كاترينا رواية المقاومة اليائسة لتقلبات العالم

الرواية ممتلئة بالتساؤلات والأفكار الطازجة عن الحب والجنس والسياسة، وتكشف عن المقاومة اليائسة لتقلبات العالم التي تحاصر البشر في "حفرة جسد العالم".

تدور أحداث رواية "كاترينا" للكاتبة والشاعرة من لاتفيا داتسي روكشاني في ثمانينيات القرن الماضي حول "كاترينا" التي تبلغ السادسة عشر من العمر والتحولات المضطربة التي مرّ بها المجتمع اللاتفي في فترة استقلاله عن الاتحاد السوفيتي.
تبدأ الرواية مع "كاترينا" وأصدقائها في المعسكر الجبلي ثم تنتقل في لغة شاعرية حيث تحكي عن وقوعها في تجربة عاطفية مثيرة في معسكر التسلق مع أوليج المدرب المتزوج، وومضات ذكرياتها الطفولية وعلاقاتها العائلية خاصة مع أمها، تلك الومضات التي تتخلل النص فتشعرك بالتماهي الشديد بين المؤلفة وبطلتها، وتجذبك طريقة تعاملها البريئة مع الأشياء.
تتعدد تجارب "كاترينا" تلك الفتاة المبدعة الخجولة التي بالكاد يتم ملاحظتها في المنزل، تلتقي بحبها الأول في معسكر صيفي في القوقاز في نهاية الحقبة السوفيتية. 
ولسوء الحظ، تقع الفتاة الساذجة عديمة الخبرة في حب المدرب أوليج الأكبر سنا. لا تعلم أن عشيقها رجل متزوج وأب. 
وتدريجيا عليها أن تقول وداعا لعالمها البريء، لأن الأحداث غير المتوقعة خلال الاضطرابات السياسية في لاتفيا تجعل الحياة صعبة عليها أيضًا في المنزل، إنها امرأة في بحث أبدي عن ذاتها، بغض النظر عن الزمان والمكان، وفي بعض الأحيان حتى نفسها.
الرواية التي صدرت عن دار صفصافة وترجمها محمد رمضان حسين ممتلئة بالتساؤلات والأفكار الطازجة عن الحب والجنس والسياسة، وتكشف عن المقاومة اليائسة لتقلبات العالم التي تحاصر البشر في "حفرة جسد العالم"، يعيشون في يأس لدرجة انعدام الطعم، كما لو أنه لا يوجد مخرج، وهم في حصارهم في اصطدامات مستمرة مع أجسادهم وأجساد آخرى، مع الطبيعة، مع الحيوانات، مع الهشاشة، مع الحب، بطولة يائسة في حرب لا نهاية لها مع أشياء جاهزة للتحطيم في أي لحظة.

مقتطف من الرواية

تمددت على حافة النهر ترفرف فوقي فراشات عديدة ويغمرني ضوء أبيض دافئ يجذبني نحوه مع باقي الفراشات، أشعر بسعادة تفوق الاحتمال، تترقرق دمعة كريستالية في عيني، أنظر للضفة الأخرى من النهر وأشعر كأنها حافة سريري، بريق سطح موج الماء عند الضفتين يبدو أكثر لمعانًا بينما في الوسط هادئًا تمامًا، حيث تحتشد الكثير من الأسماك النهرية من نوع (بارش) التي لا يستطيع صيدها سوى أمهر الصيادين لخشونة جلدها وكثرة أشواكها التي تدمي اليد، أجلس لساعاتٍ طويلة أراقب طريقتهم في الصيد ورغم تعاطفي مع الأسماك لكني لا أجرؤ على السباحة فوق أماكن تجمعها في النهر فقد وخزتني مرتين من قبل.
لو قُدرَ لي تأليف كتاب عن نفسي فيجب أن أذكر فيه أني حمقاء وغير ذكية لأني لا أستطيع الحفاظ على علاقة طويلة مع أي رجل، منذ أن تركني (أوليج) ولم يعد يمكنني الأكل أو النوم كما في السابق، الوحيد الذي يمكنني التحدث إليه بحرية هو شاهد قبر أمي. 
ألقي بضعة أحجار في النهر لكن لا شيء يتحرك كصلاة خالية من التسبيح، أذكر كيف انتظرت بالأمس عودة أمي لتكلمني مرة أخرى وعندما أدركت استحالة ذلك تشنجت وظللت جالسة في الحديقة أتمنى الموت، لكن قبل ذلك أتمنى ظهور (أوليج) مرةً أخرى كي يدرك أنه فقد امرأة عظيمة وارتكب خطأ بشعًا، وبعد موتي تخرج روحي الشفافة لترافق (أوليج) بقية حياته. 
تُرى ماذا يفعل الرجال الأذكياء طوال الوقت لو لم يوجد هذا المخلوق اللطيف الساذج الذي يسمى المرأة في خلفية الأحداث داخل الحياة؟ لم أعد أنتظر ذلك الفارس الأمير القادم فوق حصانه من روسيا البيضاء.

***
في المساء تبدأ حياة جديدة، أبحث بعيونٍ لامعة عمن يقتل وحدتي! لكن حتى الآن لم أجد المرشح المناسب لهذا المنصب، لم يستطع معظم الآخرين تحمل إخلاصي، يمكنني تفهم ذلك، أنا ببساطة لست إحدى هؤلاء الطاهرات اللواتي تحيط رؤسهن هالات النور. 
لدى (كاترينا) دائما الكثير من الأسئلة التي تبدو بلا نهاية، سلة صغيرة ممتلئة بالأفكار الطازجة، فيمَ تفكرين؟ أتنشغلين بشيء؟ هل لديك مشاكل؟ ألا تريدين التحدث بأي شيء عن هذا؟ أتعلمين.. لديّ انطباع بأنك لستِ طبيعية، ها أنت تنشغلين الآن بسماع الأم (تريزا) ربما ينبغي عليك الانشغال بأفضل الأشياء، كنت أنشب أظافري لأكتشف العالم من حولي لكني أدركت بعدما كبرت أن يدي صغيرة جدًّا على هذا..

***
تشعر دائما أن حياتها بلا جدوى، كما في قصص الأطفال تتننافس دُمى اللعب فوق الأرفف، تريد كل منها أن تصبح الأفضل لتحصل على بيت خاص بها، تُباع في البداية الأميرات ثم تليها تلك الدمى المبطنة بالقطن والإسفنج وتبقى في المتاجر دائما الدمية الأسوأ حظًّا حتى يأتي رجل فضي الشعر يشتريها ثم يهديها لطفلةٍ يتيمة تقف وحيدة في مساء عيد الميلاد تتطلع بحزن إلى واجهة العرض المضيئة. 
ليس من الضروري أن نقول إن الدمية الأخيرة تصير الأكثر سعادة بين كل الدُّمى؛ لأن الأطفال اليتامى دائما ما يكونون هم أفضل الرفقاء للدُّمى أثناء اللعب معها، بينما أطفال الأثرياء نسوا من كثرة لعبهم أن يترفقوا بها ولا يعرفون كيف يحافظون عليها، لهذا ينبغي على المرء قراءة المآسي كثيرا، لكن للأسف لا يوجد ما يكفي من الكتب المأساوية في العالم، يحيا كل إنسان في الحياة كما تيسّر له أن يحياها.
***
أدرت رقم (أوليج)، يظل كلٌّ منا صامتا لفترة ثم نطق أخيرا قائلا لي:"سامحيني"، ثم.. تيت تيت تيييييييت.....
حسنا.. كلا ليس حسنا على الإطلاق، لا يمكنه وضع النهاية هكذا بكل بساطة، أريد أن أصرخ، نحن لم نتحدث بشيء..! لم أعد أحتمل كل هذا الصمت! حتى الراديو يبتلع صمتي، وينزوي كلب الجيران لا أسمع صوته، أنظر إلى نفسي؛ها أنا أتسلى ثانيةً مع (أوليج)، أشعل سيجارة، يجب عليّ إخماد تلك النار المربكة أسفل حجابي الحاجز، أحاول فقط تهدئتها بالتدخين حتى تمر الأيام سريعا.

***
منذ أن أنجبت (إيرينا) ابنها الأول وهي لم تعد ثانية إلى جمع القواقع، أول أمس رزقت بمولودها الثاني، كنت أطلق عليها فيما سبق (القوقعة إيرينا)، يا كلبي العزيز أطلب منك النباح ولو لمرةٍ واحدة تمزق بها سكوني، إني خائفة.. أنظر نحو النافذة، لا أحتاج الكثير، فقط نبحة واحدة، أبدو مثل القنفذ الذي يخرج منه الدخان، لم أعد أرى أي معنى في الكفاح من أجل البقاء، لو يستطيع أحدهم إعطائي سببا واحدا فقط لكل هذا، هيستريا الهدوء تكاد تقتلني، أفتح التلفاز فيباغت عيني ضوءه المبهر، تصطك أسناني، أتابع الدراما، يعود الشتات إلى رأسي ثانيةً عند رؤيتي لشاب يقبِّل فتاة قبلة حارة، هل هذا هو الحب؟ لا إنه فقط مجرد إعلان لمعجون الأسنان.

***
"أنتِ تفكرين دائما بمعاناتك السابقة، كيف تستطيعين العيش مع كل تلك الذكريات المؤلمة؟"، هكذا سألني (أوليج) ذات مرة عندما كان لديه الوقت للتحدث.
"ربما يكون بسبب حبي للصيد والذكريات!".
"وهل تجيدين الصيد؟".
"انسَ هذا الأمر!".
"أنتِ جريمتي!".
"لا تقل لي هذا، مثل هذا الكلام يخيفني"..

***
لا يمكنني وضع يدي فوق أي جزء من جسدي وأصدر له الأمر بالتوقف عن الحب، تكاد ذكرياتي المؤلمة أن تصلبني، تُمطرني برذاذ حارق في العين، آه.. أعاني ثانيةً من الانفصام، لم أعد الآن في حاجة لتلك الحرية التي تمنيتها من قبل، إنها مدهشة لكن مفزعة وموحشة في الوقت نفسه، لقد بدأت أملُّ من الخوف، قواعد لعبة الحياة تقتضي إمكانية حلي لمشاكلي، لكن ماذا لو كان العائق الوحيد أمامي هو جهلي بالقواعد، ياتُرى أين دُونت تلك القواعد، أين يمكنني أن أجدها في هذا التيه من الجبال الثلجية التي تبدو بلا نهاية، هذا الخوف الذي يُنسي المرء حتى كيف يتنفس، يجعله يتقلص بداخله ويشد حول وسطه حزامًا من أعباء الهم المقنطة، تظهر بوابات النار مفتوحة من بعيد، قائلة: "ألا تريدين يا حبيبتي الوصول إلى هناك؟".

***
تذكرت (أوليج) فرفعت يدي لأتحسس الهاتف، في الصباح أثناء ذهابي للعمل أوقفتني (إيرينا) قائلة:“انظري..! كم هو طفل جميل!”.
"نعم بالفعل، أتمنى أن يكون لي مثله أيضا"..
أتركها وأنا أفكر هل يا تُرى (أوليج) الذي قابلته في المعسكر يختلف عن ذلك الشخص الذي نسجت حوله خيالي ودونته في مذكراتي، لا يمكنني تخيل نهاية لتلك القصة، أريد فقط معرفة لماذا غير (أوليج) رقم هاتفه؟ لماذا قرر وضع النهاية بمفرده دون أن يقول شيئا؟ لهذا ينبغي أن أمتنع عن إعادة الاتصال به، الأمر الذي لا أستطيع فهمه حتى الآن هو لماذا ظننت من قبل أن (أوليج) سوف يطعنني في قلبي عندما يقول لي ذات يوم إنه لا ينبغي عليّ معاودة الاتصال به أبدا؟!..

***
قرأت ذات مرة أن الإنسان يحب عمره كأنه يضمه بين يديه، لكن إذا ما أخبره أحد أن أجله قد شارف على الانتهاء ولم يتبقَّ لديه سوى يوم أو يومان فإنه يبسط أصابعه ويود لو يمكنه إحاطة العالم بها، لكن للأسف يدرك وقتها مدى تأخره وتكون قبضته قد تحطمت بالفعل. 
مذ بدأت كتابة يومياتي ويمكنني إدراك الفارق بين الأمس واليوم والغد، عشت أوهاما كثيرة في سنواتي الأخيرة لا يمكن أن تحدث لأحد في الواقع، آه يا (كاترينا) المسكينة! دخلتِ في تلك اللعبة التي لا تدرين شيئا عن قواعدها، إنها لا تتيح للإنسان أن يصير فاعلا لكنه فقط يسلم نفسه لله حتى لو لم يؤمن بوجوده، ذلك هو جوهر النفس البشرية، وعندما تنتهي تلك اللعبة الشيطانية تتناسب أجزاء المشكلة بدقة، وبشكلٍ غير متوقع -أيضا- تسقط الحياة في تصوراتنا ثم ينقذنا الإله.
لماذا يغتر الإنسان دائما بنفسه، إنه لم يخلق شيئا في هذا الكون فكيف يصير خالقا. 
الأمر نفسه بالنسبة للحرية؛ ربما لم يُتح للبعض فرصة الاقتراب والمشاهدة من هذا الأمر الذي نشأ منه أساس كل شيء، ربما يقترب البعض قليلا، ويرفع آخرون جزءا من زاوية الستار ليسترقوا نظرة إلى الداخل لكنهم يحصلون عند نظرتهم الثانية على صفعة قوية، وتلاحقهم الذكريات الغامضة الطويلة حتى الفردوس، فلتحاولي يا (كاترينا) ثانية وثالثة، طوال حياتك المليئة بالمثابرة والاجتهاد لكن كل هذا لا ينفعك، اقتربي خطوة واحدة من الخالق العظيم، لا أحد يمكنه تجاهل هذا يا (كاترينا)، لكن ربما..!

***
دائما ما كنت أتساءل بعيون لامعة: "هل تذكريني في يومياتك يا أمي؟.
"بالطبع، لا يمكن أن يكون لديّ ما هو أهم منكِ، أنت كل شيء، قولي للضيوف أن يتفضلوا إلى الداخل".
تعالي يا خالتي كي أُريكِ حجرتي، هذا سريري يمكنك النوم فيه، وهذه لعبي يمكنك اللعب بها، وهذه منضدتي تستطيعين الرسم عليها، وهذه أمي؛ إنها رقيقة جدا تستطيعين لمسها لتتأكدي من هذا.

***
تُرى ماذا يحدث لو أصبح الإنسان يعيش مثل (ميكي ماوس)؟ يحمل نفس تعبيراته وله نفس ردود أفعاله الكرتونية، ينفخ يده فيكتب نصا طويلا يتجاوز الكيلومتر، ينبغي عليّ شراء سدادة لأذني وعصب عيني بقطعة قماش والتنفس بأنفي كي لا أشم ثانيةً تلك الروائح التي تحيطني.
ربما يصلح هذا معي، لم أعد أستطيع رؤية أي طريق آخر للرجوع لكن (أوليج) لم يعد موجودًا معي كذلك، يبعد عني بألف كيلومتر، لماذا يحب البعض وصف (ريجا) بـ (باريس) الصغيرة بدلا من وصف (باريس) بـ (ريجا) الكبيرة! ربما بسبب الطيور الفرنسية التي تأتي إليها في موسم الهجرة، حيث يبدو شكلها كصراصير صغيرة خارجة للتو من أحد المستنقعات تطير أسرابًا كما في أحد مشاهد سفر الرؤيا.

***
لم أكن مقتنعة أبدا بأي شيء ولم أكن متأكدة -أيضا- من شيء، عندما يأتي الموت تتجمل الحياة، تتحول إلى نموذج آخر ثم تنتهي، لست مستعدة لذلك الآن، فقط أصرخ بشكلٍ متباعد على فترات، أحاول ترتيب الأمور بشكلٍ دقيق لكيتتجمع قطع اللعب الصغيرة بجوار بعضها وتكمل شكل القلعة، لكن سوف تأتي تلك اللحظة التي تتساقط فيها القطع ولا تقدر الأصابع الصغيرة على جمعها من جديد، لم أعرف من قبل كيف أصنع رجلًا من الثلج أو القطن.