خرائطية الهاوية: نقد الحياة الهشة وعديمة القيمة مهمة حيوية

الكاتب المغربي مصطفى الحسناوي يقدم في كتابه 'خرائطية الهاوية.. في الصداقة والكتابة والحياة' رؤى مغايرة لعلاقات الكتابة ووجودها في مختلف الحيوات الإنسانية.

يسعى الكاتب المغربي مصطفى الحسناوي في كتابه المتميز "خرائطية الهاوية.. في الصداقة والكتابة والحياة" إلى تقديم رؤى مغايرة لعلاقات الكتابة ووجودها في مختلف الحيوات الإنسانية، يشتبك فيها مع الكثير من الأفكار الفلسفية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإبداعية، وذلك عبر مجموعة من القراءات التحليلية التي تمتعت بأسلوب فلسفي بسيط على الرغم من عميق ما تتناوله من قضايا الكتابة والحياة والجسد والواقع المعيش، وذلك جنبا إلى جنب مع حوار فكري أداره مع ما حملته آراء ووجهات نظر فلاسفة ومبدعين حول الكتابة مثل محي الدين بن عربي والتوحيدي وابن حزم وكافكا ودولوز وكارل شميت ونيتشه وفوكو وهيدغر ودريدا.

يقول الحسناوي "لا يجب أن يكون الكتاب منجزا ناتجا عن وعي شقي قد تماسه ثقافة ذات طابع ارتكاسي نكوصي، أو يمارسه آخر ما على الكاتب، يجب أن يندغم مع الكاتب في نوع من الفرح السبينوزي، في جذامير دولوزية، جذور هوائية تضعه في علاقة مناطق، نجود بالغة النأي وحده الفرح السبينوزي التأكيدي والفعال، الفرح الوجودي المادي يمنع خرائطية الكتابة لا المرتحلة زخما فعالا. لا يمكن أن يكون للكتاب سقف ميتافيزيقي مسبق ترنو إليه الكتابة، بل أن ينطرح باستمرار كصيروة متعددة، متناسلة مفتوحة وبرانية، بعيدا إليه التجربة الجوانية التي تقع في داخل الروكسا، داخل الإرث الثقافي المسبوق بمتون من التعليم والوصايا، لا علاقة للكتابة كتجربة برانية مرتحلة بلاهوت الكتابة".

ويضيف في كتابه الصادر عن خطوط وظلال "إن منطق فكرة ما، كما يرى دولوز في كتاب (مفاوضات/ )، يشبه ريحا تدفعنا من الخلف، تجرفنا ضمن سلسلة من الزخات والهزات. بدل فصول الكتاب، يلزم الحديث بالأحرى عن نجود الكتاب، سهوبه، براريه، امتداداته الجغرافية. داخل هذه النجود لا وجود للماهيات. ما يوجد داخلها هي التجسيدات الملموسة يجب، أن يقول المفهوم الحديث، كما يرى دولوز، لا أن يعبر عن الماهية. هكذا بالذات يصير ممكنا إدخال تقنيات سردية بسيطة في الفلسفة. يلزم أن يصير الكتاب هندسة شذرية مرتحلة، ألق التجربة الآتية/ الكتابة الأخرى المسكونة بزخاتها، بعواصفها، بهزاتها بنداءات صيروراتها، وأن يدفعك لاكتشاف بأن طاعن في عباب البحر، في خضمه المدلهم، في ما أنت تعتقد بأنك تسبح في الموج قرب الساحل. بشر بن عربي إلى وجود كتاب آخر ضمن كتابه 'الفتوحات المكية' ويصفه بكونه المضمون به على غير أهله. كل كتاب مضنون به على غير أهله ينفتح على هندسة ألخيميائية، كما لو أن الأمر يتعلق بالبحث عن حجر فلسفي كما في كليب لفان موريسون، هل من الضروري أن تظل الفلسفة حبيسة المتون، أسيرة 'فصل المقال'؟. إبان الكتابة (الكتابة الأخرى، العنيدة، المسائلة، السرية المفتوحة على ترحيلاتها وهوامشها اليقظة) وحدها براءة الصيرورة، حرية التجربة ينبغي أن تحكم ممارستنا بعيدا عن وصايا آباء وهميين، عن أطروحاتهم الزائفة التي عطلت الحركة النقدية اليقظة للفكر. كثيرا ما يمعن الآباء في فبركة وصايا حتى يخلقوا لإرثهم المفترض ورثة، لكن الكتاب، يجب أن يظل مجرد ابن لا شرعي لا علاقة له بسلالة المزيفين. الكتابة الأخرى، هي الكتاب الآخر تماما كما التجربة/ الممارسة الآتية (مجرد إرث غير مسبوق بأية وصية) كما قال الشاعر روني شار".

وفي مقالته حول خرائطية الكتاب – السحرة يقول "إن الكتابة المستقرة لا تستطيع فهم الكتابة الرحالة/ الباروكية التي تمزج شظايا أساليب سفلية، سردابية، ولغات بعضها ينتمي لسطح القول والآخر لقراراته اللجية تماما كما التاريخ لم يفهم الرحل ولا مكائنهم الحربية بل اعتبرهم مجرد هوامش صامتة لا يقاس عليها، إذ لا تاريخ لها. لا فرق بين السحر والصيرورة: بين الكتابة كسحر للصيرورة، وصيرورة السحر كتابة...، لأنهما أولا سمتان محددتان لإنتاجية هذه الخرائطية المغايرة، ولأن الأمر ثانيا يتعلق بصدد كليهما معا، بوجود خريطة طبعا معدة للرسم، كما لو افترضنا أن خطوطها اللامرئية مرسومة بالفعل بدون حبر، لأن انتظارها يشبه هنا المجابهة الفذة للامتوقع، أو التفاوض الحميمي، غير المسبوق بأي من الشروط، والذي لا رجعة فيه مع الكتابة كعالم أرخبيل. إنه انتظار الخريطة كما وحش كامن سينقض، من داخل العتمة، ليفترس رغبة الكاتب الساحر، ليجعلها رغبته بالذات، ناسجا لعبوره داخل دغلها، ممرات ليلية لا تدرك إلا وفق نمط للإدراك يظل دوما في حالة صيرورة، إنها الممرات التي تبدو خرائطية إبداعية مدوخة، جهده الفيزيولوجي، التخيلي والفكري من أجل تدعيم عملية العبور هذه. ما الذي يبقى للأنفس مع ذلك، حين تكف عن التشبث بالخصوصيات، وما الذي يمنعها من الذوبان في كل واحد؟، تبقى لها أصالتها، أي الصوت الذي تصدره كل روح كترنيمة عند حد اللغة، لكنها لا ترسله إلا عند اختراقها الطريق (أو ركوبها البحر) فحسب، بجسدها، عندما تنخرط في حياتها دون البحث عن خلاصها، عندما تشرع في سفرها المتجسد من دون هدف خاص، فتلتقي آنذاك بالمسافر الآخر الذي تتعرف عليه من صوته".

يرى الحسناوي أنه "حين نتساءل عن شكل الحياة الذي قد يجعلنا نحيا حياة كريمة، فإنّنا نصوغ أفكارا حول الحياة نفسها. هناك أشكال عديدة للحياة لا يمكن اعتبارها حيوات فعلاً، لأنها منذورة للهشاشة، مشوهة وميتة. من يستطيع الادعاء بأن حياة المشردين وأطفال الشوارع وممتهنات الدعارة والفقراء ومعطوبي الحرب اليومية، ليست حيوات ميتى ومحترقة. إنها حيوات مرمية على قارعة الطريق مثل النفايات بدون مساندة اجتماعية أو تكافل اجتماعي، يظلّ مجرّد شعار فارغ بلا مضمون يردده محترفو السياسة. إن نقد الحياة الهشّة والعديمة القيمة مهمة حيوية من أجل الصراع أي من أجل الحياة. الصراع لكي نحيا داخل مجتمع عادل لا تسيطر عليه الامتيازات التي يستفيد منها الأغنياء والسياسيون، ولا تسوده التفاوتات الطبقية. كيف يمكن للمرء أنْ يحيا حياته إذا لم يمتلكها ويتحكّم فيها، وإذا كانت تفلت منه باستمرار كإناء يرشح، وتتحكّم فيها شروط وسياقات برانية قاسية، تضعه كفرد داخل الوضع الاعتباري للعبودية بمختلف تلويناتها، وتحول حياته إلى نوع من الكابوس أو الجحيم".

ويؤكد على أنه "حين نحيا حياة مشوهة معطوبة، فكأننا نسكن ألما وجوديا يوميا. هكذا تتعرّض الحياة للعنف وأشكاله اليومية، حياة الضحايا المدنيين في مناطق الحرب، أو تحت نير الاحتلال أو الاستبداد، أو داخل شروط الفقر المذقع، حيث يتعرّض الضحايا للعنف المادي والرمزي بدون أدنى حماية للحفاظ على أمنهم أو للهروب حتى، نفس الشيء يمكن قوله عن اللاجئ الذي يعبر حدود الدول في ظروف قاسية، الشيء نفسه ينطرح بالنسبة للعمال والعاملات الذين يشتغلون في ظروف بالغة البؤس والهشاشة. هناك فئات، شرائح اجتماعية، جماعات كثيرة العدد من الساكنة الآن، في ظل الليبيرالية المتوحشة، قد فقدت نهائيا الإحساس بالمستقبل والثقة فيه أو بالانتماء السياسي على المدى البعيد، لأنها تعيش حياة مشوهة تتلاعب بها الليبرالية المتوحشة. لكن الأمل الإنساني العميق الذي يلوح في الأفق هو أن كائنات إنسانية أخرى توجد أيضا في وضعية خطر. داخل شروط الخطر القصوى لا يغيب الوازع الأخلاقي ولا ينمحي أبدا، لكن هناك في الجانب الآخر أولئك الذي يمدون يد المساعدة للآخر المهدد في حياته".

ويشير إلى أن إنتاج معرفة بالجسد ومكنوناته من طرف الآخر يفترض النظر إليه مجال قابل للفهم والمعاينة، لا للتلذذ الإكزوتيكي، لا كجسد قابل للرؤية فقط، بل وللكتابة أيضا وفهمه باعتباره إبداعية غير مفصولة عن منطق معيشها عن ثقافتنا ورؤيتها للعالم، فهمه فهما إطيقيا لأن "ذاكرة أمة صغيرة كما يقول كافكا بصدد حديثه عن الذاكرة ليست أقصر من ذاكرة أمة كبيرة. إنها تخدم بعمق أكثر المواد الموجودة". وحده فهم كهذا يستطيع أن يستوعب الجسد في وظائفه الرمزيدة، في حضوره الحيوني العنيد وعدم قابليته للاختزال. إن إنتاج معرفة الآخر لأنه ليس المنفصل كلية عنا، إنه ذاك الذي يحضر داخل جوانيتنا كإمكانية، كجزء من صيرورتنا والذي يجب استدعاؤه كسؤال ناطق لا انطلاقا من ثوابت فكر ميت مغلق. إن كينونة جسدنا في الهنا تنتمي إلى فعل فهم الآخر وإمكانية استعادته بعيدا عن كل إحساس بالألم وذلك بعد الخلاص من الجانب المعتم والعنيف من تاريخية علاقته معنا.

ويوضح أنه لا يمكن لاقتصاد محايث ينتج فضلا عن كل شيء المعلومات والأخبار والصور والخدمات أن ينهض على القوة الفيزيقية وعلى العمل الآلي والمكننة الغبية والعزلة المبنية على خصوصية العمل. ما يطلب من العامل هو ذكاؤه، خياله، إبداعه، تواصليته، إحساسه، أي منظور ذاتيا وخارج اقتصادي بأكمله، كان في ما سبق محسوبا فقط على مجال شخص وخاص، أو فني على الأكثر. ما يتم تشغيله الآن هو روح العامل، لا جسده، الذي يستعمل فقط كدعاية. لذا تتعب روحنا حين نعمل كما جسدنا، لأن الروح لا تتوفر على حرية كافية، بالمقدار ذاته الذي لا يتوفر فيه أجر كاف للجسد. ما يدل عليه عمل الروح هو أن الحيوية الذهنية والشعورية هي المطلوبة والمستهدفة. ما يطلب من كل واحد على حدة هو قدرته على الابتكار، هذه القوة الابتكار لعقول مترابطة ومتواصلة داخل شبكة هو المنحى الذي ينحوه الاقتصاد الراهن، والمصدر الرئيس للقيمة.

ويقول "وحدهم الأغبياء يفكرون الثورة كسيروة بارانوبة بانية، صادرة من الفوق دون النظر في ضرورة إعادة ابتكار الثورة نفسها كمفهوم وكممارسة. لا يمكن الرنو إلى تغيير العالم بدون تغيير الحياة اليومية نفسها أولا وقبل كل شيء لا يمكن للذوات الأطياف المستبعدة من طرف السلطة المركبة للدوكسا واللاهوت والأسطورة والشعوذة وإكراهات الخنوع والخضوع السياسي والاجتماعي والذهني، أن تمارس الثورة أو تنجزها. لا خلاص للأغبياء والجهلة الذين لا يتصورون شكلا لتحررهم، إلا عبر العبودية كذهنية وممارسة جوانية طويلة الأمد، ويتمثلون بشكل زائف، كل طوبي تحررية ممكنة انطلاقا من أخلاق العبيد كمهيمن عليهم أبديين وقدريين. إن نقد اليومي هو ما يمنح ضرورة التغيير والتحول معناها وبعدها الثوري الذي هو تحويل المعيش اليومي".

ويرى ضرورة تحرير المعيش اليومي من الإكراهات والضغوطات وأحكام القيمة الجاهزة ومكائن الأسر التي تطاله وتعوقه، لتجاوز فضائح البؤس اليومي والعنف الممارس على مجتمع مقسم إلى طبقات وطوائف وزوايا ومذاهب. إن فقر الحياة اليومية بالذات فقر ويؤس الإكراهات والتمثلات التي تطالها وتسيجها، إذ لا يمكن انطلاقا من أخلاق الخنوع والطاعة والعبودية أن تحقق وجودا يتصف بنبل الحياة اليومية. إن فقر الحياة اليومية هو فقر سياسي في المقام الأخير، وكل إلغاء أو تجاهل البعد السياسي لهذا الفقر من شأنه إخفاء العمق المطلبي، الذي يتصدى للغني الممكن لهذه الحياة وثرائها. إن الحياة اليومية الممتلكة لقواها وقدراتها والمتحققة فيها هي ما نصيره، حين نتحقق أولا في إنسانيتنا وحريتنا.