استعباد الشعوب بشيء من الخوف والخرافة والأسطورة في 'تاج شمس'
وسط تناقضات مجتمع القرية المسكون بالخرافة المحكوم بالخوف، تراوحت الأحداث بين المفاوز والمهالك. بين قسوة الطبيعة من خسوف القمر والفيضان والحرائق والرومانسية المعذبة بحثًا عن السعادة، في مجتمع مسالم تتجاذبه الابتلاءات والمحن والمؤامرات والدسائس والحب والكراهية، الجنس والخيانة الأوبئة والمجاعات، الغدر والانتقام، التخييل والغرائبية، الحلم والواقع، التمسك بالأرض والصراع عليها، وسط هذه التناقضات شيد هاني القط جدارية سردية بديعة في روايته "تاج شمس" (الصادرة عن بيت الحكمة 2023) التي تأخذك إلى الأفق الأعلى، الأصعب والأكثر قسوة بحثًا عن اليقين، في عالم قرية مصرية متخيلة أعلى ربوة في حضن نهر ومرسى، تلفها الحكايات والأساطير، وتعيش بلا يقين، وهنا تظهر براعة الروائي في بناء سردية شعرية بلغة ناعمة في مجمل فصول وأحداث الرواية، وربما لم يكن ذلك الأنسب في أشد أحداثها قسوة وشراسة من قتل وصلب وحرق وخراب ودمار.
نجح المؤلف ببراعة في بناء شخصيات الرواية والتحكم في مصائرها، بدءًا بالعناية الفائقة في انتقاء أسماء الأماكن والأشخاص وحتى عنوان العمل، حيث الصراع على "التاج "رمز السلطة كرسي العمودية، وانتظار المحال وهو بزوغ "الشمس" دون إراقة دماء ودون قتل وخيانة وكوارث وأوبئة، وهو ما بدا أشبه بالبحث عن المستحيل!
النفس الشعري والملحمي يسيطر على الرواية، التي تتقاطع في كثير من صورها وتفاصيلها مع رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي، ومع التوظيف السردي التصويري المكثف بلغة سينمائية تشابه قصة الكاتب الكبير ثروت أباظة "شيء من الخوف"، خاصة بناء الهويس على يد الأجيال الشابة الجديدة جعفر وحسونة ومختار وعبيدة ومبروك وعبد الجليل، وهو الحدث والمفردة الروائية الوحيدة التي تعلي من صوت الحكمة والعلم وإعمال العقل في مصير قرية تتهددها الفيضانات وتغرق الزرع وتقتل البهائم وتكتسح في وجهها بيوت الغلابة، إضافة لتقاطعات سينمائية تصويرية عديدة لعمدة القرية "أبو جميل" الذي يتطلع لإنجاب ولد يرثه، مع العمدة عتمان في فيلم "الزوجة الثانية"، إضافة لتيمة الاستبداد والاستعباد والإذلال الواقع على الفلاحين البسطاء في قرية "تاج شمس" منذ العمدة الأول "راضي" ومرورًا بالعمدة الثاني "الأبيض" ثم "أبو جميل" وأخيرًا "مختار"، ترصد ذلك منذ السطر الأول للعمل وحتى نهايته وبما يشبه ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وتجلياته من أجواء الرواية القراءات التالية: "الأيام تتشابه، والعمر يمضي، والبلد مستكين، لا شيء جديد يحدث فيه، لا شيء جديد يحدث فيه، وكأنه في غفوة طويلة منذ أعوام تتابع وتنقضي دون تغيير".83
وقد تكررت تيمة الصراع على كُرسي عمدة القرية على مرأي ومسمع من أهلها، وسط صمت مطبق بفعل الخوف والذل والاستعباد؛ "البلد هامد وصامت، أهله مثقلون بالغم والخوف كأنه قبة سوداء سقطت من فوق السماء على البيوت". 156
"الحق أن "مختار" لم ينتزع ما فيه عنوة الناس طائعين وهبوه كل شيء دون أن يعطيهم شيئًا، لقد أمسى يهينهم فيوقرونه، ويذلهم فيعظمونه هذا كان حالهم في الماضي وحالهم الآن".143
"هذا البلد دائمًا يخضع للغالب. كل أهله خدام للقوي المالك، عبيد كل حاكم. يبجلون أسيادهم، ويهابون المتجبر، لو غفلت ستقوى شوكة الطماعين والخونة، ويضربك بلدك ويأكلك ناسك".148، فهذا البلد كلما دهست ظهره أكثر، استطابك أكثر، ويبدو أن سلبية أهل القرية في تفاعلهم الباهت مع الصراع على السلطة، وانتظار المنافقين منهم لمن تكون له الغلبة ليتبعه كما في حال رضوان شيخ الغفر، أفقد الرواية ذروتها وتصاعدها، فمشهد الصراع على العمودية يتكرر من راضي للأبيض لأبو جميل لمختار، ما قد يطرح السؤال: ما الجديد ولما التكرار، والزمن الروائي أقل من عقدين، فهذه الجذوة المفقودة، والشاعرية السردية الناعمة برتم وإيقاع واحد ثابت على طول العمل، أفقدها بعضًا من الإثارة. تكرر ذلك في مشهد عودة قنديل إلى الحياة بعد دفنه، قنديل خَمار القرية، تلك الشخصية الذي لا تشبه بداياته نهاياته، والذي عرف كل رذائل واغراءات الحياة وانحرافاتها، ثم تحول إلى ناسك عابد يمر في قلب النار وينجو، يمشي بنور الله: " يعيش بإرادة لا عجز، بزهد لا عوز، بكلمة تبدد كل وحشة وكرب: يا رب. ينصح ابنه مختار العمدة الجديد بقوله: اعدل واعتبر.
وبالمثل موت واختفاء بعض الشخصيات المحورية مثل "أنس" وتحولات شخصية "الميت" عبد الحي، تلك الشخصية المركبة الجامعة لكل تناقضات البشر، التي ترتاح مع الموتى وتزهد في الأحياء، ثم تكتشف نسوة القرية فحولة استثنائية فيه، فيتنافسن على الظفر بليالي معه، وهو المقتنع برفض الجميع له إلى درجة اليأس في إيجاد من تقبل به زوجًا، وكانت بداية تحوله لشهواته مع "كوكب"، ثم غيرها من النساء الأرامل والمطلقات وكل الباحثات عن المتعة بأي شكل وبأي ثمن، حتى تفتقد "كوكب" بعضًا من جمالها ومريديه وأغلب عقلها، فتنصب لعنات النساء تباعًا على "الميت" الذي أشيع أنه سحرها فأذهب عنها أنوثتها وجمالها وفتنتها.
نجح هاني القط في البناء المعماري لروايته على كثرة شخصياتها العابرة للأجيال والمصائر، كما نجح في خلق الأساطير والحكايات ضمن سياقات الصراع على السلطة وكرسي العمودية، فقد علا صوت الخرافة والأسطورة في مجمل أحداث الرواية، التي حركها الخوف والظلم والاستبداد، وكانت أدواته الجهل والدجل والسحر والشعوذة ولهذا ليس غريبًا أن يحرك شيوخ العمدة والسحرة والعرافين والدجالين مجمل الأحداث، فهذه الشخصيات " عطية الكاتب" "غريب العراف" "الثعلبي"، هي أدوات العُمد الذين تعاقبوا على حكم القرية بالنار والحديد والخوف والاستعباد، حتى العراف "أوجا جلمي" - الذي سعى له الغفير رضوان لإيجاد علاج لمس أصاب زوجته اللعوب "كوكب" - ، التي نعرف من اسمها كيف نجح هاني القط في صك أسماء شخصيات العمل، فهي رمز الأنوثة ومطمع كل رجال القرية، وقد خبا نجمها فصارت كوكب مطفي محروق في نهاية الرواية.
وبطبيعة الحال، ستجد في العمل مسحوق "قرن الفيل" الذي يروجه العراف غريب لاستعادة الصبا، وستجد "أوجا جلمي" الدجال يدخل القرية بقدم تشبه ساق شجرة ويذبح حمامة ثم خفاش، ليخلص "كوكب"، ولأنه لا صوت يعلو صوت الخرافة كما في رائعة قنديل أم هاشم ليحي حقي، فستجد القرية تنسج الحكايات والأساطير ببراعة على لسان الراوي العليم، فتظهر هنا جاموسة تلد مولودا برأسين ونعجة تلد كلبًا وبنات الحور يفككن القمر المسحور المحبوس، و"يلبس العراف "غريب" رغيفي خبز كخفين في قدميه ويدخل بهما "بيت الراحة"! ثم يعلو صوته بتعاويذ مبهمة"، يشتبك التنجيم والشعوذة والنبوءات التي يروجها الدجالون المأجورون لإطلاق الخوف وبث الرعب والقلق في قلوب أهل القرية المستسلمين العاجزين عن تفسير ما يحدث من فيضانات وحرائق، فيربطونها جميعًا بالجن.
وقد شكّلت هذه الأجواء في مجملها السياق الأسطوري والتراثي والشعبي الذي كان يسود القرية، خاصة كلما توالت المحن والكوارث والنكبات، حيث يغيب العقل ويغيب الوعي ولا شيء يسود سوى الخرافة والأسطورة والخوف المغلف بأعمال الدجل والسحر والشعوذة، الذي روج له الدجالون المأجورون للُعمد عبر الزمن، وبحيث لم يتوحد أهل القرية ولو لمرة واحدة في وجه الظلم والطغيان، وأن توحدوا في مواجهة الفيضان من أجل البحث عن الخلاص من مصير مجهول.
الصوت الوحيد الذي يشبه اليقين في العمل تمثله الجليلة "زرقاء اليمامة" في تاج شمس، التي بدأ المشهد الافتتاحي للرواية من تحت ربوة تعلوها دوار الجليلة انتهى به أيضًا وهو يتعرض للحريق، وهي رمز الأصالة والخلود وصوت العقل والبركة أيضًا، وقد رفعها المؤلف إلى مصاف الأنبياء بقدرات وكرامات لا محدودة، وجعلها ترى مالا يراه الآخرون، وتؤمن بأن "لكل شيء أوان"، ولكل شخص مآل ومصير حتى سعت شخصيات العمل بكاملها إلى مصائرها، تخلل ذلك وعظها الحاكم لإيقاع الرواية حين تقول لمن يسألها ما العمل، حين حل الفيضان بالقرية:
"اشرب من النهر وكل من حشائش الأرض وأقفل عليك بابك"، في تناص واضح مع حديث منسوب للنبي صلى الله عليه وسلم لطريق النجاة: " أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك".
أبرزت هذه الرواية الملحمية، قدرة فائقة لهاني القط على التنقل بين السرد والوصف والحوار والمونولوغات الرائعة، وبرزت قدرة المؤلف على الاستعانة برمزية كرسي الجليلة، الذي يرمز لتاريخ البلد، وسرقته هي سرقة تاريخ البلد، وتهشيمه هو تهشيم للتاريخ، وقد أعيد الكرسي وحاولوا إصلاحه بعد تهشيمه وكسره، فلم يعد كما كان، كما لم تعد "تاج شمس" كما كانت، سادها التشويه ومحو الذاكرة الباحثة عن الخلاص، لا يعيبه في هذا البناء السردي الممتع سوى بعض الإطالة في مونولوج مختار العائد للقرية بعد سنوات من السجن والتشرد بصحبة رفيقه عبد الجليل.
هاني القط كاتب روائي وقصاص، صدرت له عدة أعمال جمعت بين القصص والروايات والأفلام التسجيلية وحصدت معظمها على عدة جوائز أدبية من مؤسسات ثقافية مصرية وعربية رفيعة.