عبدالقادر رباعي يستعيد وهج الصورة من اطار التكوين الفني

الناقد الدكتور يواصل اشتغاله على مشروعه النقدي والفكري دون كلل أو ملل رافدا خلال مشواره المكتبة العربية بعشرات كتب تُعد مرجعا هاما وغنيا للدارسين والباحثين في شتى حقول المعرفة والأدب.

يواصل الناقد الدكتور عبدالقادر رباعي اشتغاله على مشروعه النقدي والفكري دون كلل أو ملل، رافدا خلال مشواره النقدي والعلمي المكتبة العربية بعشرات الكتب النقدية والبحثية التي تُعد مرجعا هاما وغنيا للدارسين والباحثين في شتى حقول المعرفة والأدب، كما تٌعد مرجعا للطلبة في الجامعات.

ضمن هذا السياق صدر للدكتور عبدالقادر رباعي كتاب جديد حمل عنوان: "بلاغة الصورة.. التكوين الفني إطارا" مشتملا على السياقات الأدبية ذات الصلة بـ "ومضات شعرية، ثقافات نقدية، وسرقات أدبية" إضافة إلى ملحق خاص لمحاضرة فضاءات.    

ونتساءل مع د. رباعي إلى أي حد تنتمي بلاغة الصورة هذه إلى بلاغة جديدة، فما هي هذه البلاغة؟!! وللإجابة الضافية على السؤال، يبدأ بفقرة مهمة جداً، مؤداها: الإعلان عن هذه البلاغة الجديدة لنظرية وهي "البلاغة التكوينية  Constitutive  Rhetoric" لمبتكرها جيمس بويد وايت  James Boyd White  عام 1984 في أميركا. و وايت أستاذ للقانون واللغة الإنجليزية، والدراسات الكلاسيكية في جامعتي شيكاغو، وميتشيغان, وهو خريج هارفرد في الأساس.

 ويبيّن د. رباعي  بأن هذه البلاغة كما عرفها وايت: "هي تكوين فني  Constitutive Art، وليس ذاتاً خاصة فارغة. إنها تبتدع وتقوي الثقافة والمجتمع. إن هذه البلاغة - كما يعتقد جيمس بويد وايت - لا يمكن أن ترى مجرد علم عاجز وضعيف، ولا هي 'مجرد فن وضيع للإقناع- كما هي الآن' ولكنها تقوم على أساس أنها   فن مركزي يؤسس لثقافة ومجتمع جديدين ثابتين. وهو يدعو هذه البلاغة: البلاغة التكوينية onstitutive Rhetoric c".

  ويعلل د. رباعي أن لهذه البلاغة التكوينية عدالتها في أنها ذات موضوع جوهري، ولها وجه  قانوني يرى فيها صورة ذهنية نوعية، تعتمد اللغة، والثقافة، والفن أساساً،ً وتمتد إلى الأدب وبعض الموضوعات الإنسانية  الأخرى التي تستخدم اللغة عنصراً فاعلاً فيها، وخاصة في أصولها ومنطلقاتها  كالقانون وغيره من العلوم الإنسانية عموماً، حتى إن بعض دارسيها أطلقوا عليها "بلاغة العلوم الإنسانية". ومن أجل هذا تمتاز هذه البلاغة بالجمع بين التعدد والتنوع؛ ففيها الفن، وفيها الأدب، وفيهاالفلسفة، والقانون. وهذا من أهم غايتها التنوعية.

 وأشار د. رباعي إلى أن وايت   ويركز  على لغة النص وفاعليتها عملياً وخاصة وظيفتها الأدبية، لذلك ربط في بعض كتبه بين اللغة والمعنى البعيد، ففي كتاب له بعنوان "قوس هرقل" جمع فيه بين اللغة معناها، وقوس هرقل. قال: فقد الكلمات لمعناها، فقد هرقل لقوسه. 

ويضيف د. رباعي، كما أنه اهتم بالفن عنصراً جامعاً. ولهذا قَرنَ القانون به، فسمى أحد كتبه "الخيال القانوني". قال في موضع منه مخاطباً القارئ: "أريدك أن تجرب المسار التالي: حاول قدر المستطاع تخيلاً يقودك إلى إمكانية إدراك القول بأن القانون ليس علماً اجتماعياً- كما هو شائع–  ولكنه فن من الفنون. إن ولاءك للمسار الذي سلكته سيقودك إلى أن تصبح فناناً. لم تعد هناك - بعد الآن - حاجة لقواعد تعبيرية مرسومة لفن المحاماة أكثر من حاجة نحات أو رسام. ومن هنا تشكلت الصورة في هذه البلاغة كي تمثل قالبها، وقلبها معاً". 

 وحول المشروع البلاغي المختلف يذكر د. رباعي، ويرفد "بلاغة الصورة" هذه (جماعة موGroup  MU) في بلجيكا. لقد أعلنوا عام 1970عن طرحهم مشروعاً بلاغياً مختلفاً أسموه" البلاغة الجديدة العامة- بلاغة الصورة"، وذلك بعد عشر سنوات فقط على طرح بيرلمان  كتابه "مصنف الحجاج - البلاغة الجديدة". ما يعني أن "جماعة مو"   (Group MU) لم يكونوا مقتنعين  بطرح بيرلمان أن الحجاج هو بلاغة جديدة، وليؤكدوا بأن مرحلة السبعينيات من القرن العشرين وما بعدها، هي مناسبة لطرح بلاغة الصورة- بلاغة جديدة،  بعيداً عن بلاغة الحجاج التي سميت مجازاً:  البلاغة الجديدة.

 ويوضح  بأنه جاء في وكبيديا أن البلاغة التكوينية هي نظرية ابتكرها جيمس بويد وايت حول قدرة اللغة أو الرموز على إنشاء هوية جماعية للجمهور، وخاصة عن طريق صور التكثيف والأدب والسرد ورموزها. وغالباً ما تتطلب هذه البلاغة اتخاذ إجراء لتعزير الهوية، ومعتقدات الهوية. لقد تعوّد وايت أن ينقل توضيحه الدال على تكوين الشخصية والمجتمع والثقافة في اللغة.  ووفقاً لما تدل عليه هذه الثقافة الغنية للبلاغة الجديدة – بلاغة الصورة، فإني أرى أنه من المؤكد - كما مر في فقرة وايت نفسه: أن "التكوين الفني جزء من البلاغة التكوينية. إنه يؤشر على بلاغة الصورة؛ شكلاً ومعنى". ثم إن بلاغة الصورة تستند إلى النظرية التكوينية  في اتساعها وتعدد مساراتها؛ الأمر الذي انعكس على ما نهجه هذا الكتاب في تكوينها، من تحولات الصورة الشعرية والفنية، والشعروالشعراء: عرار من الأردن، وخليل حاوي من لبنان، ومحمد إقبال من باكستان. والنقد على تعدد موضوعاته، كالنقد الثقافي، والنقد الشعري الحديث والقديم، والمناسبات النقدية وغيرها.   

 ويؤكد د. رباعي في كتابه أن السرقات الشعرية محصورة في سرقة واحدة سجلت على أستاذ جامعي من بلد عربي سطا على بحث للدكتور الرباعي حول الشعر الجاهلي. تناقلت هذه السرقة النقدية، مقالات أدبية بكثير من الانتقاد، حتى سماها بعضها "سطو علمي"،  كون الساطي في مفارقة عجيبة؛ فهو أستاذ جامعي يعلم طلبته في الدراسات العليا الأمانة العلمية، ويشرف على رسائلهم العلمية مع توصية مؤكدة منه، أن السطو العلمي سلوك أكاديمي معيب.    

 ويؤكد لنا هنا ثاني "إن بلاغة الصورة إذن هي جزء من النظرية التكوينة على اتساع هذه النظرية ووظيفتها حول قدرة اللغة والرموز وتكثيف الفن والأدب بكل قواعده وفروعه". 

وضمن الإطار العام هذا، فإنه لا يقصد بالصورة هنا مجرد شكل سطحي منفصل، وإنما هي بناء واسع متصل الحلقات متكامل الفن. قد تبدأ الصورة هيئة بسيطة إلا أنها تتمدد داخل سياق حتى تشكل منظراً فنياً يتجسد في قصيدة شعرية، أو رواية قصصية، أو لوحة فنية، أو حتى في مقطوعة موسيقية. فالصورة هنا صورة فنية إيحائية تعبر عن حالة إنسانية في زمان ومكان. وهي مولودة نضرة لقوة خلاقة هي الخيال، والخيال – حسب كوليردج - نشاط فعال يعمل على استنفار كينونة الأشياء لبناء عمل فني متحد الأجزاء، فيه هزة للقلب، ومتعة للنفس، وبهجة للعقل.فبلاغة الصورة ؛ تنتمي إلى الفن أولاً، وتنبع من الخيال ثانياً، وتؤول إلى التعبير الحر عن الإنسان ثالثاً.

 وهنا نشير إلى أن جاء الكتاب استجابة للطفرة البلاغية الجديدة. فالبلاغة استعادت عافيتها هذه الأيام بقوالب جديدة مختلفة، حتى غدت على كل لسان، وكل لغة، وكل فن. ومن هنا فإن أول زادها الصورة التي تعددت مشاربها كالشعر والسرد والفن عموماً، بل تجاوزت ذلك إلى النقد والإنسانيات بعامة.

 أما بلاغة الصورة فهي ليست أول ما كتبه مؤلفها في الصورة، فالصورة لصيقة بدواخله منذ رسالته للدكتورة "الصورة الفنية في شعر أبي تمام" 1976. وأبو تمام صاحب منهج تجديدي مختلف عليه في الصورة خاصة، لكنه تسامي بالصورة حتى جمع فيها بين المتضادات في ربقة عرفت بتنافر الأضداد، أو تواؤم الأنداد. ومن هناك تعلق بالصورة، فازداد لها درساً تنظيرياً "الصورة في النقد الشعري" وتطبيقياً "الصورة عند زهير بن أبي سلمى "ومقاربة "الصورة والأسطورة".

لقد استعاد المؤلف الدكتور الرباعي في هذا الكتاب الجديد "بلاغة الصورة- التكوين الفني إطاراً" إذن؛ وهج الصورة وبهجتها، فكانت له تغذية راجعة ومتوالية، لإثبات الحقيقة الناصعة: أن الصورة ما زالت عالقة في قلبه، وعقله، وكيانه. ومن أجل أن يتكامل مشروعه النقدي المتجدد الذي أسس بنيانه على بينة مدروسة بعناية. أتى هذا الكتاب: "بلاغة الصورة – التكوين الفني إطاراً".