'مقدمة قصيرة جدًّا' لتاريخ الساموراي بين الحقيقة والخيال
قبل فترة طويلة من ظهور الساموراي في الأفلام شاهرين سيوفهم الخفيفة الحادة، أو يندفعون للهجوم في المعارك على صهوات جيادهم المهيبة؛ استمتع المحاربون أنفسهم بأوصاف خيالية لأساليب قتال المحاربين. قرأ المحاربون وغير المحاربين على حدٍّ سواء "قصص الحرب"، واستمعوا إليها، وشاهدوا عروضًا تصوِّرها، وكأن نوعا من الكتابة وُجد منذ القرن الثالث عشر. حذَّر المؤرخون من اعتبار هذه الحكايات تصويرًا دقيقًا للأحداث التاريخية، ولكن حتى كتب التاريخ الدراسية تميل إلى ذكر هذه الأوصاف الأدبية المثيرة للجدل عن حروب الساموراي الأولى.
وكان أكثر الأساطير شيوعًا وثباتًا هي الاعتقاد بأن المحاربين كانوا يعلنون أنساب عائلاتهم قبل خوض المعارك. ربما كان لهذه الأسطورة جاذبية سينمائية استثنائية، ولكن لا يوجد أي دليل تاريخي يدعمها، ولم يعد المؤرخون العسكريون يقبلونها بوصفها تقليدًا معمولًا به. تخبرنا إحدى الروايات المعاصرة عن غزو المغول أن محاربين يابانيين حاولوا بالفعل إعلان أنساب عائلاتهم قبل المعركة، ولكن قابلتهم قوات المغول بالضحك والسخرية. ولكن ربما كان هؤلاء المحاربون يحاكون السلوكيات البطولية المذكورة في حكايات الحرب، تمامًا كما يحاكي أفراد المافيا اليابانية (الياكوزا) أسلوب الملبس المُصوَّر في أفلام العصابات اليابانية.
هذا الكتاب "الساموراي: مقدمة قصيرة جدًّا" مايكل وِرت لأستاذ تاريخ شرق آسيا، والحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في إرفاين، وينصبُّ تركيزه على تاريخ اليابان خلال العصر الحديث، يقدم فرصة للوصول إلى حقيقة "الساموراي"؛ كيف نشئوا وتطوَّروا من مجرد كونهم أفرادًا يشتغلون بخدمة العسكريِّين، إلى فئةٍ مدرَّبة تدريبًا جيدًا على الفنون القتالية، إلى أن أضحَوا يهيمنون على الثقافة اليابانية منذ القرن الرابع عشر حتى زوالهم في منتصف القرن التاسع عشر.
يتتبَّع مايكل وِرت في كتابه الذي ترجمه أحمد عبد المنعم وصدر عن مؤسسة هنداوي تاريخَ "الساموراي" على مدار هذه الفترة، ويستكشف أدوارَهم في الأحداث الفاصلة، مثل غزو اليابان لكوريا في نهاية القرن السادس عشر وتمرُّد "ساتسوما" عام 1877. يمتلئ تاريخ "الساموراي" بالمغامَرات والمكائد والأفعال البطولية والشائنة، والانتصارات غير المحتمَلة والهزائم المدمِّرة، وتتجسَّد في هذه السرديات شخصيات "الساموراي"، المشهورين منهم والعاديين، الذين شكَّلوا التاريخ الياباني.
يقول "يُستخدم مصطلح ساموراي، حتى في اليابان، مرادفًا لكلمة محارب، ولكن هذا الاستخدام غير صحيح. في الواقع، كان لمصطلح ساموراي في الأصل معنًى محدود، فقد كان يشير إلى أي شخص يخدم نبيلًا، حتى وإن كان في سياق غير عسكري. وتحوَّل تدريجيًّا ليصبح لقبًا للخدم العسكريين لعائلات المحاربين، في الواقع كان المحارب من الطبقة النخبوية في اليابان قبل القرن الـ 17 يشعر بالإهانة إذا ما نُوديَ ﺑ "ساموراي". كانت هناك مصطلحات أخرى أكثر شيوعًا للمحاربين في اليابان خلال العصور القديمة والوسطى تعكس واجباتهم المختلفة تجاه الدولة، ونبالتهم، وامتيازاتهم الأخرى. يستخدم معظم المتخصصين في اليابان وفي الغرب المصطلح العام "بوشي"، الذي يعني "المحارب"
ويوضح مايكل وِرت "المحارب مصطلح غامض من فترة ما قبل القرن الـ 17 يُستخدم للدلالة على مجموعة كبيرة من الناس يؤدون وظيفة عسكرية ما. وهو يشمل أي شخص من المتوقع أن يقدِّم خدمة عسكرية للدولة عند الحاجة إلى ذلك، وقد تلقَّى تفويضًا رسميًّا من سلطة حاكمة لفعل ذلك، تشمل تلك السلطات الحاكمة النبلاء، أو البلاط الإمبراطوري في كيوتو، أو أيًّا من المؤسسات الدينية. يمكن أن نصف مصطلح محارب نفسه بأنه غير دقيق؛ لأنه يوحي خطأً بأن الحرب كانت المهنة الوحيدة لهذه المجموعة. فبناءً على الحقبة الزمنية والمركز الاجتماعي، كان المحاربون يحكمون، ويتاجرون، ويزرعون، ويرسمون، ويكتبون، ويعلمون، ويشاركون في أنشطة مشبوهة. ثمة اعتبار آخر يجب مراعاته عند استخدام مصطلح محارب، ألا وهو القيمة الأخلاقية التي يربطها المعاصرون بذلك المفهوم. تستخدم القوات العسكرية الأميركية مصطلح "محارب" في برامجها التدريبية المختلفة، مثل "تدريب المحارب الذهني"، وهو برنامج تأمل مخصَّص للجنود من أجل مساعدتهم في التعامل مع اضطرابات ما بعد الصدمة وتجهيزهم لأهوال القتال.. في هذا الاستخدام، يمثِّل مفهوم المحارب كينونة الشخص، لا مهنةً يؤديها. ولكن على مدار تاريخ اليابان، كان الناس غالبًا ما يحتقرون المحاربين، فقد صوَّر الفنانون والكُتَّاب المحاربين في صورة حيوانات قاتلة غير متحضرة، ليست أعلى مرتبةً من الكلاب. كان المحاربون يسرقون وينهبون، وأحيانًا يقتلون سكان القرى التي يمرُّون بها. كذلك لم يكن ثمة حب لهم في نفوس الفلاحين، الذين كانوا يخشَون المحاربين لأنهم كانوا الأكثر تأثرًا بغاراتهم التي يشنُّونها بغرض النهب والسلب، والأضرار المترتبة على هذه الغارات. من سخرية القدر أن محبة الساموراي في نفوس العامة ومحاكاتهم لأسلوبهم لم تظهر إلا في عصر من السلام النسبي خلال الحقبة الحديثة المبكرة في اليابان (1600–1868).
ويضيف أن جدل حول أصول المحاربين انتشر كالنار في الهشيم بين أكاديميِّي اللغة اليابانية والإنكليزية المختصِّين في عصر ما قبل الحداثة في اليابان، ودار جزء منه حول كيفية تعريف مصطلح "ساموراي". هل يُعَدون امتدادًا لجنودٍ من عصور خلت؟ سبق أقدم الأدلة على وجود الجنود المحاربين التاريخ المكتوب، بل وحتى الحضارة اليابانية نفسها، فقد كانت تماثيل الفخار (أو الهانيوا)، تُصوِّر جنودًا، وخدمًا، وحيوانات، تنتشر في أماكن الدفن القديمة خلال الفترة ما بين القرنين الثالث والسادس. وكانت أذرع تماثيل الجنود ودروعها تعكس تأثرًا بالمحاربين المعاصرين لتلك الحقبة في ممالك الصين وكوريا، وتشاركها أسلوبًا عامًّا يُظهِر وجود نظام بدائي ما، امتد تأثيره إلى أغلب ربوع وسط اليابان وجنوبها الغربي. هل كان الصيادون وملاك الأراضي من المقاطعات الشرقية هم السبب في ذلك؟ أم كانوا المحاربين المحترفين الذين كان البلاط الإمبراطوري في كيوتو يستأجرهم؟ لنفترض جدلًا أنه من الآمن أن نقول إن المختصِّين العسكريين الخاصين ظهروا كمَلمح دائم في التاريخ الياباني في حوالي القرن التاسع، عندما بدأ بعضهم يتقلَّد سلطات أعلى من غيرهم، أهَّلتهم لئلا يخدموا كجنود فحسب.
ويشير مايكل وِرت إلى أنه عندما قوات ميناموتو يوريتومو اجتاحت اليابان من شرقها إلى غربها، وهزمت جيوش عائلات تايرا في عام 1185، وبمساعدة النبلاء الذين وُلدوا في كيوتو والحلفاء من المحاربين، أنشأ يوريتومو نظامًا للمحاربين استمر حتى عام 1333، عندما دمرت عدة عشائر بارزة من المحاربين نظام كاماكورا نُصرةً للإمبراطور. تحرك رجال بارزون في الشوجونية، وعلى رأسهم يوريتومو، تلَته سلسلة من الأوصياء الذين حكموا نيابةً عن قادة ضعفاء كان يُطلَق عليهم اسم الشوجونات، بفرض سيطرتهم على اليابان على حساب النبلاء. ومن ثم، تتمحور القصة النموذجية لأول نظام للمحاربين في اليابان حول تأسيس الشوجونية، وكيفية تحوُّلها إلى مركز ﻟ «نظام المحاربين» المزعوم. كان النظام يركِّز على الرجال الذين أداروا الأملاك، وأنشَئوا المحاكم القانونية البدائية، ولديهم علاقات مع النبلاء، كأرباب عمل أو حلفاء أو أعداء. في الثقافة الشعبية، يرتدي هؤلاء الرجال في الغالب الدروع في ساحات المعارك، ولا يتوقفون عن القتال. أما في الواقع، فكان الوقت الذي يقضونه في القتال أقل مما تجعلنا الأفلام والمانجا (الروايات اليابانية المرسومة) نعتقد. إن أفضلَ من يمكنه قصُّ تاريخ المحاربين الأوائل كاملًا النساءُ. كان لجميع أُسر المحاربين التزاماتٌ عسكرية، ولكن كانت تلك التزامات تُنظَّم بواسطة أفراد الأسر على نطاق واسع؛ كانت العشائر الكبيرة تضم نساءً، وعبيدًا، وخدمًا يؤدون الواجبات العادية والمعقدة. وتضمنت تلك الالتزامات العسكرية توفير الطعام والملبس والأعمال اليدوية، ولم تكن تقتصر على القتال في ساحات المعارك.
ويؤكد أن الساموراي احتل مكانة بارزة في الدراسات المتخصصة في حقبة توكوجاوا (1600– 1868)، المعروفة أيضًا بحقبة إيدو، أو "العصر الحديث المبكر في اليابان". رغم شهرة تلك الحقبة بأنها شهدت زيادة غير مسبوقة في كتابة المعارف وإنتاجها من قبل عامة الشعب، وتفوق الثقافة الشعبية الحضرية للعامة على الثقافة الراقية التي كانت تتركز في كيوتو، ظل الساموراي محورًا رئيسيًّا في التحليل التاريخي الكلي. بالنسبة إلى بعض أنواع التاريخ، خاصة التاريخ الدبلوماسي والسياسي، يُعَد ذلك منطقيًّا؛ فقد وصل دور الساموراي إلى ذروته خلال حقبة توكوجاوا. كان نوبوناجا قد قضى على دور المؤسسات الدينية كقوة سياسية واقتصادية وعسكرية، على الرغم من أن الدين ساعد، بوجه عام، في إضفاء الشرعية على العمل السياسي والترويج له. وحتى نهاية حقبة توكوجاوا، لم يعد النبلاء والإمبراطور في كيوتو يملكون السلطة التي كانوا يملكونها في الماضي. فكانوا يعتمدون على عطايا الشوجون، وكانوا يرسلون سفراء إلى شوجون توكوجاوا الذي اتخذ مدينة إيدو مقرًّا له (طوكيو حاليًّا). لم يفكر أي إمبراطور في تحدي نظام المحاربين الحاكم خلال حقبة توكوجاوا.
ويرى أنه بعيدًا عن تمجيد الساموراي، اعتبر العديد من اليابانيين في أواخر القرن التاسع عشر أن الساموراي طبقة عفا عليها الزمن، مصدر حرج، غير منتجة، عديمة الجدوى. لكن بحلول نهاية القرن التاسع عشر، مثَّل الساموراي القوة المزعومة لليابان التقليدية الفريدة من نوعها. من بين أفراد الساموراي السابقين المشهورين الذين تحولوا إلى مفكرين حداثيين، فوكوزاوا يوكيتشي، الذي تظهر صورته على عملة العشرة آلاف ين، والذي اشتهر باحتفائه بانتهاء نظام الرتب وشوجونية توكوجاوا. ورغم ذلك، تحسَّر لاحقًا على اختفاء روح الساموراي التي جسَّدها "الخاسرون" في ثورة مييجي الإصلاحية، مثل جنود أيزو المهزومين، وساموراي شوجونية توكوجاوا. من جهة أخرى، أصبح العديد من الجنود المهزومين سابقًا يعملون في حكومة الأقلية التي شكَّلها مييجي، وحظي رجال مقاطعة أيزو، الذين كان يُنظَر إليهم في السابق على أنهم أعداء مكروهون للإمبراطور، باحترام جديد ممن يمجِّدون اليابان بوصفه بلدًا عسكريًّا. وعندما بدأت اليابان حروبها ضد الصين (1894- 1895) وروسيا (1904 - 1905)، روَّج الأيديولوجيون للفكرة القائلة بأن جميع اليابانيين أصبحوا من الساموراي. أُدخل الكيندو، وهو نوع حديث من المبارزة بالسيوف تُستخدم فيه الدروع ونظام احتساب النقاط، إلى نظام التعليم، لغرس روح المحارب في نفوس الأطفال. وأصبحت التضحية بالنفس وحب الإمبراطور موضوعًا رئيسيًّا في الأدب والأفلام وكتب المناهج الدراسية للمرحلة الابتدائية. أُعيد نشر كتاب "هاجاكور" ـ الذي كان في أحسن أحواله كتابًا هامشيًّا في السابق ـ في أوائل القرن العشرين، وحظي بقاعدة قراء واسعة، خاصة خلال ثلاثينيات القرن العشرين في ذروة الفاشية اليابانية.
ويتساءل ماذا عن طريق الساموراي؟ ويقول "لم يحظَ بتأثير كبير بين صفوف عامة الشعب مثلما كان بين المسئولين الحكوميين والعسكريين ذوي الرتب المرموقة. يُرجِع أغلب الناس الفضل إلى نيتوبي إينازو في تعريف جمهور العصر الحديث بقانون بوشيدو في كتابه "بوشيدو: روح اليابان"، نُشر عام 1900 باللغة الإنكليزية للجمهور الأميركي. قبل نحو عقد من نيتوبي، وصف الصحفي والسياسي أوزاكي يوكيو قانون بوشيدو بأنه النسخة اليابانية من الشهامة، والذي يقابله مفهوم الفروسية في أوروبا. لم يذكر مفهومه أي شيء عن براعة القتال أو التضحية بالنفس. وخلال تسعينيات القرن التاسع عشر، رد المثقفون على كتابات أوزاكي عن قانون بوشيدو. فاستخدم البعض المصطلح لوصف حيوية التجارة، بينما دعا آخرون إلى نسخة مسيحية من بوشيدو، ولكن لم يُفرَض تعريف واحد للمصطلح حتى القرن العشرين. عاش نيتوبي في الولايات المتحدة خلال الانتشار الأول لقانون بوشيدو في اليابان، وعندما نُشر كتابه باللغة اليابانية، لم يلفت انتباه أحد سوى المثقفين المهتمين الذين اعتبروه صغيرًا جدًّا ومتأخرًا جدًّا. ولكن روَّج الفيلسوف إينويه تتسوجيرو لمفهوم بوشيدو على أنه مخزون للقومية، وخدمة الإمبراطور، والتضحية بالنفس. كانت هذه الموضوعات، وتاريخ الساموراي بوجه عام، محطَّ تركيز الدعاية خلال الحرب العالمية الثانية. ظهر الساموراي في المناهج الدراسية، وتعلم الأولاد المبارزة اليابانية في المدارس، وتدربت الفتيات على استخدام النبوت (ناجيناتا)، وهو عبارة عن عصًا طويلة يُثبت في طرفها نصل مُنحنٍ.