المغربي عبداللطيف فردوس: مسرح الشارع اقتحام فني برسالة مغايرة

مع تكاثر الحديث والاهتمام بمسرح الشارع في المغرب خاصة بين جيل ألفا، لقاء مع الكاتب والمخرج المسرحي انطلاقا مما راكمه خلال اشتغاله على مسرحة الفرجات الشعبية في التراث المغربي في مشروع امتد 20 سنة.

يحضر مسرح الشارع الذي يقدم في الشارع والساحات والأماكن العامة بقوة في تاريخ المسرح العربي والعالمي محققا نجاحا باهرا في جذب جمهور المواطنين في الشارع والتفاعل معه، كونه يرتكز على الواقع الحياتي في مختلف تفاعلاته ووقائعه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، ويستخدم فريق عمله إخراجا وتمثيلا أدوات ومهارات فنية وجمالية وتفاعلية غير نمطية أو روتينية، الأمر الذي يكفل لعروضه قوة تفاعلية مع جمهور المتفرجين الذين عادة ما يكونون من غير رواد قاعات المسرح.

وأخيرا كثر الحديث والاهتمام بمسرح الشارع في المغرب خاصة بين الشباب، أو بما أصبح يعرف بجيل ألفا "GénérationAlfa"، وانطلاقا مما راكمه الكاتب والمخرج المسرحي المغربي عبداللطيف فردوس رفقة فرقة "ورشة ابداع دراما" خلال اشتغاله على مسرحة الفرجات الشعبية في التراث المغربي في مشروع امتد 20 سنة، واشتغاله أيضا في ورشة لمد سنتين مع فرقة "مسرح أيوب" وهما فرقتان محترفتان بمدينة مراكش لهما حضور وازن ومؤثر على الصعيد الوطني، وكان هذا اللقاء معه للتعرف على ملاحظاته والاستنتاجات التي خرج بها من الورشات التي أطرها لفائدة الشباب (جيلي زد z والفا Alfa).

يقول فردوس "انحصرت أغلبية التعاريف، لمسرح الشارع أو المسرح في الشارع، أو فرجة الشارع أو الفرجة في الشارع، أو فرجات الفضاءات العمومية، وهي التسميات او التوصيفات التي استعملها المساهمون في الورشات التطبيقية التي اطرتها لهذا الشكل الفني المتداول والمرغوب فيه، أنه حسب قاموس كامبريدج "Cambridge Dictionary" فإن مسرح الشارع هو "الترفيه غير الربحي الذي يقدَّم خارجيًا في الأماكن العامة خاصة قرب المحلات، المطاعم، الحانات". وفي قاموس أوكسفورد "Oxford Dictionary" فهو "مسرحيات أو عروض أخرى تقدم في الشارع". ويجمع باتريس بافيس، وألان ماكدونالد، وستيفن ستيكلي، وفيليب هوثورن على أنه "أي مكان لا توجد له أبواباً، حيث يتجمع الناس والمتفرجون، مثلا حقل، شاطئ بحر، شارع، حديقة. ويرون أن أي مساحة مكانية لا يحدها جدران، يمكن أن تتحول إلى مساحة فنية ". ويعرفه  برادفورد دي مارتن "إنه تكتيك واعٍ ومنمق لتنظيم الأغاني، والمسرحيات، والاستعراضات، والاحتجاجات، وغيرها من المشاهد في الأماكن العامة، حيث لا يتم دفع رسوم دخول، وتتم دعوة المشاهدين في كثير من الأحيان للمشاركة، ويتم فيها نقل رسائل رمزية حول قضايا اجتماعية وسياسية لم يكن قد شاهدها الجمهور في أماكن أكثر تقليدية". أما في التجربة الهندية "أنكيتا بانرجي "Ankita Banerje" فهو شكل من أشكال الدراما الجماعية التي تقدم في الهواء الطلق وبشكل رئيسي في الشارع، حرم الجامعة، محطة السكة الحديد، السوق، أو في الأحياء الفقيرة.. بغرض ليس فقط التسلية، وإنما لخلق ناشطين". وفي معجم المصطلحات المسرحية العربية (ماري إلياس، وحنان قصاب) هو "أي عرض مسرحي خارج العمارة المسرحية".

ويتابع "من خلال التوصيفات والمصطلحات، ومن خلال متابعتي لبعض التجارب خاصة في مدينة ميونيخ بألمانيا، خلصت إلى مجموعة من الأسس التي ترتكز عليها هذه الفرجات منها: أن اختيار مكان العرض وطريقة المشاهدة يتم حسب المضمون، حيث يمكن أن يكون في مراكز التسوق ( كما وقع في ورشة فرقة مسرح أيوب التي عرضت في مركز كبير للتسوق بمراكش)، مواقف السيارات، الأماكن الترفيهية كالحدائق (كما وقع في تجربة ورشة ابداع دراما التي قدمت عروضها في حدائق عامة وساحات مؤسسات تعليمية بضواحي مراكش، وأمام مطاعم بمدينة الصويرة)، وزوايا الشارع. وأنه لا تباع فيه التذاكر، وأن استمرارية هذه الفرجات لا ترتكز على شباك التذاكر، ولا تقيدها قوانين عروض القاعات. وان إقناع الجمهور يتوقف على الممثلين والمؤدين الذين يستطيعون بمهاراتهم احتجاز الجمهور الذي يمكنه إن يغير أماكنه أويغادر أو يلتحق في أية مرحلة من مراحل الفرجة. وإن مضامين الفرجات لها علاقة بالواقع اليومي، بل إن العرض يستهدف يوميات الناس حتى يكون قريباً منهم في طرحه ووجوده. ويقتحم اليومي ويحوله إلى فني، لأن الجمهور في المسرح التقليدي يترك ما هو يومي وراء ظهره ويأتي لمشاهدة ما هو فني، بينما في مسرح الشارع فإن اقتحام اليومي بما هو فني يجعل الرسالة مغايرة تماماً عما هو تقليدي ومتعارف عليه لدى الجمهور. مسرح الشارع ليس مسرحاً إيهامياً ولا يسعى لتحقيق الإيهامية.

ويرى فردوس أنه فيما يخص الأداء المسرحي فإنه يرتبط بالارتجال، وليس كالارتجال في المسرح التقليدي، الذي في أغلب الأحيان يعتمد التنظيم المسبق، والذي عادةً ما يكون قائماً على نص أو فكرة وأداء معيّن مسبقاً يقدم للجمهور، ويكون الجمهور على علم مسبق بما سيقدّم من خلال الإعلانات وعرض نبذة مختصرة عن الممثلين واسم العرض المسرحي، أي أن الفرجة تكون مهيأة مسبقاً بين الطرفين، لكن في مسرح الشارع تكون سمة الارتجال حاضرة حسب المجموعة التي تؤدي العرض والجمهور الذي يفاجأ بطريقة العرض وتكون لديه المشاهدة مرتجلة أيضاً.

ويقول "أهم ميزة فارقة أثارتني في مسرح الفضاءات العمومية، أنه لا يحدد طبيعة الجمهور المستهدف، أي أن الجمهور وطبيعته ونوعه لا يكون محدد بفئة ما، أو طبقة ما، أو عرق ما، بل كل ما يكون حاضراً في العرض هو مستهدّف، وهنا تكمن العشوائية في طبيعة الجمهور. كما أن  الجمهور لا يخطط للذهاب لمشاهدة عرض مسرحي، وبذلك لا يكون مهيأ، وبالتالي لا يكون باحثا عن المتعة أو الإفادة، فتتحقق المفاجئة والدهشة التي يبحث عنها هذا المسرح. المشاركة وكسر مجال التوقع لدى الممثل والجمهور هو من أسس المشاركة الوجدانية الفاعلة في هذا المسرح..

ويختم فردوس "لكي لا يتحول مسرح الشارع إلى مجرد شكل فرجوي تقني، على مسرح الشارع أن يسعى إلى أن يعيد ترتيب الأولويات في الحياة اليومية لدى الأفراد من أجل أن يصوغها في تساؤلات أخرى أكثر وعياً من كونها أحداث تجري كل يوم بنفس الطريقة أمام الفرد ذاته، وهذه الجزئية هي ما يعتقد البعض أنها المقصودة في ما يتكرر من عبارة تقديم جزءاً من الحياة اليومية في مسرحي الشارع".

من خلال نبش المستفيدين من الورشات في جذور هذه الفرجة، مسرح الشارع في الأصل نشا في الهواء الطلق في جو احتفالي بادوار دينية اجتماعية سياسية. وفي القرون الوسطى عرف انتشارا واهتمامين كبيرين بأشكال مختلفة، سرعان ما فقدهما في عصر النهضة حيث دخلت العروض إلى الفضاءات المغلقة لتخضع لسلطة النص المكتوب عوض النص المنطوق. وعادت الحياة والتوهج لهذه الفرجة بعد ثورة 1968 بفرنسا التي ساهمت في عودة الفرجات إلى الشارع بتوجه سياسي أكثر، فتناسلت المبادرات الفردية والفرق والمهرجانات. وابتداء من الثمانينات انطلقت عمليات مأسسة فرجات الشارع.

من المعيقات التي أصبحت تواجه فرجات الساحات العمومية: تقلص الفضاءات الواسعة قي المدن بسبب الزحف العمراني وانتشارمواقف السيارات واحتلال الباعة المتجولين للفضاء العمومي، والتشديد في منح الرخص. وتطبيق قوانين المنع في غير محلها للتضييق على الفرجات الملتزمة، ومن الأمثلة التي أوردوها، ما حدث في حي Beaubourg بباريس، حيث اعتمدت السلطات على قانون منع الضجيج لتفرق تجمعا استعملت فيه " الأبواق النفخية"، مما دفع الجماعة في تجمع آخر كحل لمواجهة المنع، إلى استعمال شاشات لعرض صور وفيديوهات صامتة حول الموضوع. وهذا المثال يفتح نافذ حول تطور الفرجات في الساحات العمومية في ظل تطور الذكاء الاصطناعي، خاصة لدي جيل بيطا " Beta " الذي ظهر بتزامن مع الطفرة النوعية للذكاء الاصطناعي. وبظهور شركات متعددة في مختلف المجالات بما فيها الفرجة بجميع أشكالها، واعتمادها على IA في عمليات الإنتاج والترويج والتواصل. وخلصت الاستنتاجات إلى طرح تساؤل تفاؤلي حول مستقبل الفرجات الشعبي في ظل زحف الذكاء الاصطناعي. تفاؤل منبعه تحكم هذا الجيل في الثكنلوجيا وفي ذكائه النوعي، مستدلين بما يحققه في عدة مجالات وأشكال فنية جديدة.