حياة المناضلة آن بومانوار برؤية ملحمية
ولدت آنيت المناضلة الفرنسية أنيت دو بومانوار عام 1923 في بريتاني في فرنسا، انضمت إلى منظمة الشباب الشيوعي، ثم إلى المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية. بعد ذلك انضمت إلى حركة المقاومة الجزائرية التي كانت تناضل من أجل استقلال الجزائر عن فرنسا، وحُكم عليها بالسجن عشر سنوات بسبب مشاركتها في حرب التحرير بجانب الجزائريين، ثم كانت عضوًا في حكومة بن بلة قبل أن تهرب مرة أخرى - إلى سويسرا هذه المرة - حيث عملت كطبيبة أعصاب في مستشفى جامعة جنيف. في النهاية سُمح لها بالعودة إلى فرنسا، حيث عاشت ما يقرب من ثلاثين عامًا، وتوفيت عن عمر يناهز 97 عاما في عام 2020.
وهذه الرواية "ملحمة أنيت" للكاتبة أنه فيبر، والتي فازت بجائزة الكتاب الألماني عام 2020، والصادرة أخيرا عن دار الكرمة بترجمة سمير جريس، تدور حول حياتها، حيث اختارت الكاتبة أنه فيبر أن تروي حياة آن بومانوار بشكل يقارب الملاحم الإغريقية، لأن حياتها لا تقل بطولة عن هؤلاء الأبطال الأسطوريين، حيث تتمتع لغتها بالحيوية والصور الجميلة، وشخصياتها بالحضور العميق، وحبكتها شيقة تتشكل كاشفة عن عمق حياة بومانوار، وهنا براعة في وصف المشاهد بتلقائية وبلاغة كبيرة تحتفي بحياة خطرة، حياة تسترشد بمبادئ الإنسانية والتضامن، وتطرح العديد من الأسئلة: ما الذي يدفع الشخص إلى المقاومة؟ ما هي التضحيات التي تتطلبها هذه الحياة؟ كيف تتعامل مع الشكوك والغضب؟ وأخيرًا وليس آخرًا: ما الذي يستحق القتال من أجله؟.
تروي فيبر قصة أنيت المحبة للعدالة، والتي تناضل دائمًا من أجل الحرية - من أجل حرية الآخرين وكذلك من أجل حريتها ومن أجل مجتمع متساو وعادل يحدد حياتهم.
ولدت في بريتون، ونشأت مع امتيازات من شأنها أن تجعل الآخرين يشعرون بالراحة.ومع ذلك"إذا كانت الظروف وحدها هي التي تملي المستقبل، فسوف نتحرر من كل مسؤولية، وكل شعور بالذنب، ومن كل ضمير. لكن الأمر ليس بهذه البساطة"، القانون والعدالة لا يسيران دائمًا جنبًا إلى جنب، لكن بالنسبة إلى آنيت يمكن التعرف عليهما بوضوح. "حقيقة أن أنيت تتصرف وفقًا لضميرها، الذي إنها تستخدمه كبوصلة وترى من خلاله الأحداث. إنها من دعاة السلام حتى تقرر أن تصبح مناضلة من أجل الحرية وكان ذلك عندما بلغت الخامسة عشرة من عمرها، ومع بداية الحرب العالمية الثانية، التي امتدت أيضًا إلى بريتاني، أصبحت أنيت مقاتلة من أجل أولئك الذين لا يستطيعون القتال من أجل أنفسهم.
تتجلى شخصية آنيت باستمرار في تصميمها الذي لا ينضب على خدمة الآخر المعتدى عليه، المضطهد والمحتل، وسعيها إلى الحرية من خلال المقاومة الدائمة.. ولذا فهي تساعد وتنقذ اليهود من جحيم النازية، وتنضم إلى الجزائريين الذين يقاتلون من أجل استقلال بلادهم عن فرنسا.
الرواية تُرجمت إلى لغات عديدة، وفازت بجائزة الكتاب الألماني عام 2020، وجاء في حيثيات منحها الجائزة: "لا تقل القصة التي كتبتها أنه فيبر في قوتها عن قوة بطلتها: إنه لأمر مبهر كيف يبدو هنا الشكل الملحمي القديم طازجا، وبأي خفة استطاعت فيبر تكثيف حياة آن بومانوار، المناضلة في حركة المقاومة الفرنسية، وتحويلها إلى رواية عن الشجاعة، وصلابة المقاومة، والنضال من أجل الحرية. إن "ملحمة أنيت" قصة حافلة بالصعاب، لكن فيبر ترويها برهافة حس لا مثيل له، وبسخرية خافتة رائعة. إننا ممتنون لـ"أنه فيبر" لأنها اكتشفت لنا أنيت، وقصت علينا قصتها."
مقتطف من الرواية
آن بومانوار هو أحد أسمائها.
حيةٌ هي، نعم، ولها حياة في مكان آخر
غير هذه الصفحات، في ديولوفي،
ومعناها "صنيعة الرب"، في جنوب فرنسا.
لا تؤمن بالرب، لكنه يؤمن بها.
إذا كان له وجود، فهو الذي خلقها.
طاعنةٌ في العمر، لكن الحكاية تريد
ألا تكون قد ولدت بعد. اليوم،
في الخامسة والتسعين، تأتي
إلى العالم على هذه الصفحة البيضاء؛
إلى فراغ كالحفرة، وفيه تُلقي
نظرات طويلة دائرية، كحيوان الخُلد،
وشيئًا فشيئًا يمتلئ الفراغ بالأشكال والألوان،
بالأب والأم والسماء والمياه والأرض.
السماء والأرض من الظواهر الباقية،
لكن المياه تروح وتجيء، تنساب
إلى مجرى نهر أرجينون الجاف؛
فتَنهض مرتين في اليوم القوارب
التي كانت نائمة على جنبها طوال ساعات.
مرتين في اليوم ينسحب النهر إلى البحر،
إلى قناة المانش، أو "قناة الكُم"،
مثلما يطلقون على البحر بالألمانية،
مع أنه ليس قناة ولا كُمًّا،
وليس مفرغًا، هو بالأحرى ذراع:
الذراع التي يمدها
الأطلسي إلى بحر الشمال. برفق
تغفو القوارب برفق على بطونها مرة أخرى.
في الغرفة-الكون، غير المسكونة بعد،
تسبح أربعة، وأحيانًا ستة نجوم لامعة
أو عيون. مثلما تطفو الملامح ببطء
في غرفة التحميض المظلمة
وكأنها ولدت من فراغ، هكذا تبدأ ملامح الوجوه تتضح
حول النجوم. الأم. الجدة.
الأب. الطفلة التي تُدعى "آن"، ويدعوها الجميع
"أنيت"، تجعل الكواكب تدور.
*********
ولدت أنيت في "حارة سد"،
وليس هذا محض تعبير مجازي ينطبق علينا جميعًا.
بيت الجدة يسد ثغرة
في مجموعة من بيوت الصيادين
الصغيرة والبسيطة
التي تنتهي معه فجأة أمام النهر.
في كل بُيَيت غرفة معيشة بالأسفل
وإلى اليمين واليسار غرفة تحت السقف.
"بيت جدتي" لا يعني أنها
تملكه. إنها تسكنه بالإيجار. مكان الإقامة
بائس، ولذا فالإيجار
منخفض، لكن القليل
كثير جدًّا بالنسبة إليها،
تربي أطفالها،
وقد ترملت مبكرًا،
بعائدpêche à pied،
أو بما تصيده بلا قارب:
يومًا بعد يوم تسير إلى البحر عند الجَزْر
ومن دون كلل تبحث وسط الرمال المبتلة
عن الكائنات البحرية
بأشكالها المختلفة: المحار بأنواعه،
سرطان الشاطئ، حلزون البوق،
ثم تحملها في سلة على ظهرها إلى قرى كثيرة
في المنطقة، وهناك تبيعها:
في سان إنيجيه، لا فيل جيكل،
لو تيرتر، نوتر دام دو جيلدو
أو لو بويون.
أم أمها ولدت في القرن التاسع عشر
في البروتاني، أي أنها سبقتها
تقريبًا بقرنين، طفلةً بين أطفال كثيرين
لفلاحين معدمين
ليس بمقدورهم سد رمق أطفالهم، ولذا
يرسلونهم واحدًا بعد الآخر
ليعملوا خدمًا لدى الأثرياء.
الخادمة الصغيرة التي تعتني بالبقر تعاني شظف العيش.
مدةً طويلة لا ترتدي
ـ يا لصدمة حفيدتها الصغيرة فيما بعد!ـ
سروالًا داخليًّا. لم يكن لديها واحد.
كانت تنام على القش. أجرها السنوي
حذاء خشبي جديد،
وكل عامين تحصل
إما على عباءة ومعها زوج من الجوارب،
أو تنورة وسترة، ولم يكن ذلك ترفًا،
لأنها لم تكن قد وصلت إلى البلوغ بعد.
لم تذهب إلى المدرسة قَطُّ.
يقولون عنهاIllettrée، عندما لا تعرف واحدة،
أو واحد مثلها، القراءة أو الكتابة.
في عمر الخمسين يتضح لها لأول مرة
– وأنيت ربما في السابعة -
أنها لم تحصل من أمها على قبلة قَطُّ،
فتسيل دموعها، هي التي لم تَشْكُ يومًا. هكذا
تجلسان، الجدة والحفيدة،
وتقبل كل منهما الأخرى، قبلة بعد قبلة بعد قبلة،
وتبكيان. لا تعرف عن أبيها شيئًا
غير فظاظته. لا تذكر أبدًا إخوتها،
أطفال عبيد وفتيات خادمات مثلها،
قد يكونون ماتوا أو فُقدوا،
أو يعيشون بالقرب منها. أنيت
تحب، أكثر من أي شيء، هذه الجدة
الغنية بطيبتها، والمثقفة
من غير قراءة.
مثل كل واحد فينا
لديها جدة أخرى. تحبها بدرجة أقل.
هي أم أبيها، من آل بومانوار؛
يعني الاسم «منزل جميل رحب»،
وهي بالفعل أفضل عائلة في مكان
لا يعرف مجتمعات راقية حقيقية.
مدام بومانوار أرملة أيضًا، وهي ابنة
الموثق القانوني. لا ترى أنيت، في السنوات الأولى
من حياتها، الجدة رقم اثنين. قُطعت
الجسور بين الجدة وابنها في اليوم
الذي منعته من الزواج
بفتاة بُيَيت الصيادين،
إحدى بنات الجدة رقم واحد.
بالتأكيد عانت
مدام بومانوار من ذلك، لكن ما العمل؟
كل شيء داخلها كان رافضًا
لهذه العلاقة غير المتوازنة،
التي سرعات ما أثمرت – للأسف الشديد –
بنتًا، أنيت. تعتبر أن ابنها أفضل من ذلك،
وهي محقة، فهو أفضل، لأنه يستغني
عن مجتمعها المحترم وعن إرثه
لصالح حبيبته. في ذلك الوقت
كان كلاهما ما زال طفلًا تقريبًا، لم يبلغا الرشد
وحسب القانون لا يستطيعان الزواج
من دون موافقة الوالدين، وهكذا تولد أنيت
وكأنها في حكاية خيالية – حكاية بروتانية – في
بُيَيت صيادين فقير، على يد الجدة رقم واحد
وخارج الزواج، ولكن ليس خارج الحب،
من دون أن تسجَّل في البداية
في أي سجل للمواليد.
لديها والدان سعيدان، يود المرء
أن يدعي ذلك، لكن هل هذا صحيح،
وهل هذا ـ عمومًا ـ ممكن؟
ألا يقولون دائمًا إن حالة السعادة
تستمر لحظةً على أقصى تقدير؟ لكنهما سعيدان
في كل وقت، ومن لديه أدلة على العكس،
فليعارض، الفرصة الآن متاحة.
السعادة هي النغمة الأساسية في حياتهما اليومية.
منذ البداية، وهذه الموسيقى الدافئة غير المسموعة
تتغلغل في أعماقها، تظهر أنيت
على مسرح الحياة بعينين مضيئتين،
وبقلب والديها الذي لا يهاب شيئًا.
لا يجسد الوالدان ما نُطلق عليه
صفة "سعيد" فسحب، بل إن كلًّا منهما
عكس الآخر أيضًا. جان طويل
ومارت الصغيرة قصيرة، هو متروٍّ ورزين،
وهي صاخبة، تحب الكلام، لكنها
متعقلة أيضًا، وحكاءة ينصت المرء
إليها فاغر الفم. يحب أن يطلق عليها
"مناضلتي النسوية"، وهو لا يقصد بذلك
نسويتها، قدرَ ميلها إلى
إبداء السخط الشديد والاستشاظة غضبًا في وجه الظلم.
بلغتها، هيsoupe au lait
أي مثل حساء الحليب، ذلك النوع من الحساء
الذي يفور بسرعة. علمت نفسها كل شيء؛
ربما لا يعني "كل شيء" كل شيء حقًّا، لكن أشياء كثيرة جدًّا:
متعة القراءة، لعب كرة الطاولة. قيادة السيارة فحسب
لم توفق فيها، لجموحها الشديد.
لا عجب إذن، قد يقول المرء الآن، ومع
هذه الظروف الملائمة، أن تصبح الابنة
ما أصبحت عليه، وما تلخصه على نحو سيئ
سيرتها الموجزة على غلاف الكتاب،
لأن العقود الحافلة بالأفعال والجهود
تتجاوز غلاف أي كتاب.
لو كانت الظروف وحدها
هي التي تحدد المستقبل، لكنا تخلصنا
من كل المسؤوليات، وكل شعور بالذنب،
وكل تأنيب للضمير. إلا أن
الأمر ليس بهذه البساطة. الجزء الجوهري
يأتي فيما بعد، وينبغي أن ينجزه المرء.
********
ديمقراطية؟ هل يستطيع أحد أن يشرح كيف ينبغي
أن تُطبَق بين عشية وضحاها في
بلد سواده الأعظم لا يستطيع القراءة
والكتابة، لأن الدولة لم تجد ضرورة لمحو الأمية
في الأعوام المئة والثلاثين الأخيرة؟ كيف
يكوّن المرء ما يُطلق عليه الرأي الحر حتى يضع
علامة صح على إحدى الخانات،
إذا لم يحدث ذلك عبر القراءة؟
أوجوست بلانكي، الاشتراكي والأب الروحي اليوم لعتاة اليساريين
الذي قال "لا رب، ولا سيد" ، رأى قبل ذلك بثمانين عاما
أن الثورات تحتاج بادئ ذي بدء إلى حكم استبدادي
لعام أو لعشرة أعوام، وذلك لأن الذين خضعوا طويلا
يجب عليهم في البداية أن يتعلموا التفكير وأن يكونوا أحرارا.
ما لا يشرحه بلانكي هو كيفية التخلص من المستبدين مرة أخرى
بعد عام أو عشرة أعوام. أما اللورد
ماكولاي ـ قبل بلانكي ـ فرأى الأمر على نحو
مغاير قليلا. أن يكون الشعب في البداية حرا،
قبل أن يستخدم الحرية، يُذكّره بخرافة
قديمة أراد فيها أحد الحمقى ألا ينزل إلى الماء
قبل أن يستطيع السباحة.