءات معتادة على ألا تغيب الفوارق عنها، الفوارق التي تؤكد مشروعية أسئلته بإجاباتها الموحية بذوبان بطيء، على ألا تغيب تلك التحولات عنها، التحولات التي تؤكد بقاء حكايته في الذاكرة مهما أطلق العنان لها، فكل ما في فضاءاته تتحرك بفعل التغيير حيناً، أو بفعل الروح الذي يترك تأثيره في كل أشكاله، بل في كل عنصر منها، ولا حاجة له في توسيع دوائر المشهد مهما أظهرت ضائقتها، فنسيج العاطفة فيها تحسم مصدر إلهامها، ومنبع وجدانها المرسوم من خيوط الضوء وأحباره، أو من خيوط الماء وزرقته، فبروز يلح في تقصي لغات الإبداع بعيون مفتوحة على الحياة طولاً وعرضاً وسطحاً وعمقاً، على الفنون وتجاربها وقيمها الجمالية، وهذه إستجابة لحاجاته التي يجدها هنا، فلا سبيل له إلا التأمل دائماً في خصائص فنه وأدواته وتقنياته بحثاً عن الأبقى، فهو لا يجازف بالألوان مثلاً حين يتحمس لها، بل يعود إلى الحقل وما ينقصه، إلى تجلياته وما يوصلها إلى الآفاق المفتوحة، فهو قبل كل شي يدرس ما يتملكه من رغبة، فربما كان عليه ألا يعلن الإكتفاء، وأن يقاوم تلك النمطيات بدقة عالية، وبثقة حتى تكون المدى أكثر اتساعاً للقاء والتواصل والاتفاق.

وإذا نظرنا بإمعان أشد إلى ما يعكف عليه بروز علي من مشروع له خياراته المفتوحة وجدنا أنه يجعل من الذهاب في اتجاهات مرتبطة ببناء موضوعات بحثه هي الأهم، فيدخل في تفاصيل الإطارات الكبرى، وبها يذهب وبيسر وسهولة إلى مشاهد فيها تتحرك شخوصه المرسومة من أحاسيسه ذاتها، فالفضاء المتخيل ذاته تتماثل الخيالات فيه على نحو ما تجعل المشهد متحركاً على نحو دائم وكأن الزمن غير معلوم تماًماً، أو أنه مدرك إلى حد ما، وبما يشي به من تشكيلات لا تعارض نبضاته، فهو لا يقيد عقارب ساعته على توقيت ما، بل يحاول جاهداً أن تكون دقاتها إنسانية عامة، فالألم ذاته في الأجساد والأرواح كلها، نعم كأن الزمن عنده غائم جزئياً وفي ذلك تكمن شيفرة أقفاله الكثيرة، وإن كانت لغته الخاصة به تجعله يتكىء لا على السرد اللوني فقط، بل على ما ينداح منها ومعها أسئلة تدفعنا إلى النقاش في إتجاه بحثه وتحليلها إلى إتجاهات أخرى، فهو يعيد الفعل الجمالي إلى جوهره قبل ظاهره، فأعماله تفيض برهافتها الفنية والإنسانية، تفيض بفطريتها وأحاسيسها، وتجعلنا نضع أيادينا على حكايته بكل أوجاعها، وبكل ما تبثها من قصص، وعبر وصف تفصيلي لكن ليست بدفعة واحدة، بل على دفعات وجرعات تستغرق زمناً طويلاً وهي تغادر الأعمال لتستقر في روح وقلب متلقيه بكل عواطفه وتعبه، فهي تحفل بتفاصيل ملامحها، وبدراماها التي تزداد تراجيدية كلما تباين فيها كل من زمن الوصف، وزمن السرد، فهو أي بروز يستطيع أن يعيد بنا إلى نواظم وتداخلات أموره الفنية على نحو يلفت نظرنا إلى دلالاته السردية التخييلية بما يخدم ثماره المنتجة والجدل الخصيب الذي يقودنا إلى التمركز داخل لعبته، أقصد لغته ونظامها، والتي توحي بدورها بإدائه الإبداعي الموفق.

إن ما يثير إعجابنا لدى بروز علي أنه يمنح عمله شكلاً أقرب إلى التوليف الفني إذا جاز لنا أن نسميها بذلك، ولا يمنع تبعثرها في فضاءاته، فهو يقوم بإسقاط ما لديه على البياض على نحو يؤدي به إلى اللعب الحر، فلا شيء يكبح حريته، فيعمل بنفسه على خلق أرضية صلبة وحاضرة بما تسمح ل/بنفسها للتفسير، وإستخلاص كل المقولات التي ترغب بأخذ مكانتها بعيدة عن المناورات اللونية، ويقوم بروز علي بعد ذلك بتغليفها بخطوط لوجوه مجازية هي نقطة إنطلاقته في مشروعه الفني، فهذا التغليف هو في الحقيقة صورة المدى وهي تكشف ما يذهب إليها، والتي هي رهينة مرواوغاته الأسلوبية وبحثه عن الحقيقة بكل مجازاتها وإستعاراتها وكتاباتها ورموزها مهما كان العمل مزدحماً، ومهما كانت الأمكنة وجعاً، وهو يقنع نفسه تماماً بأن تعبيراته تلك تحمل من اللحظات ما يترك في دواخله ألماً لا يكتفي بالتأمل مهما كان عميقاً، فكان لا بد من الدمج بينها، وبين تلك الأشكال الموحية حتى لا تأتي الولادة قيصرية.