إسماعيل خياط مايسترو الحداثة البصرية يهاجر إلى جهة الله

الراحل يعد من أهم رموز الفن التشكيلي في العراق على نحو عام وفي كردستان على نحو خاص، وإذا كان له حيزه الجميل في الفضاء التشكيلي العراقي فله حيّز أكثر في الفضاء التشكيلي الكردستاني.

غادرنا يوم 5-10-2022 اسماعيل خياط مايسترو الحداثة البصرية في كردستان العراق عن عمر يقترب من الثمانين، غادرنا بعد عامين وهو يناطح سحب الموت وطيوره، غادرنا وفي جعلته رصيد فني كبير، قدم أكثر من ستين معرضاً موزعاً بين جهات الأرض الكثيرة من العراق وكردستان العراق ومروراً ببعض الدرل العربية  وبعض الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية، غادرنا وهو بيننا يصدع بهديله، حقاً المبدعون الحقيقيون لا يموتون بل يبعثون دائماً من رحم أعمالهم، وسبق كتب عن تجربته قبل سنوات عديدة أعيد نشرها الآن إخلاصاً لتجربته ووفاء لروحه.

إسماعيل خياط (خانقين 1944-2022) من أهم رموز الفن التشكيلي في العراق على نحو عام وفي كردستان على نحو خاص، وإذا كان له حيزه الجميل في الفضاء التشكيلي العراقي فله حيّز أكثر في الفضاء التشكيلي الكردستاني، وإذا كان الشاعر شيركو بيكس من أهم الفاعلين في حركة المرصد التي أطلقها في السبعينات من القرن الفائت، حين أدرك أن الشعر الكردي يحتاج إلى إنعطاف وإنقلاب ليحافظ على وجوده الذي يليق به وحتى يوازي قامته القامات الأخرى وفعلها بيكس بنجاح ويعتبر من روادها، أقول فإذا كان بيكس مايسترو الحداثة الشعرية فإن إسماعيل خياط يعتبر بحق مايسترو الحداثة البصرية في المشهد التشكيلي الكردستاني، وإن كان قد بدأ واقعياً، متقيداً بشروط متصلة بالخطاب التشكيلي السائد كمعظم أبناء جيله إلى أن أوجد نفسه مرمياً أمام أبواب مفتوحة ليبدأ بإيجاد البديل الذي تخلله أوليات مرتبطة بالمنحى الخصبة التي برعم فيها وعلى إمتدادات واسعة من التجربة التي تركها بدوره منفتحة على تأويلات دون توقف، فعالمه الجديد هي خطى وعلامات عليها ينطوي الحقل ( التشكيلي الكردي )، فمن الواضح أن إختياره لكل ما هو مهدد بالسقوط، أو بالغياب ولو قسراً هو ما جعله يواجه الوجوه كنتيجة إفتراضية وكإدعاء مزدوج لمفاهيم كان يمكن سوقها لحدود المركز الحقيقي للعمل، وبعبارة أخرى فإن خياط يعمل على عدم السماح للفكر الرمزي بالإنسلال إلى تجربته رغم التناقضات فيها والتي تكون على نحو دائم رهيناً لتوتراته وهذه مشكله تخصه دون الحاجة الماسة لتحديد التاريخ، وإن كانت أعماله إحالات متواترة للحظات محددة من تاريخ أشبه بالميتافيزيقي لما فيها من وحشية وفجائعية، ويمكن السعي نحو إنبثاق أفكار حاسمة في التحديد والتحويل، في ظل مفهوم فلسفي لا يهدد إنقلاباته العذبة، بل يجعل من حضوره إمارات لتجاوز التقليد بعقباته الموروثة والكثيرة ولتعيين حقول رؤيته مع كسر أفقها الإشكالي، فهو يمارس البحث المركز على عمق الأشياء ويعتصرها الإحساس بوصفه الجانب الأهم في ترميم التصدعات، كما يمارس الحضور المفقود والمنفلت من اللعب إلى ماوراء إثبات الحلم المتآكل تاريخياً، أي أنه يمارس صياغاته في مناطق هي على قدر كبير من الأهمية للشأن الإنساني حيث يتعاطى معه برؤية فنية جديدة تذهب به إلى حيث إمتداداته في المكان الحامل لإنتماءاته في تخومها الأبعد، فإذا كان خياط هو صاحب اللوحة الأكبر في العالم وبها كان يستحق دخول كتاب غينيس للأرقام القياسية حين جعل من سفح جبل كردستاني إلى لوحة زيتية تمتد ما بين كويسنجق ودوكان في منطقة كاني وتمان فهو صاحب التوثيق الأدق للمجازر التي مورست بحق الشعب العراقي عموماً والكردستاني خصيصاً / الأنفال، حلبجة، ......... / وعلى إمتداد أربعة عقود وأكثر ( فترة حكم البعث العراقي ودكتاتوره صدام حسين ) ولهذا فأعماله هي بحق وثيقة تاريخية لمراحل الإضطهاد والنزوح والملاحقات والتشرد والتي قدمها في معارض خاصة وفي أمكنة كثيرة من الأرض، وإستناداً إلى ذلك ندرك حجم التحدي الذي كان يتحلى به خياط على إمتداد تلك الفترة.

أكثر من نصف قرن وخياط يعوم بمهارة في بحر اللون والخلق فهو في تقديري فعل وحركة، وتداخل وتشابك، فهو نتاج حقيقة الشيء، أي أنه نص لا يتكرر ويمكن قراءته كثيراً وعلى إمتداد المدلول دون نسف أي فكرة لا للبنية ولا للقيمة، فالأمر الممكن وقد يكون الحتمي هو أنه لا يمكن الحديث عن التشكيل في كردستان العراق دون ذكره بوصفه كينونة الحضور / زمنياً وذاتياً /، وبروح ورثها من جباله يعامل حلمه وفق خصائص مميزة وبأدق التفاصيل، على شكل رغبة لون نائمة على سطح حجر في الطريق أو في سفح جبل، أو على شكل طائر يرفض أن يموت وإن كان الطائر في ذاكرته ميتاً ( في طفولتي حصلنا أنا وأخي على طير كهدية وبدأنا نهتم به، لكنه مات ذات يوم ودفناه بحزن، هذا الطائر بقي عالقاً في ذاكرتي البصرية، كنت أتمنى ألا يموت، أن يبقى معي دائماً، لهذا أمنحه في أعمالي هذا الوجود المفترض، إنه يعيش في لوحاتي كموضوع معاصر يرمز لما أعانيه . )، أو ربما على شكل حزن يستيقظ كثيراً في ترادفاته الشكلية التي ورثها من طفولته في أزقة خانقين، الأمر الذي يجعله في عزف جنائزي على إمتداد الولادة، لا تفادياً لغضب الرب، بل لتركنا نستمد الطاقة من الأسئلة التي يرميها لنا في أعماله، وعلى نحو أدق من وجوهه التي لا تحمل الملامح بل أقنعة تمثل الحقيقة الخاضعة للإختزال داخل الجانب المعقول، وخارج الجانب المحسوس كعلامات ونقوش للنفس البشري بكل وحشيته بشذراتها المتعددة، أقنعة تشرح لنا اللعب الحر والمر في العمق اللاإنساني، والتنكر التام للفهم الخيِّر الذي وهبته الآلهة لحفظ الوجه لا ظله.

إن التمييز بين فردية خياط التي يمكن الإمساك بها في جولة أولية بين أعماله وبين الضغوط التي يمارس في ذاته هو شكل من أشكال الإنبثاق من محور ما، بإعتبار البؤرة ستتجلى لاحقاً في تصنيفاته التي أوجدها في مختبره التشكيلي، المختبر الذي تحول إلى نصف قرن من البحث والتجريب والتجديد منقباً لعلامات بصرية ومفاهيم تشرح الطريق في التدليل إلى توظيف سلسلة خلاصاته التي لا معنى محدد لها، بل هي صدى لمفاتيح إنتباه لمعايير تحدد إختيارات خياط وتفصح عن أساليبه بوصفها طروحات تمد البساط للعناكب وهي تنسج خيوطها بمعرفتها الخاصة.