ترجّل عن الحياة من علمني الاقتصاد في الكلام
"ذهب من علمني الاقتصاد في الكلمة" عبارة قد تكون بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل بين طياتها أوجاعًا كبيرة وفقدانًا لا يعوَّض. اليوم، أكتب عن شخص كان أكثر من مجرد مدير، كان معلمًا وصديقًا، أستاذًا وأبًا، وقدوة لم أكن أتصور أنني سأفقدها يومًا، فقد غاب عنا، لكن كلماته وأفعاله ستظل حاضرة في حياتي للأبد.
كان مديرًا لي في العمل، لكن لم أشعر يومًا أنه "مدير" بالمعنى التقليدي للكلمة، كنت أناديه مرة العم هيثم، ومرة "البوص العظيم"، لم يكن جافًا أو متسلطًا، وكان قائدًا حقيقيًا بروح طيبة وأسلوب لطيف، ويملك القدرة على إدارة العمل بطريقة تجعل الجميع يشعرون بأنهم جزء من فريق واحد، يسيرون نحو هدف مشترك، بتوجيهاته المهنية، واهتمامه المستمر بتطوير مهاراتنا الشخصية والفنية.
كان يشعر بي دون أن أتكلم، يعرف متى أكون منزعجًا حتى لو حاولت إخفاء الأمر، وكان يسارع دائمًا إلى سؤالي: "ما بك؟" بصوته الحنون الذي يطمئن القلب قبل أن يواسيه. كان السند الحقيقي الذي أرجع إليه في كل صغيرة وكبيرة، وكان دعمه لي لا يتوقف، سواء كنت في بداية طريقي أو في أكثر لحظاتي ضعفًا، الوحيد الذي كان يجيبني دائمًا، حتى في ذروة انشغاله، لا يتأخر في الرد، ولا يترك رسالة مني دون إجابة، وكأن صوته وحضوره كانا خط أمان لا ينقطع، وظل كذلك حتى آخر لحظة... حتى ذلك اليوم، يوم 5 من مايو/ايار 2025، حين بعثت له برسالة ولم يصلني رد، شعرت بشيء انكسر داخلي، علمت أن المرض قد اشتد عليه، وأنه بدأ يغيب عنّا شيئًا فشيئًا، بصمت مؤلم، دون وداع.
في رأس سنة 2025، أهداني البوص هيثم الزبيدي رحمه الله موتوسيكل حديث الصنع، كانت نورًا أضاء طريقي وأدخل السرور إلى قلبي في بداية عام جديد، ولم يمر يوم دون أن يسألني عنه، ويحرص على معرفة كل تفاصيله، كيف أشعر وأنا أستخدمه، وكيف يسير به، وكأنه يشاركني فرحته وفرحة النجاح معي، وكان هذا الاهتمام الصادق يعكس حنانه وعمق اهتمامه بي، ما جعل هديته ليست فقط شيئًا ماديًا بل رمزًا حيًا للدعم والمحبة التي لطالما غمرتني بها روحه الطيبة.
علمنا الصحافة والإعلام من الألف إلى الياء، ولم يكتفي بتعليمنا تقنيات الكتابة أو نشر الأخبار، وإنما اساليب الحياة المختلفة، وزرع فينا حب المهنة واحترام المصداقية. وكان يؤمن أن الإعلام رسالة ذات تأثير إذا تعاملنا من الكلمة والحرف وفي المجتمع علَّمنا كيف نلتزم بالحقيقة مهما كانت العواقب، وكيف نكون صوتًا للحق، لا صوتًا للسلطة أو المال.
وكان له دور كبير فى تعليمي التكنولوجيا الحديثة في وسائل الإعلام، وكيفية التفاعل مع العالم المتسارع في هذا المجال، كأدوات حية تتيح لنا التفاعل والتواصل مع الجمهور بشكل غير مسبوق، وأذكر كثيرًا مناقشتنا للأفلام والمسلسلات التي نشاهدها او يوصيني بمشاهدتها والكتابة عنها، سواء من اجل المتعة، او من اجل ان ننتقد ونحلل ونفهم كيف يمكن للسينما والدارما أن تعكس وتؤثر في المجتمع، كان دائمًا يربط بين الفن والإعلام، ويعلمنا أن النقد ليس سلاحًا ضد الآخرين، انما وسيلة لتحسين الذات وفهم العالم بشكل مختلف.
لكن أكثر ما تعلمته منه كان بعيدًا عن الصحافة والإعلام. علمني الصدق في القول والعمل، كان رجلاً صريحًا، لا يساوم في مبادئه ولا في قيمه، وعلمنا أن الأمانة هي سلوك يجب أن يكون حاضرًا في كل خطوة نخطوها، كان كريمًا، ليس فقط ماديًا، ولكن أيضًا في مشاعره وأفكاره، كان يشاركنا تجاربه وأفكاره كما يشاركنا نجاحاته، وجعلنا نحبه ونحترمه ونخاف فقدانه، وكأنما كانت حياته دروسًا حية في الكرم، حيث لم يبخل أبدًا في منحنا كل ما يحتاجه شخص في بداية حياته المهنية.
علمني حس الدعابة، وكانت لديه قدرة غير عادية على جعل أي لحظة ثقيلة أخف من خلال نكتة أو تعليق فكاهي، وكان يعرف كيف يخفف الأجواء، وكيف يجعل الجميع يشعرون براحة كبيرة في بيئة العمل، وكان يعلمنا أن الضحك، وسيلة لتخطي الصعاب وتحمل المسؤوليات، علمنا أن نعتمد على أنفسنا، وأن نثق في قدراتنا، وكان دائمًا يكرر أنه لا يوجد شيء مستحيل أمام من يملك الإرادة والعزيمة، وكان يعلمنا ألا نتردد في اتخاذ القرارات، وأن نشق طريقنا بثقة.
لقد كان الأب الاكبر لنا جميعا، يحترمنا ويعاملنا كأبناء له، وفي كل خطوة كنت أراهن على وجوده كدعامة أستند إليها، وكأنني في حضن أمان لا يتزعزع، فلم يترك لنا مكانًا للسقوط، وكان دومًا هناك ليشد من أزرنا حين نحتاجه، واليوم وبعد رحيله، أشعر بفراغ كبير لا يعوض، لكنني أعد نفسي أن أستمر على دروسه وأفعاله التي زرعها فينا، وسأستمر في الصحافة والإعلام، وسأظل أتعلم كل يوم كما علمني، وسأحافظ على قيمه في صدقي وأمانته، في كرمه وحس الدعابة، في ثقته بنفسه وإعتماده على الذات.
"راح من علمني الاقتصاد في الكلمة" راح البوص الذي لا بوص بعده، والحرف الذي علمنا إياه سيظل حيًا فينا إلى الأبد، ولن ننسى أن نهجنا في الحياة والعمل كان بفضله، فقد كان أكثر من مدير، كان معلمًا، وكان أبًا. رحيله ليس فراقًا، انه بداية لحياة جديدة نتعلم فيها كيف نكون كما كان، وكيف نواجه تحديات الحياة بأمل وثقة مثله تمام، ونعمل من أجل الخير والعدل كما علمنا "البوص العظيم" الدكتور هيثم الزبيدي، رحمة الله عليه.