رشيد العلاقي يتحدى عمى الألوان بالسير في طريق الفنون الجميلة
تونس - يحتفظ الرسام التونسي رشيد العلاّقي على الرغم من أنه يقطن الآن في حي ميتوال فيل الراقي بالعاصمة تونس، بموقع في حي باب الفلة الشعبي جنوب المدينة العتيقة حيث ولد عام 1940 وتوجد ورشته الخاصة.
ويحمل العلاّقي أيضا الجنسية الألمانية، حيث ذهب إلى ألمانيا عام 1961 لمواصلة دراسته لفن الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في كولونيا، ويملك رواقا دائما بنفس المدينة كولونيا على مقربة من نهر الراين.
وقال العلاّقي وهو جالس في بيته بحي ميتوال فيل، حيث تحوّلت أغلب الغرف إلى معرض للوحاته التي رسمها في تونس وألمانيا، "درست في تونس وألمانيا من مواليد حي باب الفلة الشعبي عام 1940 واشتغلت كل هذا الوقت في ميدان الخلق والإبداع".
وأضاف "ولدت مصابا بعمى الألوان ولكن المهنة في القلب وليس في العينين تغلبت على هذه الإصابة واخترت طريق الفنون الجميلة"، متابعا "التحقت بكلية الفنون الجميلة بتونس وكلية الفنون الجميلة بباريس وكلية للفنون الجملية بكولونيا وهذه المدارس الفنية جعلتني استنبط طريقة فنية خاصة بي في الفن".
وعن مدرسة الفنون الجميلة بتونس التي دخلها بتشجيع من شقيقه المهندس المعماري خميس العلاقي وتخرج منها عام 1958، يقول العلاقي "وجدت أساتذة شجعوني وأخذت فيها كل التقنيات العلمية للرسم وبعد تخرجي اشتغلت أستاذا للرسم في عدة معاهد دولية ثم اخترت إنشاء رواق خاص بي اشتغل فيه في كولونيا بألمانيا".
لم يختر رشيد العلاقي أن ينتمي إلى مدرسة فنية بعينها بما في ذلك مدرسة تونس للفنون الجميلة التي ينتمي إليها أغلب مشاهير الرسامين في تونس مثل الهادي التركي وزبير التركي وعبدالعزيز القرجي وغيرهم، بل شق طريقه برصد ما يدور في الحياة اليومية.
وعلى جدران بيته بحي ميتوال فيل المعرض الدائم له في تونس تجد لوحة ترصد دقائق الحياة اليومية في تونس مثل لوحة بيع السمك بالطريقة التقليدية في جزيرة جربة، جنوب شرقي تونس، ولوحة عروس الشابة في موكبها التقليدي (مدينة تابعة لولاية المهدية على شاطئ المتوسط شرق تونس) وأخرى ترصد امرأة تحمل على رأسها قصعة كسكسي تكرما من ضابط شرطة للولي الصالح سيدي بلحسن الشاذلي على الهضبة الجنوبية التي تطل على مدينة تونس العتيقة".
يقول العلاّقي "كان شغلي هو رصد ما يقع في الحياة اليومية وبعد تفكير في أي اتجاه فني اختار بين الاتجاهات الفنية التي برزت للوجود منذ العصر الحجري إلى القرن الحادي والعشرين، اخترت وأنا دارس الفن والعارف بأصوله وأسبابه وكل مدارسه، أن أصبح شاعرا ليس بالكتابة بل بالريشة"، مشددا "لا أعرف كيف أتكلم، إنمّا أتكلم بالريشة".
ويتابع "اللوحة عندما تُرسم قد تبقى سنوات حتى تنجز، والفن التشكيلي يختلف عن الكاتب لأن الكتاب يجب قراءته كله لفهمه ولكن اللوحة عندما يرسمها الفنان وحين تشاهدها في دقائق قليلة تفهمها".
ويعتبر أن موقع تونس أثر في اختيارات الألوان رغم إصابته بعمى الألوان، قائلا "أنا من مواليد البحر المتوسط وفيه ألوان البرتقال والياسمين والألوان الأولية الأبيض والأكحل والأحمر والأزرق والأصفر"، متابعا "كل لون له لغة الأبيض للفرح الأزرق للأمل والأصفر للقطيعة والأحمر للحب والأسود للغضب".
ويضيف "نحن بلد الشمس أكثر من 300 يوم مشمس بتونس في السنة أما في ألمانيا فكل شيء رمادي، الناس والمباني والسحاب رمادي وكنت أعمل على توليفة كيف أصل لأجد موضوع يربط بين الاثنين تونس وألمانيا".
ويوضح "أنا عندي مشكلة في ألوان لا أراها مثل الأحمر والأزرق وبين الأكحل والأحمر وفي ألمانيا صعب وضع الأصفر بجانب الأكحل أو الأحمر بجانب الأزرق أنا تشجعت ووضعتها مع بعض وهذا أعطاني صبغة خاصة في ألمانيا".
وحول التجربة في ألمانيا يقول العلاقي "في ألمانيا هناك مزاحمة قوية بين الفنانين والشعراء والأدباء والرسامين، فكان المطروح ما هو الموضوع الذي اختاره وما هو اللون الذي اختاره وكانت معركة بين الحضارة الفنية الأوروبية وجذوري التونسية، فاخترت أن أكون شاعرا وأأخذ مواضيع من صميم الحياة وما يقع فيها وكيف يعيش الناس توًّا".
ويعود العلاقي إلى الحفر في الجذور بالرجوع إلى حي باب الفلة وأثره في اختياراته الفنية بالقول "فعلا تأثرت بباب الفلة وأنا ابن باب الفلة، وفي صغري في حيّنا كانوا يبيعون التين الشوكي بالصندوق ويبيعونه مقشرا، وهذا لا يزال إلى الآن، وكذلك يبيعون البسيسة (أكلة شعبية تونسية) والنساء تعد الخبز في البيت وتحملنه في أطباق للفرن الشعبي في الحي".
ويضيف بصوت يعكس الحنين إلى تلك الأيام "هذه الحياة الشعبية والأصالة الشعبية سيطرت عليّ وتركتني فنانا لا ينجز الطبيعة والبورتري ولا باقة الزهور ولا منظر البحر بل يبدع أعمالا حول ما يعيشه الناس توًّا وليس في القرون السابقة"، متابعا "ألمانيا لها تاريخها وأصولها وتقاليدها في كولونيا يقع مهرجانا وكرنفال يحضره نحو 3 مليون شخص ونرى كيف الناس يرتبطون بمهرجان عمره أكثر من قرن والناس تتنافس حول كيفية البروز بالزينة اليومية، وهذا يلفت انتباهي وأجسده في لوحة".
ويعود العلاّقي إلى مرحلة البدايات في خمسينات وستينات القرن الماضي بالقول "أنا كنت العربي الأول الذي درس بمدرسة الفنون الجميلة بتونس وكل زملائي كانوا فرنسيين وأجانب مديرها بيار بورجون هو الذي جعلني شغوفا بالفن وأحبني كثيرا".
وأضاف "مدير المدرسة أعطاني كنشا صغيرا وقلما فحميا وأمرني برسم أي شيء يعترضني وبقيت بتلك العادة إلى اليوم عندما أجلس في مقهى أشكل تجسيما أوليا للوحة التي سأرسمها فيما بعد وتخلد المشهد".
وذكر العلاّقي أستاذه بمدرسة الفنون الجميلة هنري سعادة تونسي من قابس (جنوب شرق) كأحد الذين غرسوا فيه حب الرسم والبحث عن مواضيع حياتية يومية"، متابعا "عند نجاحي في دراستي عام 1958 أهداني "فيسبا" (دراجة نارية إيطالية شهيرة) فذهبت إلى روما وتجولت بها في كامل أوروبا".
ويلفت "كانت مدرسة بقيت رواسبها داخلي ولا أنسى ما رأيته في إيطاليا وتركيا في جامع السلطان أحمد (إسطنبول) وفي الأسواق، هناك شيء رأيته ورسخ في ذهني لأن الرسام لا يعرف كيف يتكلم، بل يعرف كيف يرى والمغني يعرف كيف يسمع، مشيرا إلى أن أسواق إسطنبول لنا نسخة منها في تونس والمأكولات في المطاعم لها طابع خاص، إذ يأتونك بطبق واحد فيه كل شيء".
ويتابع "أنا أقيم في كولونيا وهي بلدية لها توأمة مع إسطنبول ولي أصدقاء أساتذة أتراك وفنانين أتراك ممتازين ينجزون معارض في رواقي في قلب مدينة كولونيا".
وأشار إلى "تمسك التركيات المقيمات في ألمانيا بالتقاليد، قائلا "إلى حد الآن يستعملن التقريطة (غطاء رأس تقليدي) رغم أنهن يلبسن لباسا عصريا ولكن التقريطة حاضرة وكانت موضوعا لإحدى لوحاتي".