
في رحاب أديرة دمشق على خطى بولس الرسول
إني أقف أمامه الآن، أشعر برعشة تسري في الأضلاع، يخيل إلي الآن أنه يتدلى بسلة من على السور هرباً من الخونة، أصوات دعوات المؤمنين تعلو وتناجي الرب بمساعدته، فيما يلقي هو لمحة أخيرة على الرفاق قبل المضي في رحلة لا يدري نهايتها، أستجمع نفسي وأهم بدخول الدير، قلبي ينبض بالكثير وذهني يشتعل بالأفكار والرؤى.
كنت سمعت كثيراً عن قصة القديس بولس، لكنها المرة الأولى التي أدخل فيها ديره، أترك رعشة جسمي خارجاً مستعيناً في ذلك بقوة عظيمة اكتسبتها من رجل أزاح جانباً هموم الدنيا ومخاوفها وأقبل على حياة كُرست لعبادة الرب والدعوة له مستجيباً لدعوة الله على لسان القديس حنانيا:"إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته وتبصر البار وتسمع صوتاً من فمه، لأنك ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت"، فيحضرني طيف بولس بصبره وجلده في الدعوة عامين متواصلين في روما بينما كانت السلاسل تكبله والحراس يضيقون الخناق عليه، خطوة أخرى إلى الداخل كانت كفيلة بنقلي إلى عالم آخر، حجرة صغيرة تطبعها الظلال بطابع الحزن والسكينة، أجول في المكان نظري ليقع على إيقونات ستة معلقة على جداري الدير، أقترب فأدرك، نعم إنها قصة بولس الرسول، لن أستعجل الشرح فالقصة قادمة، أطالع في وسط القاعة طاولة رخامية كبيرة خُصصت لتعميد المواليد الجدد.
أكمل الرحلة داخل الدير الذي تحول جزؤه الداخلي كما كثير من أديرة دمشق القديمة إلى دار للأيتام والعجزة، أتابع البحث فيطالعني نصب تذكاري منحوت من البرونز الصرف يصور حادثة تجلي الرب للقديس بولس.
تقودني الأحاسيس دون دراية مني على خطى مقدسة لبولس الرسول، فإذ بقدمي تخفان السير على الطريق المستقيم لأجد نفسي في كنيسة حنانيا موقع انطلاق التبشير بالمسيحية.
تتألف الكنيسة من مدخل صغير مزين بالإيقونات، ويلفت النظر بداية تمثالان يرمزان للقديس حنانيا وهو يعمد شاؤول، والثاني للقديس حنانيا واقفاً بيدين مشرعتين تحملان هدى الرب إلى رعيته.
ألمح إلى جانب التمثال باباً يتواطئ خفية مع مشاعري فيلهمها الدخول إلى درج ذو درجات حجرية صغيرة يضطر المرء عند نزولها لإخفاض قامته، فيلوح لي حينها بولس وهو يحني هامته أمام حنانيا فيما يضع الأخيرة لمسته المباركة على رأس بولس ليطلقه أداة للرب يدعو له في أصقاع الأرض، أتابع نزولي الدرجات فيما تتصاعد أنفاسي التي لا تلبث أن تقف برهة أمام مشهد لا يتسع إلا للدهشة وعظيم الخشوع، أكاد لا أصدق أن بضع درجات كانت كافية لنقلي خمسة أمتار في عمق المكان وألفي عام أخريات من عمر الزمان، نور خافت يبعث على الهدوء يقودني داخل حجرة صغيرة تصطف على جانبيها مقاعد تنتظر منح البركة لجالسيها، بضع خطوات أخريات وها أنا في صدر المكان أدهش نفسي برؤية إيقونات ثلاث تروي أولاها قصة معجزة سماوية متمثلة في نور إلهي أخذ بصر أكبر مضطهد للمؤمنين ليصبح أبرز جنود الله وأعظم دعاته، وتكمل الإيقونة إلى جانبها القصة فها هي يد حنانيا الممثلة ليد الله تُدخل شاؤول المتشدد في دين الهدى، فيما تصور الإيقونة الأخيرة الدعوات والبركات التي يحملها التلاميذ المؤمنون لبولس فيما هم ينزلونه خفية من على أسوار دمشق خوفاً عليه من فتنة اليهود وبطشهم.

تنتهي قصة اللوحات هنا لتبدأ قصة أخرى لاحت لي حالما رفعت نظري لتأمل حجارة بعمر التاريخ تحمل سقف كنيسة الإيمان، فها هو حنانيا يخيل إلي وهو يتضرع لربه ويسلم إليه نفسه قبل أن يشرع اليهود برجمه بالحجارة يوم استشهاده، أُطفئ شمعة وأُشعل أخرى فيما يتمتم قلبي عبر شفتي بأمنية من وحي المكان أحتفظ بها لنفسي، أتجه لقاعة داخلية أصغر من الأولى، قاعة تروي جدرانها عبر إيقونات عديدة معلقة عليها قصة هداية بولس الرسول الثالث عشر، فها هو الرب يخاطبه:" قم وقف على رجليك، سأنقذك من شعب اليهود ومن الأمم الغير يهودية التي سأرسلك أنا إليهم ، لتفتح عيونهم، فيرجعوا من الظلمات إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، حتى ينالوا بالإيمان بي، غفران خطاياهم، ونصيباً مع المقدسين"، فيما يهمس الرب في موضع آخر بأذن حنانيا قائلاً عن بولس:" اذهب فإن هذا لي إناء مختار، ليحمل اسمي أمام الأمم وملوك وبني إسرائيل، فإني سأريه كم ينبغي أن يتألم من أجل اسمي"، وتتابع الإيقونات سرد أسفار بولس ورحلاته الأربعة بين (46 -62 م) والتي تأخذه إلى القدس وأنطاكية فضلاً عن قبرص وبلاد اليونان وكريت، ويصل بعدها روما حيث ينهي مسيرة دعوته السماوية على يد سياف (نيرون)، قبل أن يستشهد رفيقه ماربطرس في ذات اليوم، وكأن مشيئة الرب أن يلتقي الرجلان المؤمنان في السماء كما التقيا في الأرض على حب الله ونذر النفس في سبيله.
أنهي زيارتي إلى المزار فيما نفسي مشمولة بسحر مكان سيبقى أبداً مقيماً فيها، أجتاز المكان مغادراً فيخيل لي أن يداً قد ربّتت على كتفي لتسري قشعريرة في جسدي، التفت فلا أرى أحداً، ابتسامة صغيرة ترتسم على شفتي فيما أتابع طريقي، طريق القديس بولس، قاصداً كنيسة الأرمن الأرثوذكس التي تزين الكتف اليساري لباب الشمس (باب شرقي).
أجتاز الباب لتتسابق البسمات في استقبالي، فاليوم هو الأحد، موعد القداس حان والتراتيل تخترق أفق السماء، ساحة الكنيسة تشهد نشاطاً كثيفاً، قرب مدخل الكنيسة يقف رجل يتحلق حوله مجموعة أشخاص، وهو يبدو مزهواً يتكلم والجميع يبدو متأثراً ومنصتاً، علمت أنه السيد جورج كيفوركيان، ومن أراد معلومة عن الكنيسة لابد أن يمر من خلاله، يحالفني الحظ فأنفرد به دقائق بعمر دهور رسمت خطوطاً من التجربة على محياه مثلما طبعت روحه بالمتعة وطريقة حديثه بالسلاسة والجاذبية، يعود الحديث بنا إلى زمن الدير الذي كان قائماً مكان الكنيسة الحالية والذي كان يُعتبر محطة للحجاج القادمين من الشمال نحو بيت المقدس، فيسرح الخيال نحو أشجار للدير وارفة الظلال يستظل بها الحجاج من قيظ الشمس، قبل أن تودعهم يد الرعاية بابتسامة ترتسم على شفاه تدعو لهم بالمسير الآمن إلى وجهتهم، ثم يتجه بنا الحديث نحو عمارة الكنيسة الحالية التي بنيت عام (1445 م)، وطالتها يد الدمار في (1860 م) قبل أن تنهض بها عزيمة وجهود الأخيار بين عامي (64 -1867 م).
ولعل أبرز معالم الكنيسة يتمثل في مجموعة إيقونات رائعة تزين بهوها الداخلي وتضاهيها في الروعة لوحات مرسومة على السقف وهي من أساسه، وقد خضعت للتجديد مؤخراً كما باقي أجزاء الكنيسة وذلك في (2003 م )، يلفت النظر خارجاً قبر رخامي علته الأزهار وأحاطت به أدعية الموجودين، وعلمت أنه للمطران السابق الذي كان يحظى باحترام وحب تجاوز حدود رعيته نظراً للدور الجليل الذي كان يمارسه في التقريب بين الأديان، ومن القصص الصغيرة والدالة مساهمته في إعادة إحياء جامع بمنطقة إعزاز شمالي حلب ما ترك أثراً طيباً في نفوس المسلمين شركاء إخوتهم المسيحيين في نبع الإيمان والعطاء ذاته، كما علمت من السيد جورج عن تمثال قيد الإنجاز حالياً في أرمينيا وهو يمثل الصداقة بين الشعبين العربي والأرمني.
يكمل بي السحر طريقه ليقود خطاي هذه المرة إلى كنيسة الزيتون للروم الكاثوليك فألقى الترحيب والأحضان الواسعة في ابتسامة تمثال يسوع الذي يتوسط صدر الواجهة الأمامية العلوية للكنيسة، خطوة أخرى إلى الباحة الداخلية فأجد نفسي في باحة بيت دمشقي يمتزج فيه الهواء برائحة شجرة الليمون، فيما تنعكس الشمس بأشعتها على صفحة البركة الزرقاء القديمة التي تتوسط الباحة، ترفع نظرك فيتداخل في ذهنك القديم بالجديد، ففيما توحي الحجارة السوداء بقصص قرون خلت مذ كانت ديراً، يطالعك الرخام الأبيض الحديث بمسيرة تجديد طالت عمر الكنيسة، خلف أقواسها المحمولة على أعمدة زُيِّنت بالتيجان الرومانية، وفي أروقتها الطويلة، يستغل الوافد للكنيسة جواً مثالياً للجلوس والتأمل.
أترك الباحة الخارجية والتأملات تحاصرني، لأدخل إلى البهو الداخلي للكنيسة، فأكتشف عالماً داخل عالم، مجرة تسبح إيقونات القديسين والثريات المضيئة داخلها، الرسل والقديسين يستقبلونك فور دخولك بنور ينبعث من إيقوناتهم الموضوعة فوق المذبح ليخترق البريق فؤاداً تتضامن معه النفس بشهقة لذيذة قلما اختبرتها قبلاً، أقترب من المذبح فأشعر بالعناية تحيطني ها هي مريم عن يميني وابنها يسوع عن يساري أشعر بهما وقد خرجا من إيقونتهما تجاهي، فيما انشق المذبح نصفين ليكشف عن ضوء يأخذ الأبصار، أتقدم نحو الضوء فيما أفتح عيني، لأجد نفسي جالساً في مكاني على المقعد، أنتظر برهة أنظم فيها أنفاسي وأتابع جولتي.
أتسلق بنظري حجارة الأعمدة السوداء التي تشكل بارتصافها قرب بعضها ممراً طولياً، وهي بذات الوقت تحمل سقف الكنيسة الذي تتدلى منه شموسٌ في هيئة ثريات أكبرها تتوسط سقف الكنيسة وتستمد بريقها من رسم للمسيح يعلوها، وأشعر بالسقف من خلال القناطر وكأنه يحنو على الجدران التي تتلألأ فيها صور إيقونات القديسين ضمن أطر رخامية بيضاء، أترك من نفسي في المكان جزءاً لا يطاوعني على الخروج، فيما أحمل في ذاكرتي صوراً وخيالات ستحملني يوماً على العودة.