"منى" العيش في ظل قتال لا يعرف الإنسان مصيره فيه

تنسج الكاتبة التشيكية بيانكا بيلوفا أحداث الرواية بمكان ما في الشرق الأوسط بكل ما في حياة الشرقيين من تفاصيل يومية.

رواية التشيكية بيانكا بيلوفا "منى" هي رواية ديستوبيا، رواية واقع مرير، واقع لا يزال يهيمن عليه الذكور وبؤس الخرافات، حيث نجد أنفسنا في بلد لم يذكر اسمه في مكان ما في الشرق الأوسط تحكمه ديكتاتورية دينية وعسكرية، يعيش الناس فيه على بعد خطوات قليلة من حافة الهاوية، حيث يأخذ الفقر أو البؤس أو الأعداء، سواء أكانوا خارجيين أم داخليين، كل شيء منهم. 
على هذه الأرض التي دمرها الصراع العنيف، تعتني ممرضة تدعى "منى" بالجنود في مستشفى مرتجل في وضع يتم فيه تجاهل حقوق الإنسان الأساسية، وخاصة حقوق المرأة،  في هذا المستشفى أو أنقاض المستشفى التي تعمل بها تلتقي بصبي مراهق يبلغ من العمر ثمانية عشر عاما اسمه آدم، فقد ساقه في المعركة وهو مصاب بالحمى والهذيان. 
ويصبح الصمت الذي يتشاركانه وسيلة للسماح لكليهما بالتذكر. تريد منى أن تكون مستقلة وتحاول محاربة العادات القديمة والجديدة، فيما يفتقر آدم إلى إرادة العيش..

الماضي الذي تكشفه المشاهد المحددة بدقة لا يعلن على الفور دوافع الشخصيات ويظل القارئ في حالة تشويق دائم طوال الوقت. مثل البحيرة الجافة المحاطة بجو غامض وقمعي، وكذلك الظلام المنتشر جراء نباتات الغابة التي تنمو على جدران المستشفى وتشق حوائط بيوت القرية. هذا لا يرمز فقط للحرب والصراع العسكري، والفقر العام والخراب والبؤس الاجتماعي، ولكن أيضا للانهيار البيئي وتأثيراته النفسية المدمرة على حيوات الناس.

الرواية التي ترجمها الدكتور خالد البلتاجي وصدرت أخيرا عن دار صفصافة جميلة ومؤثرة بشكل لا يصدق عن الإنسانية والتفاني والمثابرة والتصميم البشري على الاستمرار في العيش، ولكن أيضا حول كيفية العيش بشكل كامل في ظل ظروف بائسة وقتال لا يعرف الإنسان مصيره فيه.

تتذكر "منى" طفولتها وشبابها عندما كانت البلاد لا تزال حرة نسبيا، وكذلك والديها. لقد كانا زوجين محبوبين خلال طفولتها. ومع ذلك اختفيا ذات يوم، ونشأت هي مع جدتها، التي أخفتها في البداية من خطر وشيك في زنزانة في الطابق السفلي. ومن ثم تجبر على النوم مع الضوء ليلا حتى لا تعاني من كابوس هذا السجن. 
في وقت لاحق تزوجت منى وأنجبت ولدا لكن الحياة الأسرية لم تكن على ما يرام. في المقام الأول لأن ابنها عطا وزوجها كامل لم يكونا نموذجين للود، فالابن كما الزوج يعترض على محاولاتها العديدة للتحرر. لكن على الرغم من القيود المحيطة بها، تخرج إلى الأماكن العامة دون حجاب وتتحدى الحظر الصارم بطرق أخرى. وهكذا بين الحاضر والماضي، نعيش مع "منى"، طفولتها المؤلمة وغير العادلة، ونتتبع الأكاذيب والدراما والوحدة، الأخطاء، الندم المحاك باللامبالاة والعصبية، الأمر الذي غيرها إلى الأبد.
وفي ذكرياته ، يعود آدم إلى الوقت الذي كان فيه صبيا: الحب الأول، الصداقات، تلك الروح المرحة المقدر لها ألا تستمر مع وصول الحرب، يذكر أنه لا يزال يحمل اسم "هاني". 
لم تكشف المؤلفة سبب حمل آدم لاسم "هاني" أثناء مكوثه في المستشفى، فقط أشارت إلى أن آدم/ هاني لا يريد أن يعرف أي شخص ماضيه. يتذكر إصابته " انتظر إلى ما بعد الانفجار، ثم قام وانطلق يعدو. يشهق من أنفه، ويزفر من فمه. عشرة أمتار؟ إثنا عشر؟ بعض الأجساد ملقاة على الأرض، وبعضهم يهرب. 
قاذفة اللهب على الأرض، حملها وهو يجاهد نفسه، نصف خزانة البندقية على الأقل لا بدّ أن يكون ممتلئا. رأى بطرف عينه صلاك، شقيق السلاح؛ مد جسده، وقبض على قاذفة اللهب، وهز له رأسه".

بيلوفا هي مترجمة وكاتبة تشيكية ذات أصول بلغارية، ولدت عام 1970وحصلت رواياتها على جوائز أدبية في أوروبا  

ما هو القاسم المشترك بين منى وآدم؟ الكرامة وحب الحياة، في حين أن العالم الخارجي غارق في العنف والحرب والاضطهاد ضد المرأة، يحتفظ الإثنان بقوة المبادئ، إنهما صادقان مع نفسيهما، ومن ثم فإنهما يخلقان رابطا يمكنه التغلب على كل الرعب المحيط بهما.
وبيلوفا هي مترجمة وكاتبة تشيكية ذات أصول بلغارية، ولدت عام 1970، نشرت العديد من الأعمال الأدبية وترجمت رواياتها إلى العديد من اللغات، وفازت رواية البحيرة لبيانكا بيلوفا على أكبر جائزة أدبية تشيكية عام 2017. كما حصلت نفس الرواية على جائزة الاتحاد الأوروبي للأدب في نفس العام.
وهذا مقتطف من الرواية: 
اختفى أبي فورا من المدينة بعد اللقاء، وفي اليوم نفسه ألقوا القبض على العم چان چاك. بقي في السجن شهرين، قضى نصف المدة تحت التعذيب. كسور وحروق في جسده، وجروح غائرة عاد بها من هناك، مصحوبًا بتلف في مركز الاتزان بالمخ، فظل لوقت طويل يسقط على الأرض فاقدًا وعيه. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد. لكنهم طردوه من عمله، وكان ذلك غاية أمانيه. فقد عمله في الإذاعة، وسرعان ما التحق بالعمل في إدارة التحرير في إحدى المحافظات، ومع الوقت عاد إلى ما كان عليه. عرفت كل هذا بعد أعوام من زوجته. عمي العزيز چان چاك. مات العام الماضي بسرطان الرئتين.
آدم يهذي، فقد انتباهه لما تقول منذ وقت بعيد. تشعل المصباح بعد أن هبط الظلام. التفت أفرع شجرة لبلاب دؤوبة حول سلك المصباح. جسد آدم يشتعل من الحمى، أنفاسه تتلاحق لاهثة، نبضات قلبه تهرول مثل مُهْرة هائبة. قضت مُنى في المستشفى ما يكفي من السنوات كي تعرف تبعات تعفن العظام، ومصير مريض مثله. 
تسوي له الغطاء كما تعلمت في المدرسة، وتفحص كيس الجلوكوز، ثم تجفف جبينه وكفيه. تقول باهتمام:
سأحلق لكَ ذقنكَ
آدم لا يستجيب لما تقول.
تسألها ممرضة الخدمة الليلية الناعسة عندما تلتقيها في الدهليز وهي تحمل نصل الموسى في صينية، وينعكس عليه ضوء الدهليز الخافت.
أما زلتِ تخيفين المرضى هنا؟
احمدي ربنا أني أرعى المرضى عنكِ في غرفتكِ، وأخفف عنكِ عبء العمل

***
يقول آدم وهو يهذي:
عليكِ أن تقسميها إلى نصفين هكذا، من عمودها الفقري. يا إلهي، من أين جاء كل هؤلاء الأطفال؟ ابعدوا الأطفال عني، أستحلفكم بالله، ابعدوهم عني!.

***

الكاتبة التشيكية بيانكا بيلوفا

أول مرة يشعر فيها هاني بصفاء ذهنه إلى هذا الحد. بدا له كل شيء جليًّا، دون أي غشاوة أو شكوك، واضحًا مثل ليل الصحراء. وقف في حديقة بيتهم، يستنشق رائحة الياسمين، ويضخ الهواء في صاروخه، بينما تجمع أطفال القرية وراء السور، الصبية تعطيه النصائح، والصبيات يشهقن، إلى أن بلغ ضغط الهواء داخل الصاروخ نهايته في لحظة بعينها، وجب عليه عندها توجيه الصاروخ ليطير وهو يصفر، ويتخذ مداره المقصود، فتفزع الطيور، وتصفر البنات، ويصيح الأولاد حماسًا وهم يخبطون على ظهره. يقول أحدهم بعدها إنه ذاهب إلى الغدير، فينصرفون معه جميعا.
كان دانج صبيا وسيما، دون الندب، اصطاد مع هاني أسماك السالمون من وسط الصخور، يفرجان سيقانهما، ويدفعان أيديهما بحذر أسفل الصخرة، يتحفزان إن كانت تحتها سمكة، فيقبضان عليها بأيديهما، ويدسان إبهامهما في خيشومها كي لا تنزلق، ثم يحملانها وسط العشب، وبسكين جيب صغير يشقان ظهرها سريعا... بهذه الطريقة اصطادا ثلاث أو أربع سمكات، ثم شوياها في النار. شعرا بطعم اللحم الطازج على لسانيهما، أسماك طليقة من غدير الجبل. البنات تضع قطعًا صغيرة منها في أفواههن، وينظرن إليه بإعجاب. وقتها كان بطلًا حقيقيا.
أهذه بطولة وهو راقد الآن على تراب بارد في ليل الصحراء يراقب ألسنة النار مبعثرة في موقع الهجوم؟ يا إلهي، هؤلاء السفلة معهم قذائف مشتعلة. لا بطولة في أي مما فعله، لا شيء فيه يستحق وسامًا عسكريًّا، لا قيمه لأي وسام، المهم النجاة، هذا هو الهدف...
في لحظات كتلك اللحظات اجتاحت الوحدة العسكرية أوامر، صياحا صارما من القائد يحول أفكارهم المتلاحقة إلى عمل خاطف غبي أو هروب. في لحظات كتلك اللحظات، كلما تعلق الأمر بالحياة أو الموت تجمدوا جميعًا في أماكنهم، عاجزين على القيام بأي عمل. لذلك غالبًا ما تدربوا في مثل هذه الأوقات، ليس لأن التدريب قادر على لحظة الجمود هذه، لكن صياحهم قادر على تبديده. لكنه لم يسمع شيئا، لم يجد سوى هرولة رفقائه المرتبكة في الظلام، وسباب وبكاء. أين القائد؟ هزيمة مريبة تعرضت لها الوحدة العسكرية في موقف تدربوا عليه في كل يوم.
أسند رأسه إلى الأرض. كم من الوقت مر؟ دقيقة؟ خمس دقائق؟ توقفت الانفجارات وطلقات الرصاص، وعلا صوت صفير قاذفات اللهب، وعويل الجرحى المكتوم. ما العمل الآن؟ لعق شفتيه فوجدهما متورمتين مشققتين. تماسك. قنبلة عالقة فوق خصره، وجدها بسهولة. شعر أنها تضغط على أسفل صدره. لو رأته أمه، هل ستكون فخورة به؟ أم ستصفعه على وجهه عدة مرات؟ وماذا عن جدته؟ تشكك في كل شيء. بكت أمه عندما التحق بالجيش، وحزن أبوه، واحتضنه لأول مرة في حياته، وضمه إلى صدره للحظات في صمت. ثم انتفض وكأنه لمس جمرة. توقع هاني أن أباه سيباركه أو سيعطيه نصيحة عن النجاة، وسيقول إنه فخور به لأن ذاهب للدفاع عن أمر جلل، لكن أباه زم شفتيه بقوة، وشاح بنظره إلى ما وراء ابنه.
اتكأ على ساعده، والتفتَ من حوله بعينين منتفختين. ثلاثة، اثنان، واحد. القنبلة باردة، ومن الصعب تصور أن تصل حرارتها بعد لحظات إلى بضعة آلاف من الدرجات. ثلاثة، اثنان، واحد. قلبه ينتفض مثل سمكة سالمون على شاطئ نهر، يحاول أن يطير دون جسده، مثل بالون صغير بزمام منفلت. قبض على القنبلة في كفه، ومد ساقيه ليرى إن كان ما زال يتحكم فيهما. ثلاثة، اثنان، واحد. ضغط هاني بيمينه على ذراع الأمان، وسحب باليسرى فتيل الاشتعال. لم يكن الأمر سهلًا، بذل فيه طاقة أكبر مما توقع. صرخ. هيًّا! يمسك في يده قنبلة منزوعة الأمان، وعليه أن يفعل شيئًا. يا أمي! كيف جئت إلى هنا؟ سَرت في جسده موجة قوية، واختفى الإرهاق، وكذلك الألم. حسنًا.

رفع جسده، وجثم على ركبتيه، ثم مد ذراعه ورمى القنبلة. انفلتت ذراع الأمان في اللحظة التي غادرت القنبلة يده، ولم تعد قوة على الأرض قادرة على وقف الكارثة. رمى هاني القنبلة بتصويب موفق ودقيق كعادته دائمًا. ثم نام على الأرض سريعًا، حسب التعليمات، ليحمي رأسه من الانفجار.

***
بعد لحظات ستظهر الممرضات، يشعلن المصابيح، ويحملن أدوية الصباح ومقاييس الحرارة، ويأخذ العمال المرضى الذين وافتهم المنية قبل أن يحل الصباح. ليس آدم من بينهم. فمُنى تحرسه جيدًا. ولن تعطيه لهم.
تجلس على السرير، وتقبض على يده اليمُنى الخالية من حقنة الجلوكوز، تنظر من النافذة، فترى أشعة شمس الصباح الوردية وهي تخترق أفرع شجرة اللبلاب. 
متى رأيت الشارع آخر مرة، يا آدم؟
تسأله دون أي تأثر وكأنها تسأله إن كان قد سعل أثناء الليل. 
تقف، وتفتح النافذة، ثم تدور برأسها في أنحاء الغرفة. الجميع يتنفس في هدوء، أو ببعض الهدوء.