حين يبتسم وجه طيب تيزيني.. من وراء غيمة بكاء
ماذا يعني أنْ يذرف قامة كالمفكّر العربي السّوري طيب تيزيني الدمع، وتنحبس الكلمات في حلْقه من قبْل أنْ ينبس ولو بحرف واحد؟
ذُهلتُ وأنا أراه يُخفي بكفّيْه وجْهه ُالغارق في العبرات، كأنّي أُشاهد لحظة تراجيدية بامتياز، لا شيء حاضر في تلك اللّحظة البارقة، سوى عبثية المشهد الذي نعيشه، بشاعته، ووحشيته، فاقت تصورات هذا المفكر الذي قد يختلف الكثير معه في زاوية نظره التي تعتمد الجدلية المادية الماركسية، في مساءلته واستنطاقه للتراث والتاريخ.
بالأمس البعيد، كنت أراه، يقول بوجه غائم: ما كتبته طيلة حياتي في حاجة إلى إعادة مراجعة، أمام ما نعيشه اليوم من هوْل الفاجعة: نعيش زمن المابعديات: ما بعد الحداثة، ما بعد الأخلاق، ما بعد الإنسان..
يغرقُ تيزيني في نحيب شفيف، وهو يصف المشهد المأساوي قائلا: هذا النظام العالمي الجديد، ابتلع الطبيعة والبشر، هضمهما، لإخراجهما سلعا. هكذا، كلما ارتفعت قيمة الأشياء، هبطت قيمة الإنسان: قيَمه وإنسانيته، مقابل هيمنة المال والسلاح مع تفكك وتفقير مرعب لما يسميه بالحامل الاجتماعي ويقصد الطبقة الوسطى.
يغرق تيزيني الإنسان مرّة أخرى، في بكائيات: تسارع الواقع وبشاعته ومشهديات الدم والعنف فاقت توقعاته، وأربكت كل المسلمات..!
كنت أتفحّصُه وأرقب كل تحركاته، مرة بقلب الشاعر ومرّة بعقل الدارس والمهتم بمشاريع التحديث العربي، كنت دائما على يقين، أننا شعوب مصدومة، تأخذنا الفجيعة على حين غرّة: حملة بونابرت على مصر كانت بمثابة الصّدمة التي حرّكت السواكن، منها انطلق السؤال:
لماذا تقدّم الغرب وتأخّرنا؟
ومنذ ذلك الوقت، ونحن نراوح مكاننا، ولا إجابة قاطعة، الصّدمات تلو الصدمات..!
ليس أكثرها قتامة، هذا التبشير بزمن وحشية الإنسان الذي نعيشه الآن..
كنتُ ذاهبا، وفي رأسي قرْقعة، كنتُ مصرّا لرمْيها في وجهه دفعة واحدة، ليُجيبني، أنا المُطّلع على فكْره، وفكْر مرُوّه-1-، والجابري-2-، قارئ جيّد لروّاد الإصلاح: الطهطاوي، الكواكبي، خير الدين التونسي وغيرهم:
ماذا بعد؟ وأيّ وجاهة لطرح مسألة التراث اليوم والوقوف على تأويل النص الديني في واقع متسارع، يصنع تأويله الاجتهادي لحظة قطْعه للرؤوس..؟!
إلا أني تراجعت أمام ذهوله الذي فاق ذهولي من الواقع.
اقتربت منه وحدثته عن الشعر وشفافيته فأبتسم وجهه من وراء غيمة بكاء، سارعتُ لالتقاطها في صورة!
يا قلبي الحزينُ.. خفّف من روْعكَ قليلا..!
هوامش:
*الدكتور طيب تيزيني (10 أغسطس/آب 1934 - 18 مايو/أيار 2019) هو مفكر سوري من مواليد مدينة حمص، من أنصار الفكر القومي الماركسي، يعتمد على الجدلية التاريخية في مشروعه..
1-الدكتور حسين مروّة (1910 - 17 فبراير/شباط 1987) هو مفكر وفيلسوف وباحث، وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني سابقا قيادي شيوعي بارز في لبنان والعالم..
2-محمد عابد الجابري (27 ديسمبر/كانون الأول 1935 بفكيك، الجهة الشرقية - 3 مايو/أيار 2010 في الدار البيضاء) مفكر وفيلسوف مغربي، له أكثر من 30 مؤلفا في قضايا الفكر المعاصر، أبرزها "نقد العقل العربي" الذي تمت ترجمته إلى عدة لغات أوروبية وشرقية، كرّمته اليونسكو لكونه "أحد أكبر المتخصصين في ابن رشد، إضافة إلى تميّزه بطريقة خاصة في الحوار".