تونسيون في بؤر التوتر .. من هنا بدأت المأساة

بعد الثورة التونسية وجد السلفيون الجهاديون في المناخ السياسي والأيديولوجي المحلي والإقليمي فضاء رحبا للتغرير بالشباب وتجنيده للقتال في سوريا والعراق.
ملف التسفير تعاملت معه الحكومات المتعاقبة بأياد مرتعشة
ظاهرة التسفير تفشت في عهد حكومة الترويكا بزعامة حركة النهضة
اتهامات لقضاء البحيري وداخلية العريض النهضوييْن بتسهيل تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر
تونس

نبشت عملية إخضاع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ونائبه علي العريض للتحقيق في ملف تسفير الشباب إلى بؤر التوتر والإرهاب بالخارج، في ذاكرة التونسيين المشوشة بفعل سرعة تعاقب الأحداث بسرعة ليستحضروا أحداثا ووقائع تضافرت بشكل مريب لتؤثث مشهدا دراماتيكيا اسمه "جهاد التونسيين في سوريا والعراق".
فكيف بدأت الحكاية؟ 
بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في كانون الأول/ يناير 2011 سادت أجواء من الحرية وتحرر الكثير من التونسيين من خوفهم.
وكانت الجماعات السلفية الجهادية من بين أبرز المتحررين من الخوف والمتمتعين بأجواء الحرية الجديدة، خاصة وأن انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2011 مكّنت حركة النهضة الإسلامية من الحكم، وهي القريبة عقائديا على الأقل من الأيديولوجيا السلفية.
وبات السلفيون الجهاديون جزءا من المشهد السياسي والشعبي التونسي، واجتاحوا الفضاء العام بأزياء وهيئات غريبة على التونسيين كانت أقرب إلى الأفغانية.
وتم نصب الخيم الدعوية في الشوارع الرئيسية والساحات العامة لأغلب المناطق مع تشغيل مكبرات الصوت التي تقتحم آذان المارة والمتجولين بمواعظ وخطب "دينية" تتخللها تلاوات قرآنية، الأمر الذي ولّد استعداد نفسيا لدى بعض الشباب والمراهقين لاكتشاف تلك الأجواء.
ونظم السلفيون الجهاديون هجمة شرسة على أغلب المساجد التونسية التي كانت تبث خطابات دينية معتدلة، فطردوا عددا من الأيمة واعتلوا المنابر بدلا عنهم حيث شرعوا وبشكل علني في استقطاب الشباب وتزيين "طريق الجهاد" إلى سوريا. 

تم تقديم تسهيلات لهؤلاء الشباب على مستوى المناطق الحدودية، وعلى مستوى التمويل وعلى مستوى تسهيل استصدار جوازات سفر

ورصد رئيس جمعية التونسيين العالقين في الخارج محمد إقبال بن رجب خطب إمام جامع الفتح الشهير بقلب العاصمة التونسية، نور الدين الخادمي، عن القتال في سوريا، الذي أصبح فيما بعد وزيرا للشؤون الدينية في حكومة الترويكا التي تتزعمها النهضة، إضافة إلى تصريح موثق للقيادي بالنهضة الحبيب اللوز الذي قال فيه "لو كنت شابا لتوجهت للجهاد في سوريا".
وتم الأسبوع الماضي إيقاف اللوز في إطار التحقيق في ملف التسفير، وهو الذي شغل منصب نائب عن حركة النهضة بالمجلس الوطني التأسيسي، ويعتبره المتابعون أحد أبرز أقطاب الجناح المتشدد داخل حركة النهضة أو ما يسمى إعلاميا "صقور النهضة". 
وكان مسجد الفتح ومحيطه المكان الذي يتجمع فيه السلفيون ويتحدثون بطلاقة عن تنظيمهم رحلات “الخروج” إلى سوريا تحت أنظار رجال الشرطة. وهو المسجد الذي حاصرته القوات الأمنية في عهد وزير الداخلية النهضوي علي العريض، للقبض على زعيم تنظيم أنصار الشريعة المكنى بأبي عياض المتهم بالضلوع في اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد في 2013.
ونجح أبو عياض يومها في الإفلات من قبضة البوليس ليتم اتهام النهضة بالتواطؤ وتهريبه إلى ليبيا، بينما همست بعض القيادات النهضوية بأن ذلك كان ضروريا "لاجتناب الصدام مع السلفيين الجهاديين وللحفاظ بالتالي على السلم الأهلية".. 
وتقول الصحافية التونسية حنان زبيس التي شاركت في تحقيقات استقصائية عن الظاهرة إن "التسفير إلى سوريا حصل خلال فترة حكم الترويكا بين أواخر عام 2011 وأوائل عام 2015. كانت هناك سياسة واضحة لتشجيع الشباب التونسي للسفر إلى مناطق النزاع وتحديدا سوريا"، مضيفة أنه "تم تقديم تسهيلات لهؤلاء الشباب على مستوى المناطق الحدودية، وعلى مستوى التمويل وعلى مستوى تسهيل استصدار جوازات سفر. حكومة النهضة كانت على علم كامل بهذه الظاهرة، ولم تقف في وجهها".
ويفسر عدد من الباحثين في علم الاجتماع الذين اهتموا بالظاهرة أن انهيار نظام بن علي دفع بأبناء الضواحي المهمشة إلى صدارة المشهد التونسي، مشيرين إلى أن حركة النهضة الحاكمة آنذاك أجادت استغلال هؤلاء في مواجهة القوى العلمانية المحلية من جهة، وفي مشاريعها الإقليمية التي انخرطت فيها مع شبيهاتها من الحركات الإخوانية في ليبيا وتركيا، وصولا إلى سوريا.

برلمانية سابقة تؤكد تورط أيمة من حركة النهضة في غسل أدمغة الشباب واستقطابهم للقتال في بؤر التوتر 

وطالب هؤلاء بضرورة الإحاطة بالشباب لتصحيح تمثلاته عن احتلال العراق وقمع نظام الأسد، محذرين من أن جرعات الحماس الزائدة للالتحاق بتلك الدول هي التي تم تصعيدها لاحقا واستغلالها للقيام بعمليات إرهابية "بديلة" داخل تونس. 
واستفاد السلفيون المتشددون من تسهيلات لوجستية ومالية تمثلت بشكل خاص في الجمعيات الخيرية التي تتلقى أموالا من الخارج تغدق بجانب منها على الجهاديين وعائلاتهم.
واعتبرت النائبة البرلمانية السابقة فاطمة المسدي (حركة نداء تونس) أن تجميد أرصدة وأموال الغنوشي وقيادات نهضوية في حد ذاته إدانة بالتورط في الإرهاب والتسفير.
وكشفت أن "حركة النهضة لعبت دورا مهما في ملف الجمعيات التي قامت بتمويل عمليات التحاق الشباب ببؤر التوتر.
وأصدر القطب القضائي لمكافحة الإرهاب بتونس في يوليو/ تموز الماضي إذنا بتجميد الحسابات البنكية والأرصدة المالية للغنوشي وعشرة أشخاص آخرين من عائلته وقيادات حزبه، في علاقة بالتحقيق في تهم من بينها غسيل أموال وتمويل الإرهاب في قضية جمعية "نماء تونس".
وأشارت المسدي إلى أنها قدمت ملفات للقضاء تؤكد "تورط أيمة من حركة النهضة في غسل أدمغة الشباب واستقطابهم لبؤر التوتر إضافة إلى الأمن الموازي للحركة الذي ساعد في إرسال الشباب إلى هناك بجوازات سفر مزورة".
ومع تفاقم الظاهرة وتزايد الضغط الإعلامي تم في 2017، تكوين لجنة برلمانية للتحقيق في ملف التسفير، رغم أن التوافق الحاصل بين الغنوشي ورئيس حركة نداء تونس الباجي قائد السبسي كان يوحي بشبه إجماع ضمني في تونس على طي هذا الملف وتفادي تحميل هذه النهضة المسؤولية السياسية والقضائية عنه.
وفي أيلول/ سبتمبر من سنة 2017، قدم رئيس المنظمة التونسية للأمن والمواطن عصام الدردوري، تقريرا للجنة التحقيق في شبكات التسفير، قال إنه تضمن وثائق "تؤكد تورط جهات رسمية في تزوير جوازات سفر لإرهابيين لتسهيل سفرهم للقتال بسوريا.
وأبرز أيضا وجود أمنيين متورطين في استخراج جوازات سفر لإرهابيين دون الوثائق القانونية اللازمة لذلك ودون تثبت، مشيرا الى أن سنتي 2012 و2013 شهدتا قيام رحلات منظمة إلى تركيا عبر شركة "سيفاكس" وشركة الطيران التركية والخطوط الجوية التونسية، حاملة إرهابيين إلى بؤر التوتر.

وثيقة سرية تثبت أن دعاة تكفيريين دخلوا السجون لدمغجة مساجين الحق العام واستقطابهم للقتال في سوريا

وتم خلال الأسبوع المنقضي إيقاف مالك شركة سيفاكس للطيران، التونسي محمد فريخة في نفس القضية حيث تفيد الشهادات والأبحاث الأولية أن الشركة المذكورة كانت تنقل مقاتلين من تونس إلى مطار صبيحة التركي حيث تتكفل بهم مجموعات منظمة لتسريبهم نحو الأراضي السورية ليلتحقوا بمقاتلي تنظيم داعش. 
ونفت الصفحة الرسمية لفريخة الاتهامات الموجهة لسيفاكس، معتبرة أنها الجهات الأمنية هي وحدها المسؤولة عن التثبت في هويات المسافرين على متن طائراتها التي كانت تسيّر رحلاتها المشبوهة إلى ليبيا (درنة) وتركيا (مطار صبيحة).
وتمكن فريخة من الحصول على مقعد بمجلس نواب الشعب ضمن كتلة حركة النهضة إثر فوزه في انتخابات 2014.
وخلال جلسة استماع للدردوري من قبل اللجنة انسحب نواب كتلة حركة النهضة احتجاجا على ما اعتبروه "تطاولا" من الدردوري على نواب من الكتلة.
وفي تصريح خاص لـ"ميدل إيست أونلاين"، أكد الدردوري أنه "تقدم إلى اللجنة بوثيقة تحمل إمضاء وزير العدل الأسبق نور الدين البحيري (قيادي بالنهضة) صادرة بتاريخ 3 ديسمبر 2012 وتحمل ختما سريا، تقضي بالسماح لداعية تكفيري بزيارة كل السجون، الأمر الذي ساهم في تحول سجناء حق عام إلى متطرفين".
وصرح النقابي الأمني السابق هيكل دخيل في وقت سابق لوسائل الإعلام المحلية أن "الكتب التكفيرية كانت توزع في السجون، مشيرا إلى أن "دعاة دخلوا السجون لتقديم دروس دينية، تبين أن أغلبها دروس تكفيرية الهدف منها دمغجة مساجين الحق العام ليتم استقطابهم لاحقا وهذا ما تم مع العديد منهم".
واستشهد دخيل بحادثة مغني الراب التونسي الشهير "إيمينو" الذي دخل السجن بتهمة استهلاك المخدرات ليتحول إلى داعشي والتحق بالقتال في العراق أين قُتل في غارة جوية على الموصل.
وتحدث الدردوري عن وجود وثائق بالملف المقدم للجنة التحقيق، تبين أن إرهابيا اعترف بدخول 117 إرهابيا من بؤر التوتر عبر طائرة خاصة إلى التراب التونسي بهدف إسناد مجموعات الشعانبي الإرهابية.

مخاوف من ولادة جيل جديد من الإرهابيين العائدين والمسجونين جاهز لاستئناف العنف إذا ما أتيحت له الفرصة لذلك مجددا.

وتقدر جهات حقوقية تونسية عدد المقاتلين التونسيين في سوريا والعراق بحوالي ستة آلاف، بينما تفيد مؤسسات بحث دولية أن هناك أكثر من 9 آلاف مقاتل تونسي يتوزعون بين سوريا والعراق وليبيا، الأمر الذي ينذر بولادة جيل رابع من "الجهاديين".
ويقول الصحفي الهادي يحمد مؤلف كتاب "عائد من الرقة" إن السجون تضم حوالي 3000 جهادي تونسي، وثمة رقم يوازي هذا الرقم من مشاريع "الجهاديين" الذين منعتهم السلطات من مغادرة البلاد في فترات سابقة، بحكم الاشتباه بأنهم في بصدد المغادرة إلى مناطق النزاع، بالإضافة إلى من بقي على قيد الحياة وخارج السجون ممن نجحوا في الوصول إلى سوريا وليبيا، مستخلصا أن "هذا يعني أننا أمام جيل جاهز لاستئناف العنف إذا ما أتيحت له الفرصة لذلك مجددا. 
وحذر يحمد من أن "الفرصة قد تتمثل في ولادة بؤرة نزاع جديد خارج الحدود أو داخلها، وشرط سياسي داخلي من نوع نجاح النهضة في الوصول إلى الحكم مجددا".
وتظل مسألة المقاتلين العائدين وأبنائهم وزوجاتهم معضلة كبرى في تونس يتنصل المسؤولون المتعاقبون على الحكم من التعاطي معها.
ويذكرنا هذا التنصل من الملف من تنصل أول مارسته السلطات حين أتاحت لكثيرين مغادرة تونس من أجل "الجهاد" خارجها. 
ويقول مراقبون إن النهضة توهمت آنذاك أنها تساعد على الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد ونظامه تنفيذا لأجندات عقائدية وإقليمية، بينما توهَّم العلمانيون أنهم يتخففون من وجود "جهاديين" تونسيين ظل وضعهم غامضا ومريبا منذ عودتهم من أفغانستان بعد نهاية الحرب السوفياتية في أفغانستان في أواخر ثنانينيات القرن الماضي.
ويتساءل العديد من التونسيين عن مدى إصرار القضاء على المضي بجدية في ملف التسفير إلى نهايته خاصة مع تداول تورط أسماء "من الحجم الثقيل" كانت تحكم خلال 2012 و2013.
ويقول وزير أملاك الدولة الأسبق حاتم العشي (2015) إن "قضية تسفير التونسيين إلى سوريا ستحدث زلزالا كبيرا لأنها ستشمل أكثر من مئة متهم، مشيرا إلى أن موجة التسفير باركها "مؤتمر أصدقاء سوريا" الذي نظمه الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي الذي أوصلته النهضة لمنصب رئيس الجمهورية التونسية في إطار توافق مع حزبه "المؤتمر من أجل الجمهورية الذي شارك في حكومة الترويكا بعد انتخابات 2011.
وعُقد مؤتمر أصدقاء سوريا بتونس في شباط/ فبراير 2012 وشاركت فيه دول عربية وغربية كانت تطالب برحيل بشار الأسد، وبحث المؤتمر آنذاك سبل دعم المعارضة السورية. وهي نقطة يتمسك بها المدافعون عن النهضة بأن سياقا دوليا فرض تلك الموجة من تسفير المقاتلين لسوريا بالأساس، مشددين على أن "تسفير الشباب إلى بؤر التوتر ليس حالة تونسية خاصة". بينما يرد آخرون بالتساؤل لماذا خفتت موجة التسفير بعد خروج حركة النهضة من الحكم في تونس؟