جول س. مجدال يطرح سؤال 'هل السيطرة المجتمعية كفيلة بخلق دولة قوية؟'
هل تُحدث الدول فعلاً فرقاً في حياة الناس الذين تحاول أن تحكمهم؟ نعم بلا شك، حتى في أبعد الأماكن من تلك المجتمعات. في الدول الحديثة النشأة جداً، فإن هيئات وأفراد ومصادر الدولة قد أعادت تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي. هل تم إعادة رسم ملامح المجتمع تلك بشكل أكثر أو أقل من رؤية قادة الدولة؟ هنا لابد لي من المراوغة: فقط في حفنة من الحالات وفي نواحٍ تتضمن بعض الأمور أكثر من غيرها.
ويناقش هذا الكتاب "مجتمعات قوية ودول ضعيفة: علاقات الدولة والمجتمع وقدرات الدولة في العالم الثالث" لأستاذ الدراسات الدولية في جامعة واشنطن د. جول س. مجدال السؤال الصعب حول أسباب نجاح بعض الدول أكثر وبعضها أقل في تحقيق رؤى قادتها.
ويحلل أوضاع دول في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث يرى أن هذه الدول أنشأت مؤسسات الدولة حضوراً دائماً بين السكان حتى القرى الأكثر عزلة. ولكن بنظرة فاحصة على أداء هذه الهيئات فسوف نكتشف أنها تعمل في كثير من الأحيان على مبادئ تختلف جذرياً عن تلك التي تصورها مؤسسوها ومبدعوها في العاصمة.
ويقترح ميجدال إجابة على هذه المفارقة "نموذج للعلاقات بين الدولة والمجتمع" يسلط الضوء على صراع الدولة مع المنظمات الاجتماعية الأخرى ونظرية تفسر القدرات المختلفة للدول على الهيمنة في هذه الصراعات.
إن موضوع الكتاب الذي ترجمه د. مهند طالب الحمدي والصادر أخيرا عن دار ظلال وخطوط هو قدرة قادة الدولة على استخدام هيئات الدولة لجعل الناس في المجتمع يقومون بما يريدونه منهم؟ التركيز المجرد على اتجاه تأثير الدول على المجتمعات، على أية حال، سوف يعطينا فقط نظرة جزئية على العلاقات بين الناس والدول وسوف يفتقد بعض الجوانب المهمة حول لماذا تكون بعض الدول أكثر قدرة من الأخريات.
المجتمعات تؤثر في الدول أيضاً. ينظر الكتاب حول كيفية تأثير تركيبة المجتمع في قابليات الدولة ويستكشف أيضاً تأثير المجتمعات في شخصية وأنماط مواجهة الدولة للصعوبات الكبيرة في حمل الناس على اتباع قادتها. بالإضافة إلى ذلك، تتطلب النظرة الشاملة عن العلاقات بين الناس والدولة النظر أبعد من حدود المجتمع المحلي. وتغيرت حسابات علاقات الدولة والمجتمع بشكل كبير بسبب قوى خارج المجتمع تماماً.
ويعرض هذا الكتاب نظرية ونموذجا معا لفهم علاقات الدولة والمجتمع في بلدان العالم الثالث وقد ركز بشكل متكرر على تجارب خمس دول هي مصر والهند وإسرائيل والمكسيك وسيراليون. وقد وفر في جزئه الأول النموذج: مقاربة لتحليل المجتمعات المختلفة والمعقدة التي تشكل العالم الثالث. وركز هذا الجزء على توزيع السيطرة المجتمعية ما بين المنظمات المختلفة في المجتمع التي تتنافس من أجل وضع القواعد لما ينبغي أن يتصرف الناس بناء عليه. وفي الجزئين الثاني والثالث، تم تطوير نظرية للإجابة على السؤال المركزي للكتاب: لماذا تواجه العديد من دول العالم الثالث صعوبات جمة أن تصبح هي المنظمة التي تخلق قواعد التصرفات هذه في المجتمع بشكل فعال؟.
ودخل الجزء الثاني في الفترة الحرجة من التاريخ لإظهار الظروف التي أدت الى توزيع السيطرة المجتمعية في المجتمعات كما هي عليه. وقد كان التركيز، هنا، على ترادف قوى دولية عبدت الطريق للاقتصاد العالمي وتلك التي تتضمن الحكم الأوروبي للمجتمعات غير الغربية التي عملت بشكل مستقل نوعا ما واشتركت مع القوى المحلية لإنتاج بعض النتائج الطويلة الأمد جدا.
ويتساءل الجزء الثاني من الكتاب كيف أصبحت الأشياء كما هي عليه على المستوى الاجتماعي، حيث يتركز الَّتحليل في الجزء الثالث على أسباب تطور الأنماط الاجتماعية التي أعاقت نمو قدرات الدولة ولماذا لم تنقلب خلال الأجيال الأخيرة. لماذا استمرت العديد من الدول، حتى بعد انهيار الإمبراطوريات الغربية، في مواجهة قوى لا يمكن التغلب عليها في مجتمعاتها وما تأثيرات الدول والحياة السياسية بشكل عام في تلك البلدان؟.
يرى مجدال أن النظرة الأولى على الطبيعة المؤسساتية لكل مجتمعات دول العالم بشكل عملي اليوم تؤكد الانطباع أن الحكام قد سعوا إلى التعلم. تبدو الدولة كأنها شاملة الوجود، وتتكلم عن جميع الناس بصوت واحد. حتى في المناطق النائية من المجتمعات، تغلغلت مؤَّسساتها في الحياة المحلية.
وفي العديد من البلدان الآسيوية والأفريقية وأميركا اللاتينية، كان لتلك المؤَّسسات تأثير مدو مستمر في عادات الناس اليومية. نمت الدول من ناحية الحجم والموارد في تقريبا بعد الحرب العالمية الثانية. أصبحت أجهزتها ومواردها ظاهرة الحضور في المجتمعات تجمع الضرائب وتحدد الأسعار وتبني المدارس والعيادات والعديد من الأشياء الأخرى. على سبيل المثال الصور التي قدمها الباحثون عن أميركا اللاتينية، عن دول قوية اعتباريا أو تسلطية-إدارية، عكست تصادم أجهزة الدولة تقريبا على كل مستوى من مستويات الحياة اليومية.
ويوضح في العديد من الحالات، لم تكن القواعد المعمول بها لتصرفات الناس في تلك المجتمعات مكتوبة في تشريعات الدولة أو المراسيم الإدارية. ومن المعروف أن أجهزة الدولة قد جعلت أنفسها مرئية في مدن المجتمع وقراه وفي حالة دول على مستوى أعلى، نوعا ما من جهة الإمكانيات، فإن هذا التغلغل قد أدى إلى حدوث تأثير هائل في الحياة الاجتماعية. لكن غالبا ما كان توزيع الإيرادات والخدمات وكذلك التبعات الأخرى معاكسا لما هو متوقع في السياسة الرسمية كان هذا التفاوت بين إعلان النوايا من قبل قادة الدولة في العاصمة.
والتوزيع الحقيقي لموارد الدولة واضحا جدا على المستوى الجزئي للسياسات الاجتماعية، على الرغم من أنه حتى على المستوى الكلي، نجد الباحثين غالبًا لا ينظرون عن كثب إلى التأثير الحقيقي للسياسة. هذا الانفصال بين أنظمة الدولة، حيث سعى قادتها إلى جعل كل المجتمع كمنطقة قانونية واحدة ككل، وما يمليه الفاعل الحقيقي للتصرفات في المجتمع هو الذي حفز الأسئلة العامة التي قادت أفكار هذا الكتاب. لماذا واجه العديد من حكام دول العالم الثالث وبوجود كل الموارد تحت تصرفهم مثل تلك الصعوبة في جعل منظمات دولهم تطبق السياسات االجتماعية، وجعل السكان يقومون بما يريدونهم أن يقوموا به؟ ولماذا أيضا نجح بضع من الدول الأخرى بشكل أكثر في هذا المجال؟ ما نوع التأثيرات في الدولة التي جاءت من مقاومة المنظمات في المجتمع لجهود الدولة لتوجيه سلوك الناس اليومي؟.
ويرى أن هذه المقاربة تبدأ بالصراع من أجل السيطرة المجتمعية والإمكانية الحقيقية لصنع قواعد الَّتعامل العملية للناس في المجتمع تتضمن السيطرة المجتمعية للدولة أكثر من الظهور أو التغلغل من قبل في أجهزة في المجتمع، أكثر حتى من استخراج الموارد. وتتضمن إمكانية توزيع الموارد لأغراض محددة وتنظيم سلوك النَّاس اليومي. وبوجود الإنفاق المسيطر عليه والانتقائي لموارد الدولة، امتلك المسؤولون الإمكانية لتقديم المكونات الرئيسة، خصوصا الرموز والأساطير الأساسية، لاستراتيجيات الناس للبقاء. هناك فقط تمتلك الدولة الشروط المسبقة لوجود تنظيمات فعالة واحتمالية التعبئة على نطاق واسع للناس. المقاربة بعد ذلك، لا تأخذ إمكانيات الدولة أو استقلاليتها على أنه شيء مفروغ منه، وتركز على كيفية التوزيع الحقيقي للسيطرة المجتمعية في المجتمع. نقطة البدء في التحليل هي بيئة الصراع. هناك صراع ما بين قادة الدولة الذين يسعون إلى تعبئة النَّاس والموارد وفرض مجموعة مفردة من القوانين ومنظمات اجتماعية أخرى تطبق أنظمة مختلفة على أجزاء من المجتمع.
ويقول إن المجتمعات شهدت في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، كما هو الحال مع المجتمع الأوروبي قبل اندفاعه في بناء الدولة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهنا عاما وسريعا وعميقا لاستراتيجيات البقاء، وهي الأسس الأهم في سيطرة المجتمعية الموجودة. وجعل التوسع الخاطف للسوق العالمية من نهاية خمسينيات القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الأولى العديد من الأنظمة الموجودة في تلك المجتمعات غير مهمة.
وعبدت الَّتغييرات القانونية في مسألة ملكية الأراضي وجمع الإيرادات والأنماط الجديدة للنقل الطريق أمام تغلغل أكثر جوهرية للاقتصاد العالمي لكل أجزاء المجتمع موهنة الأسس الموجودة للسيطرة المجتمعية. يبدوالأمر كأن ريحا عاصفة اجتاحت العالم غير الغربي مطيحة بالأسوار. إن النظرية هنا تفترض أن بروز دولة قوية ومتمكنة يمكن أن يحدث فقط بوجود تركز هائل للسيطرة المجتمعية. ولا يمكن أن تحدث إعادة توزيع هذه السيطرة المجتمعية من دون عوامل خارجية تخلق أولا ظروفا كارثية تقوض بشكل سريع وعميق استراتيجيات البقاء الموجودة، وهي أسس السيطرة المجتمعية. ومع الاضطراب الذي سببه تمدد النظام الأوروبي العالمي، وجدت مثل تلك الظروف. ولكن عددا قليلا من الدول الجديدة والمتجددة يمكن أن تصنف اليوم على أنها قوية،حتى خلال حقبة تاريخية تدعم كون الدول القوية على أنها المعيارالدولي المقبول. السؤال هو لماذا؟.
ويضيف أن الجواب يقترح أن تحطيم الأشكال القديمة للسيطرة المجتمعية لا يحمل داخله مخططا لكيفية إعادة ذلك الجدار مرة أخرى. لم يكن هناك أي ضمان بأي وسيلة للتركيز الجديد للسيطرة المجتمعية. في واقع الحال، أدت الظروف في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، في صف القرن الذي سبق الحرب العالمية الأولى إلى تكون دولة قوية في بلد واحد في العالم، ألا وهي اليابان. وعملت العديد من العوامل ضد خلق الظروف لبروز دول قوية في نهاية الأمر.
ففي أميركا اللاتينية وفي مجتمعات أفلتت من الحكم الاستعماري الرسمي، بشكل تام، على سبيل المثال حد التحالف بين التجار الأوروبيين والرجال الأقوياء من السكان الأصليين من إمكانية قادة الدولة لتركيز السيطرة المجتمعية ضخ اللاعبون الرئيسون في توسع الاقتصاد العالمي مصادرإلى مجتمعات بشكل انتقائي، مما أدى إلى تعزيز زعماء القبائل والأفندية وقادة المليشيا وملاك الأراضي والفلاحين الأغنياء من طراز الكولاغ ومقرضي الأموال وآخرين من خلال توافر الاعتماد المالي وإمكانية الوصول إلى الأراضي والمياه والحماية والتسلط وطرق متعددة أخرى وصاغ الرجال الأقوياء الوسائل اللازمة لاستراتيجيات البقاء الحيوية لعدد هائل من الفلاحين والعمال.
ويشير إلى أن صورة الدولة القوية التي نجدها في أدبيات العلوم السياسية نبعت بشكل كبير من التوسع السريع لمنظمة الدولة في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا خلال الجيل الأخير، حيث انطلق قادة الدولة لتقديم العناصر لاستراتيجيات حيوية للناس وكسبهم نحو أنظمة الدولة. وكان قادة الدولة أيضا قادرين، عندما يتم اختبارهم، على عزل أغلب الرجال الأقوياء بسهولة، لكن علينا أن نكون حذرين جدا قبل مساواة نمو أجهزة وإمكانياتها للتخلص من الرجال الأقوياء مع هيمنة الدولة.
وربما يذهب الرجال الأقوياء، ولكن التوزيع الشامل للسيطرة المجتمعية، ربما يبقى ثابتا بشكل لافت للنظر، وربما تصبح مكاتب الدولة ليس أكثر من حلبات للتكيف مع منظمات أخرى، وربما يتم استلاب مخالبها من قبل أولئك الذين لهم أنظمة ومبادئ مختلفة تماما عن تلك التي عبر عنها قانون الدولة، وربما استخدمت موارد الدولة لتعزيز القوى نفسها التي تريد القضاء عليها. وكما حاجج فكتور آزاريا ونعومي شازان، علينا تجاهل فكرة أن جميع المجتمعات متركزة حول الدولة والتي أطلق عليها تسمية "نموذج المشاركة" نحن في عالم أدت فيه الظروف في بعض الحالات إلى "إضعاف الدولة".