فتحية النصري: النقد يقف صغيرا أمام الشعر
الأديبة فتحية نصري متحصلة على الأستاذة في اللغة والحضارة العربية مربية أصيلة مدينة القصرين بدأت بكتابة الشعر والقصة القصيرة متحصلة على عدة جوائز وطنية في القصة القصيرة والشعر صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان "مدينة اغتيال الأحلام" ورواية بعنوان "امرأة الليل" وسنة 2021 تحصلت على جائزة عربية في مصر عن هذه الرواية ولها قيد النشر مجموعة شعرية عن دار بيبلومانيا للنشر ورواية تتحدث عن زمن الكوفيد.. اختارت العمل الحقوقي أيام الثورة وبعدها وهي رئيسة منظمة نسوية تدافع عن حقوق المرأة وترافق النساء ضحايا العنف وعضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وناشطة حقوقية.. بدأت بالشعر الذي تقول عنه "وكلما اشتد الوضع قسوة اعتبر الشعر ملاذي وراحتي الأبدية وبيتي السري".
هنا حوار معها عن الكتابة والتجربة والمسار الأدبي:
٭ كيف تتحدث الشاعرة والكاتبة فتحية النصري عن تجربة البدايات مع القصيدة والشعر والسرد.. ومع أرض السباسب الذات والمكان؟
● تجربة البدايات: اعتبرها تجربة العنوان والاندفاع الثوري والتمرد واكتشاف العالم.. كانت تجربة البدايات تتشكل وتنغمس في سجايا الروح وتبحث عن النقاء الثوري الذي نصبو إليه، فكان من الطبيعي أن أميل إلى الشعر الذي يعبر عن الشجن الروحي ويميل إلى الانطباعية في رسم الحلم والواقع وكذلك لأنه قادر على رصد الانفعالات اللامتناهية للحظة الشعرية التي تبحث دائما على أشكال تعبيرية آنية وانفعالية.
كانت أيضا متعلقة بالمزاج العام الذي كانت فيه القضية الفلسطينية هي البوصلة لتشكل وعيي الثوري كأغلب أبناء وبنات جيلي، إلى جانب التعلق بالمكان ووجه الحبيبة التي تدفعك للكتابة وفك شيفرة حقيقة للمكان.
كان لبلدتي التي أعشق تأثير كبير في مسيرتي الإبداعية والشرعية أين يتماهى الذاتي بالموضوعي، فلتربة الشعانبي الندية تلك المحمية الطبيعية العالمية والقمة الشماء والغابات الوارفة الظلال تأثير ارتبط بمخيلتي جعلت من وعيي يتفتح مبكرا وينتصر فيه للحب والجمال المحطة القديمة والَمقطورات المعملة والبيوت ذات الطابع الفرنسي القديم التي هجرها أصحابها، كلها جعلت من خيالي ينفلت بلا حدود حكايات تحفر في الروح وأنا أمر في شوارعها التي احتضنتها أشجار الكالبتوس والصفصاف تلك السواقي التي تشق البساتين والممرات.
كانت توشوشني بحكايات بساتين العريش رئة القصرين التي تلطف الأجواء بغاباتها وأشجارها المثمرة كجنة حان قطافها لتهدي العابرين ثمارها ووادي الدرب الذي يتفتح على المسرح الروماني والمدينة الأثرية بسيليوم هي وسفيطلة بوابات النصر التي تذكر بأمجاد هذه الربوع المنسية لتحدث العالم أنها كانت عاصمة أفريقية لمئات السنين.
الوجوه المتعبة للأمهات والجدات المنحوتة بيد ريشة فنان فلورنسي تواري أسرارها بالرسم الأمازيغي الذي يتخلل الزمان ويعبر الحضارات محتفظا بالأصل محافظا على لغة الأجداد في الوشم الذي يحدث الدنيا عن أصولنا للرجال الأحرار، مائدة يوغرطة والجبال التي كانت حصنا للوطن وللفلاقة أيام الاستعمار، فعاقبونا لأننا ثرنا فزرعوا فيها الإرهاب.
العيون الخضراء والزرقاء والشهلاء تحدث التاريخ عن المال في هذه الربوع رغم القبح الذي يحاصرنا ورغم الإهمال والنسيان تجعل مني شاعرة فلا خيار لي في ظل بيئة حاضنة للعشق والعرفان كل هذا الحب والجمال الطبيعي والطقس البارد الشتوي القاسي والصيف الحار الذي يتحفك لنسمات جبلية لا مثيل لها تسكن روحي، فكلما ارتحلت عنها عدت العاشقة التي يدميها الهجران.
معهد الشهابي الذي درست فيه أتاح لي المرور اليوم أمام معلمه البسيط، فتحفر في الروح آلاف القصص والحكايا التي لا تموت ومنه كانت بدايتي بالخواطر والمحاولات العربية في سن الثالثة عشر.
٭ الشعر والنقد ماذا تقولين عن العلاقة بينهما؟
● أعتبر الشعر المدرسة الأولى التي يقف أمامها النقد صغيرا لاهثا وراء مراكماته، باحثا عن تجلياته بلا جدوى، محاولا سبر أغواره، فيعود متعبا مهزوما منكسرا أمام قوة حصونه المحكمة البناء، لأن الشعر وليد اللحظة الشعرية الفارقة والإحساس الروحي الصادق الذي لا يخضع للقواعد والقوالب والإملاءات، متجاوز المنطق الذي يرغب النقد في إخضاعه له، فلا ينجح وإن ربح المعارك فهو الذي يخسر الحرب دائما مهما اجتهد في تفسير هذه الظاهرة الإنسانية الراقية يظل طفلا غريرا يعوزه الإحساس الصادق باللحظة الشعرية فيفسر ما لا يفسر.
لذلك يظل الشعر أرقى أنواع التعبيرات الفنية في نظري ويظل النقد بوابة منطقية تحاول توجيه الشاعر إلى بوصلة لا يقصدها في أحيان كثيرة على أهميته وبروز العديد من المدارس النقدية الحديثة.
اعتبرُ الفنان كلما تخلص من سيف النقد والأيديولوجيا يظل قادرا على الإبداع أكثر حرا طليقا ثائرا على كل القوالب والقيود.
أما السرد فلي معه قصة عشق لا تنتهي بدأت منذ طفولتي في سن الثامنة أو التاسعة تقريبا، إذ يعطي للمبدع مساحة للتداعي والتفسير والحكي بعيدا عن الترميز والإبهام والغموض، تاركا مساحة للتاريخ ومكانا للانفعال والخيال أكثر اتساعا.
وطلت تجربتي مراوحة بين الكتابة والشعر ولم أجد صعوبة في ذلك، فالشعر يعطي مساحات أكثر للأنثى حتى تعبر عن عفويتها وميولاتها في زمن ذكوري جارح، هو بيتي السري وصندوقي القديم وهو البوابة التي تترك لي مساحة للتعبير عن أحلامي وإرهاصاتي وانتكاساتي التي تختزلني في عالم موجع للنساء في زمن التسليع لهذا الكائن المفعم إحساسا وشاعرية هذا المخلوق الذي قمعه التاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد والدين، لذلك أجد في قلمي سلاحي وبيتي السري الذي يلهمني التحدي ومواصلة المشوار الطويل والمضني.
٭ كتبت القصيدة هل ترين أنك أضفت لها؟
● كتبت القصيدة الموزونة في البدايات وتأثرت بالمخزون الشعري العربي القديم شعراء المعلقات وشعراء القرن الرابع كالمجنون وبن أبي ربيعة وقيس وليلى وشعراء الخمريات لأبي نواس وبشار بن برد وانتقلت إلى الشعر الحديث شعراء مطلع القرن العشرين شعراء رابطة القلم العربي والمدرسة الرومنطيقية وتأثرت بالمجددين في الشعر كنازك الملائكة والشباب والجواهر، ثم أدونيس وأنسي الحاج وعشقت تجربة نزار قباني، لكن كان ميلي أكثر لشعر محمود درويش.
نهبت من كل هذه المشارب، لكن لم أكن من هواة التقليد وأومن بالطابع الخاص في كل تجربة شعرية وحقيقة أميل إلى الشعر الثوري عموما ولا أميل إلى القيود والتفعيلة في الشعر.
كتبت وتأثرت بكل المدارس الشعرية واخترت قصيدة النثر وبدأت تجربتي الشعرية تتشكل بعيدا عن التقليد والقوالب الجاهزة.
أما عن إضافتي للشعر أو القصيدة أترك ذلك للتاريخ والقارئ، لكن لدي إيمان راسخ أن لكل شاعر خصوصياته الإبداعية وعليه أن يدافع عنها حتى تتشكل تجارب متنوعة وللنقاد والتاريخ قولهم الفصل.
٭ ماذا عن أحوال القصيدة العربية؟ وما هي القضايا الشعرية التي شغلتك مع جيلك؟
● القصيدة العربية الثورية عانقت الروعة بعد خمسينات القرن الماضي واتسمت بالجمالية والتمرد على السائد وتماهت مع هموم الشعوب ضمن مدارس رائدة متنوعة المشارب، لذلك أعتبر أنه من الطبيعي أن يبحث الشعراء عن التجديد والتمرد عن القوالب (القصيدة الموزونة).
وكان من الطبيعي أن يبحث الشاعر عن طرق أخرى للتعبير ويعود سبب ذلك إلى الانتكاسات والإرهاصات التي مرت بها شعوب المنطقة وفشل شعارات أمن بها المبدع ودافع عنها في تجربته الشعرية أو الإنسانية والأيديولوجية والفكرية جعلت من الواقع لحظة اقتراف للذنوب أو خداع تلك الطوباوية الثورية لشعراء أصابهم ما حدث من خراب بون وتشاؤم في مصر النكسة أو ما حدث للقضية الفلسطينية من تخل عن الأرض والدخول في المفاوضات أو الحرب على العراق وربيع الخراب الذي قضى على بقية الحلم رغم أنه كان كل الحلم وليبيا وسوريا واليمن صور مؤلمة وصراع مع رجعيات عانينا تدبيرها المنهج للوعي الجمعي في العشرية السوداء في تونس.
أحدث كل ذلك تأثيرا فارقا، فالحروب والوهن والخراب جعل من الشعر في حيرة بين السائد والحلم، لذلك أعتبر أن من الضروري أن يبحث الشعر عن صور جديدة تتناسب مع حجم ما وصلنا إليه من تغييرات ليفتح منافذ أخرى للحلم والأمل حتى أكون أكثر وضوحا.
كل ما حدث من خسائر علينا أن نتجاوزه بثورة فكرية وإبداعية تجعلنا نعبر الراهن بسلام وأكبر دليل على أن القادم أجمل وجود أقلام واعدة ومبدعة وملهمة لنا حتى نستمر، لأن جل ما شغل جيلنا قضايا مفصلية كتحرر شعوبنا من نبر الاستعمار المباشر أو غير المباشر، فتوحش الرأسمالية الغربية والأميركية أعاد هذه الشعوب إلى البدايات.
كل هذه الانتكاسات أنجبت جيلا هاربا من واقعه متأثرا بجنة الغرب التي أحرقتنا في ظل تعقيدات ومؤامرات تشهدها المنطقة، لم يكن الفنان والمبدع في مستوى تحديات الراهن وانخرط في معارك جانبية إما مع الربيع أو ضده متناسيا أن الثورات أساسها فكري وفلسفي وثقافي حتى تنجح.
في ركام هذه التغييرات المذهلة والمتتالية يبقى (الشاعر الكاتب المبدع المسرحي الروائي الرسام...) مشتتا بين مرارة الواقع وقسوته وكثرة التحديات المطروحة عليه، ما شغلني كجل أبناء وبنات جيلي القضايا العادلة مسألة الحرية وانتكاسة أحلامي بمستقبل يسود فيه العدل والحرية والمساواة التامة والفعلية والقضاء على الظلم وقد ذكرت فيما سبق تأثري بقضايا التحرر العادلة في أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا وخاصة بالقضية الفلسطينية كانت لي رؤية كونية وإنسانية للعالم كنت حالمة وتائقة للعدل والحب والجمال وقد راكمت تجارب أيديولوجية وسياسية أثناء الدراسة وفي النقابات وتأثرت بالفكر التقدمي ودافعت عن موقفي من الوطن والكون والحياة.
٭ ماذا عن لحظة الكتابة لديك؟ وهل نال شعرك ما يستحقه نقديا؟
● لحظة الكتابة تبقى لحظة فارقة وخارجية عن النص والزمان والمكان في الحقيقة حافظت دوما على عفويتها ومزاجيتها التي تبقى رهينة الإلهام والصفاء الروحي وتوفر شروط ذاتية وموضوعية للكتابة، ظلت تراودني دائما فكرة إخضاعها للحرفية، لكن فشلت ولم أفلح في ذلك وتبقى طفلتي الحالمة التي تشبعت بقيم النقاء وجمال روح البدايات تغلب على طبعي وهذا ما يجعلني مقلة في النشر رغم أنني لم أنقطع عن الكتابة نظرا لإيماني باللحظة الإبداعية الفارقة والجمالية والكمال (الحق والحب والجمال).
لا أنكر مزاجيتي وأتمنى أن أصل إلى الحرفية وأتمنى أن أتجاوز ذلك، أنا ابنة السباسب وحبي لمنطقتي وبقائي فيها لم يتح لتجربتي الإبداعية الشعرية والروائية أن تأخذ حظها، كما أرى أن ذلك يعود لعدة أسباب أهمها تمركز الحركة الأدبية في العاصمة أو المركز وعدم تفتحها على الداخل أو الهامش وعدم إطلاعه وتعرفه على تجارب إبداعية واعدة.
ورغم أن كتاباتي وجدت احتفاء عربيا في الجرائد والمجلات الخليجية والمشرقية كروائية وشاعرة نالت جوائز عربية، كما أن اسم فتحية نصري المربية والشاعرة والروائية والمناضلة الحقوقية والنسوية يعرفه الصغير قبل الكبير على المستوى المحلي وأيضا العربي في دمشق والقاهرة واعترف أهم النقاد العرب والمبدعين بجودة قلمي، لكن أتمنى أن يتم تثمين تجربتي في وطني والتعريف بها وهذا ليس مقتصرا علي أنا فقط، فقد تم تهميش العديد من الأقلام المتميزة والمتمكنة من الفعل الإبداعي في تونس، لأننا لسنا في المركز لذلك لم تحظ تجربتي الشعرية والروائية بحظها من النقد والتعريف.
٭ بعض الشعراء مروا إلى الرواية وأبدعوا فيها كيف ترين ذلك؟
● كان لي الشرف أن كنت من بين الشاعرات والشعراء اللذين مروا من التجربة الشعرية إلى التجربة القصصية والروائية وقد نجحت في ذلك، فمجموعتي القصصية الأولى "مدينة اغتيال الأحلام" عن دار سحر للنشر تحصلت أقصوصاتها على جوائز وطنية كذلك روايتي "امرأة الليل" في طبعة أولى عن دار كنعان للنشر بدمشق والطبعة الثانية عن دار بيبلومانيا للنشر بالقاهرة تحصلت على جائزة عربية سنة 2021 عن المركز العربي للدراسات والمراجعات الأدبية الذي يشرف عليه الأستاذ فائز أبوجيش وعن منتدى حسام عقل وغادة صلاح وقد لاقت صدى طيبا، فقد كنت فخورة أن قلمي مثل المرأة المبدعة التونسية أرقى تمثيل.
لأننا جيل قد راكم تجربته الثقافية بشكل متنوع المشارب وكان لنا اهتمام خاص بالكتاب وتربينا على عشق المطالعة، فكنا نحتفي بالكتاب فنطالع الشعر والرواية والنقد والمقالة الأدبية والكتب السياسية.. وقد بدأت تجربتي الشعرية والكتابة القصصية في نفس الفترة ونلتُ عن ذلك العديد من الجوائز الوطنية مع أنني أؤمن بأهمية الموهبة التي لا غنى عنها حتى أن جل النقاد الذين اطلعوا على كتاباتي القصصية أجمعوا على شعريتها.
في نظري لا حدود للشعر والقصة والرواية في الإبداع ما دام القلم قادرا على خط ملامحه الإبداعية بحرفية شرط الاقتدار والتمكين والموهبة حتى لا نشرع لتداخل التخصصات الإبداعية.
٭ هل ترين للشعر من جدوى في الزمن الراهـن؟
● للشعر في كل الأزمنة والأمكنة ضرورة واضحة فاضحة للرداءة والظلم والقهر معليا بذلك راية الحق والحب والجمال سيبقى الشعر ما بقي الإنسان أداة جمالية راقية تكشف مكامن الروح ورقي الوجدان تكشف انحطاط الإنسان وتعري حيوانيته وتدعوه إلى خوض التجارب المجهولة ذلك الكائن المحب للطبيعة والقادر فجأة على حرق كل إنجازاته، سيبقى الشعر ما بقي الإنسان حرا من كل القيود.. تائقا للأبهى والأجمل.
الشعر نبض حي، ضمير الشعوب وموقف من الحياة، بل هو الحياة نفسها وهو تشريع للحلم وبعد جمالي نابض بالأمل والديناميكية أحمد فؤاد نجم بابلو نيرودا درويش نزار.. منهم تعلمنا أن الشعر هو الإنسان يتجل بهيا فيرسم بالكلمات ما تعجز عنه ريشة الرسام يؤرخ للحظات الإبداع الفارقة، منه فقط راكمنا تجارب الشعوب وتعلمنا أن الأفق كوني أرحب وأن الجمال هو غاية إنسانية يمارسها الشعر ويقترفها كل يوم، فكلما ضاقت بي السبل التعبيرية أنحاز حتما للشعر والشعرية.
٭ هل كتبت شعرا وقع التغني به؟ وكيف تقيمين حال العلاقة بين القصيدة والأغنية التي تمر الآن بأزمة إبداع وطرب؟
● كتبت في عدة أغراض شعرية من بينها الشعر الغنائي والملحون والقصائد الموزونة وبين العمودي والحر والقصيدة النثرية.
أذكر أنني كتبت قصيدا غنائيا إثر وفاة شكري بلعيد لأحد الفنانين الهواة لتبقى العلاقة بين الشعر والغناء علاقة روحية متلازمة، فمتى كانت الكلمة راقية وصادقة ومرهفة وفيها مجال للإبداع والجمالية تضمن للفنان الانتشار وللأغنية الخلود.
هذا لا يجعلنا نغفل عن أزمة الأغنية في الفترة الأخيرة وتعمد الكلمات السطحية مع الإيقاع السريع وجنوح الفنانين لاختيار أغان تجارية تخضع لمتطلبات السوق التي تفرض سطحية المفردات وسوقيتها وتعمق أزمة الأغنية اليوم كذلك بروز فن الراب أو فن الشارع وميل الذوق العام نحو هذا النوع من الغناء هو ظاهرة تستحق من المبدعين النزول إلى الواقع وفهم مشاكل ومشاغل الشباب، إضافة إلى تردي الذوق العام وفشل المشاريع الفكرية الثقافية والتربوية لبلداننا خاصة في تونس كأزمة الكتاب أو نفور هذه الأجيال من المطالعة، فدورنا اليوم هو كيف نعيد الثقة في الكتاب بكل مضاربه وكيف يستعيد المبدع دوره في مجتمعه ويتماهى وواقعه الثقافي بعيدا عن التقوقع والعنجهية والتعالي.
باعتباري ناشطة في المجتمع المدني لا ألقي بالمسؤولية على هذه الأجيال بقدر ما هو تحميل الدولة والمثقف ما وصلنا إليه من ترد ثقافي، الحل يكمن في مشروع فكري وثوري متكامل تتبناه الدولة بكل تعبيراتها مع إعطاء المبدع دوره الحقيقي وتشجيعه.
حقيقة في وطني لا نقدر كفاءاتنا ولا نحترم مبدعينا، إضافة إلى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي خلفت لنا مبدعين من وهم ومن ورق وإدمان الإنترنت جعل من هذه الأجيال تنفر من الكتاب وتبحث عن الاستسهال وإدمان الألعاب الإلكترونية والتقوقع.
هذا الوهم الافتراضي جعل من الجميع يستسهل الشعر والكتابة، إلى جانب نفور المبدع من واقعه وتهربه من الفعل الثقافي الحقيقي ومن أهمية التجديد في واقع متغير بشكل مذهل ويومي وضرورة الوقوف على أهمية التغيير والتجديد في الأساليب الإبداعية المعتمدة والتي قد لا تناسب هذه الأجيال حتى نقلل من الفجوة بين الفنان المبدع وواقعه.
٭ هل يمكن أن نتحدث اليوم عن جماليات أخرى جديدة ومغايرة تتطلبها القصيدة العربية؟
● إن التغيير المذهل الذي يمر به العالم وبروز وسائل التواصل الاجتماعي كطرق حديثة للتعبير والتواصل يجعل من الضروري أن نفكر في طرق جمالية وإبداعية متطورة تتناسب وهذه الفجوة الرقمية التي تفصلنا عن الكون والحياة حتى لا نكون خارج التاريخ ولا نتعامل مع الأحداث بحرفية وحضور يشكل لدينا وعي حقيقي بالتغيير لنقترب أكثر من القارئ والمستهلك الأساسي للمادة الإبداعية بشتى أنواعها حتى لا نبني فجوة بيننا وبين الواقع باعتبار أن المثقف العضوي هو الفاعل وليس كيانا منفعلا يسلب نفسه الموقف من الكون والحياة بعيدا عن الشعبوية والشعارات الزائفة للسياسيين وللأسف سقط في ذلك المثقف وأصبح حبيس التصنيف الأيديولوجي.
كلما اقتربنا من هموم الناس كلما ضاقت دائرة الخوف وأسعدنا دور المثقف الفاعل في واقعه
حقيقة علينا أن نفكر في طرق إبداعية وجمالية قريبة من الواقع الإنساني والمجتمعي الذي يجبرنا على خوض الكثير من التحديات.
إن التوحش الإمبريالي والعولمة المتسارعة جعل من المثقف أو المبدع حبيس الروتين اليومي والضغط الاقتصادي داخل دائرة مغلفة تجبره على الاستسلام أو الاكتئاب يجعلنا نفكر بكل جدية في مشاريع ثقافية وفكرية تتبناها الدولة ويكون المثقف شريكا فاعلا فيها حتى ننقذ الإبداع من هذا الانحطاط والرداءة اللتان تحاصرانه ونبني جسرا من الثقة والود بيننا وبين المتلقي.
هذا الزمن الذي توحش فيه الإنسان وتمرد على كل القيم الإنسانية من أجل منافعه وصالحه، كدول أو كأشخاص أصبح بناء الثقة بيننا وبين القارئ أو المستهلك للثقافة أمرا ضروريا، فالمصالحة لا تنبني على التعالي والغطرسة، فكلما اقتربنا من هموم الناس كلما ضاقت دائرة الخوف وأسعدنا دور المثقف الفاعل في واقعه مثلا الأغراض في استعمال لغة أكاديمية لن يفهمها هذا الجيل ولن تعبر عن مشاغله ومشاكله صناعة حقل لغوي يناسب الواقع.
طموحات هذا الجيل هو مشروع على المبدع والدولة تبنيه من خلال مشاريع ثورية متطورة في النهاية نحن نرنو إلى آلية التعبير والواقعية والاقتراب من روح المستهلك للفن والإبداع بكل أنواعه وتجلياته ولسنا دعاة للاستسهال أو للرداءة.
٭ هل ترجمت أشعارك إلى لغات أخرى؟
● لم تترجم كتاباتي الشعرية أو الروائية إلى أي لغة وأتمنى ذلك لأنه سيمنحني فرصة التواصل الإنساني مع ثقافات وبلدان أخرى، للأسف أتمنى ذلك وهو حلم كل مبدع أن تترجم كتاباته إلى لغات أخرى وبالتالي سيمنحه حياة أخرى، أمل ذلك في أقرب فرصة.
٭ ما هي أهم مشاركاتك الشعرية العربية والدولية إلى حد الآن؟
● شاركت في عدة منتديات ومهرجانات عربية في تونس وخارجها كمصر الشقيقة وسوريا والعراق من خلال جوائز أدبية أو تكريم لمسيرتي الإبداعية في الشعر وقد نلت التكريم في الشعر في أكثر المهرجانات ذات الطابع الدولي مثلا من قبل رابطة جمال الدين والعنقاء الأدبي بالعراق في تونس وتحصلت روايتي "امرأة الليل" عن دار بيبلومانيا للنشر على جائزة عربية وتم تكريمي في القاهرة من قبل المركز العربي للمراجعات وللدراسات الأدبية الذي يشرف عليه الأستاذ فائز أبوجيش ومنتدى غادة صلاح والدكتور حسام عقل، إلى جانب استقبالي والاحتفاء بي من قبل اتحاد الكتاب العرب بإشراف الدكتور علاء عبدالهادي، بالإضافة إلى السفارة التونسية في القاهرة وهذا يجعلني على ثقة تامة بأهمية التعريف بتجاربنا الإبداعية خارج حدود الوطن، لأنها أينما حلت تترك أجمل الانطباعات كذلك لنتعرف على التجارب الإبداعية العربية أو الإنسانية لنثري تجاربنا ونستمر في الفعل الثقافي والتميز والإبداع.
٭ وأنت في أوج هذه المسيرة الشعرية والسردية ماذا تقول الأديبة فتحية النصري؟
● مازلت أخوض تجاربي الشعرية والروائية بشغف وأحلم بربيع اللوز يحف الخطى على هذه الأرض الخضراء الندية والحبيبة أنا هناك من جبال السباسب الشامخة ومن سفوح الشعانبي الذي مر بمحن كثيرة راكمتها كشاعرة وكروائية وابنة هذه الربوع المناضلة ضد النسيان والتخلي أنتصر للحب وللحياة أقول لك صديقي مازلت طفلة تقترف ذنب الكتابة وتتعامل مع الكون بوجدان الثائرة على النمطية والرتابة في الكتابة وفي الشعر سعدت كثيرا بهذه المصافحة الرائعة وهذه الصدفة التي جمعتني بك صديقا أكن له كل الاحترام والتقدير شكرا للعاصمة الخضراء التي جمعتنا وألف شكر لك مبدعا أصيلا وصديقا وفيا تحياتي لك لأنك فسحتم لي المجال من خلال منبركم الإعلامي الراقي لشخصي المتواضع فتزدحم الأفكار وتتردد الكلمات فأقول في حبك يا بلدي /مازلت ليك نغني ومازلت نزرع دروب الورد بعزفي وفني / سنبقى الأقرب رغم المسافات وسيخط قلمي آيات العشق والعرفان لهذا الوطن الجميل الذي عشقنا رغم المركزية الضيقة والنسيان.
من جبال الشعانبي الشماء سنظل أوفياء للحب والجمال من ربيع الزعتر ومن نسماتها البهية وغاباتها سنحضن عشقنا لخضراء العيون سأبقى طفلة عاشقة للوطن بوصلتي الإبداع والكتابة ضد الرداءة والنسيان نابضة بالحياة، لأن في الكتابة حياة سأكتب حتى ينصفنا التاريخ على العهد دوما وأن باعدت بيننا المسافات سنكتب عن تونس التنوع والمحبة سأكتب عن السباسب التي عشقنا خرائط وجع ووشمات أمازيغية تحدث العابرين عن الثورة والحب والحياة سنكتب ضد الرداءة سنتغنى بالشعر ضد القبح وسنعلي رايات التمرد والحق والجمال.. إذا دجن المبدع وتخل عن التمرد عن السائد سيظل الطريق لذلك سأحافظ على روح الثورة والتمرد في داخلي.
٭ بماذا تحلمين ككاتبة الشاعرة والإنسانة؟
● أحلم كإنسانة وكشاعرة أن تلغى الموانع الحدود وتبقى غايتنا الأساسية الإنسان سنشرع سفينتنا للريح ونترك للحلم فسحة أخرى ونبحر مهما اشتدت العواصف كل ما أتمناه أن لا نذبح أماني أبناءنا ونقاوم بكل عنفوان المركزية الضيقة وأن يفسح المجال للجميع حتى لا نكون على الهامش ونقاوم العنصرية والجهوية المقيتة وأن تبقى تونس أما لنا تحضن إبداعات أبنائها ولا تتركهم فريسة للتخلي والنسيان والتطرف، أرفض التقسيم والتسطيح الذي جعل منا غرباء داخل هذا الوطن العزيز أكتب أكثر من ثلاثين عاما، كنت المتمردة التي ترفض التأطير انتميت أخيرا إلى اتحاد الكتاب أحمل خلفي إرثا لسفيطلة وسيليوم عاصفة أفريقية لمئات السنين أحلم بتونس الممكنة أحمل خلفي وزر سنوات من النضال الحقوقي والنسوي ضد التهميش على أساس النوع والجنس والعرق واللون، ما أعد به الكتابة ثم الكتابة ضد الرداءة وانتصارا للحياة.
٭ وأخيرا...
● وأخيرا تركت لي فسحة حرة من الانفلات الفكري فمارست كعادتي طقوس اقتراف الكتابة دون قيود أو تابوهات.. كل الشكر والتقدير على هذا المتنفس الإعلامي الذي فسح لي المجال كي أعبر عن كل اختلاجاتي وثورتي وحبي للإبداع ولهذا الوطن الحبيب والجميل، فقط سأقول لك عشت فترات كانت فيه المنتديات الأدبية والمهرجانات الشعرية من شمال البلاد حتى جنوبها تدفعنا للمنافسة والكتابة.. هذا يجعلني متأكدة أن على هذه الأرض الخضراء الندية من أقلام متمكنة ومبدعة ما يترك لنا مساحات للحلم والفعل الثقافي ما يستحق عناء الكتابة والإبداع والحياة فتحية نصري الشاعرة والروائية والقاصة ستواصل الكتابة ضد القبح وإعلاء قيم الحق والحب والجمال والتمرد على السائد والتأسيس ضمن جيل من الشعراء والكتاب كان وفيا ومنحازا للإبداع والجمال.