لبنان من غير لبنان
دائما كان لبنان يقف على حافات الهاوية. على الأقل في الخمسين سنة الأخيرة. وكم خمسين سنة في عمر الإنسان لكي يأمل في أن تكون الأمور أفضل أو ينجو غير مرة من السقوط الذي صار أشبه بقدره.
أما حين أصر حزب الله على أن يأخذ لبنان معه فقد كان ذلك القرار نهاية لانتظار طويل، قلق وممل. لقد وجد الحزب الحل في الانتحار بلبنان أخيرا لينهي صراعه مع اللبنانيين الذين صاروا يسببون له صداعا في غير محله.
ولكن هل صار اللبنانيون، كل اللبنانيين على بينة مما حل بهم؟ سؤال يبدو ساذجا وزائدا فالشعوب تتعلم من مآسيها. وما من شعب مهزوم ظل مهزوما إلى الأبد.
ولكنها قد لا تكون معادلة دقيقة في الوضع العصيب الذي يمر به اللبنانيون. أولا لأن حزب الله لن يعترف بهزيمته التي هي في جزء منها من صنعه. وهو أمر غير مهم. وثانيا لأن الحزب صار عبارة عن كتلة بشرية مسلحة في إمكانها أن ترتكب كل حماقة غير متوقعة بسبب شعورها العظيم بالاحباط. والموضوع كله يتعلق بالأعصاب الفالتة وليس بتقديرات سياسية ذات بعد وطني. وهو الأمر الأشد خطورة وأكثر تأثيرا بتداعياته.
بالنسبة لأنصار الحزب فإن من يتحدث عن هزيمته هو خائن ومتواطئ مع العدو والأولى أن ينال جزاءه حتى وأن كان ضحية كفرت بماضيها الذي امتزج طينه بالأوحال.
الكذبة يجب أن تستمر ومَن لا يصدقها مستندا إلى الواقع بكل صدماته لن يلوم إلا نفسه. ذلك لأنه لن يجد مَن يسمعه إلا بطريقة مخاتلة. فالخوف وهو حق مشروع من شأنه أن يسد كل الطرق أمام اية محاولة للمساءلة لتي لن تصل إلى درجة توجيه الاتهامات.
من المستبعد أن يكون اللبنانيون في جلهم قد أفاقوا من هول ما حدث للحزب وأن يطووا بأنفسهم صفحته المليئة بالثغرات التي صارت واضحة بعد أن تمكن العدو من فرض تفوقه بطريقة غير تقليدية. وهي الطريقة التي محت وجود كل القيادات العسكرية والسياسية للحزب.
ربما ينتظر اللبنانيون من العالم ما لا يمكنه القيام به. فبغض النظر عما تضمره إسرائيل فإن وجود ميليشيا مسلحة داخل الأراضي اللبنانية هو شأن داخلي لن يرغب طرف خارجي في الاقتراب منه لا لشيء إلا لأنه يتعلق بمجموعة من الخصوصيات التي هي وليدة تاريخ وطني معقد. فعبر أكثر من نصف قرن كان لبنان هكذا دائما، دولة مخترقة بالميليشيات التي غالبا ما كان ولاؤها غير وطني.
اليوم يحتاج اللبنانيون إلى إرادة تمكنهم من الانتهاء من ذلك التقليد الذي صنع طبقتهم السياسية الفاسدة وانزلق بهم إلى هاوية سحيقة لا يقوى العالم على اخراجهم منها ما لم يكونوا جاهزين فعلا للقيام بمراجعة ماضيهم ونقد الأخطاء التي راكموها بعد أن اعتبروها جزءا من خصوصيتهم.
حدث للبنان في الحرب الأخيرة كان تتويجا لزمن طويل من الانحرافات عن العلاقة الصحيحة التي يجب أن تقوم بين الشعب والدولة أو بالأحرى بين المواطن ووطنه لكي يكون لكل مصطلح معناه الحقيقي.
صحيح أن النص القانوني المتداول يقول إن الشعب هو مصدر كل السلطات غير أن الصحيح أيضا أن الدولة لن تتمكن من القيام بعملها في تنظيم وإدارة مصالح الشعب ما لم تحظ بمكانة تحميها من الاختراق. وفي كل العهود كانت الدولة اللبنانية مُخترقة إلى أن وضع الحزب القانون على الرف وصار هو مصدر كل السلطات من غير أن يكون هناك تفويض قانوني.
ما فعله الحزب عبر العشرين سنة الماضية كان استمرار للظاهرة المنحرفة التي أدت إلى اشتعال نار الحرب الأهلية منتصف سبعينات القرن الماضي. ولا يكتمل معنى عبارة "حرب الآخرين على الأرض اللبنانية" إلا من خلال التسليم بأن اللبنانيين أنفسهم كانوا على استعداد بأن يكونوا أدوات لأولئك الآخرين. ذلك ما تكرر وقوعه مع حزب الله الذي لم تخف قيادته السابقة أنه كان بمثابة قوة احتلال إيرانية وضعت الدولة تحت ابطها بعد أن صادرت هيبته حتى وصل بها الأمر إلى تعيين رئيس للجمهورية تابع لها.
كل ذلك كان جزءا من التاريخ السياسي في لبنان ولا يمكن إلقاء تبعته على أحد من اللاعبين الخارجيين. لذلك فإن أية محاولة لإنقاذ لبنان مما هو فيه ينبغي أن تبدأ بإحياء الإرادة الوطنية المستقلة التي يكون في إمكانها القيام بالمراجعة وتقوى على المساءلة سعيا وراء طي صفحة ماض سياسي مليء بالقيم والمفاهيم الخاطئة.