تجليات العبدلي في 'لمسات على جسد الفراق'
القاهرة - يجمع ديوان "لمسات على جسد الفراق" للشاعر والمترجم الدنماركي العراقي الأصل د.سليم العبدلي مجموعتين شعريتين، أصدرتهما دار الأدهم في عامي 2012 و2015 عنوان الأولى "الأمكنة مقابر الوقت" والثانية "من رائحة الفراق". ولكن لنفاد الطبعة الأولى من المجموعتين رأت الدار إصدارهما ثانية وبطبعة جديدة معا وذلك بالتوافق مع الشاعر الذي قام بعمل إضافات وتعديلات في بعض القصائد. كما قام بجمع القصائد التي تشترك في موضوعاتها "ثيماتها" في فصل واحد، ولكنه حافظ على الترتيب الزمني لهذه القصائد، أي أن ما جاء في الديوان الأول كان له السبق الزمني عما جاء في الديوان الثاني.
توج الديوان أيضا خاتمته بثلاث صور نقدية للمجموعتين اللتين ضمهما كتبها النقاد والمبدعون عمر شهريار وأسامة جاد وأحمد المريخي.. يقول شهريار "تمثل علاقة المكان مع الوقت في نصوص الشاعر سليم العبدلي أزمة وجودية، حيث تشكل المسيرة الذاتية للشاعر وتجسد أزمته في العلاقة الأبدية بين الفقدان والحنين وتداعيات الوقت، وقد تجلى ذلك في عنوان مجموعة الأول 'الأمكنة مقابر الوقت'، كذلك يشدنا عنوان مجموعته الثانية 'من رائحة الفراق' وفيه لم يكتف الشاعر مثلا بـ'رائحة الفراق' كعنوان وإنما أضاف لها 'من'، ليؤكد استحالة الإلمام حسيا بكل الفراق العالق كالرائحة في جميع القصائد، ولكن شيئا من الفراق يمكن أن ينعكس في القصائد وعلينا نحن كقارئين الخيال. أما البنية الدرامية للنص الشعري في الديوانين، فهي بنية درامية متماسكة، ونجد أن كل فصل يصدره الشاعر بقصيدة قصيرة فيها يحمل الشاعر أسئلته، مثل لمن هذه المدائن؟".
ويضيف شهريار أن "العبدلي ينفرد في تعامله مع المدن، حيث أنه يتعامل معها بالمخاطب، كأناس، يلقي عليها الأسئلة الغاضبة، ويؤنبها وكأنه يؤنسنها ـ هذه المدن ـ ويؤرخ البصمات التاريخية لها وكأنه يرسم خريطة تاريخية، إما ماديا أو معنويا، فهي حالة رصد معرفي لهذه المدن وذكر لهؤلاء الذين هدموا المدن وهؤلاء الذين أحيوها، وإن كان هناك ساسة يهدمون فهناك كتاب يحيون. كما تتمثل في هاتين المجموعتين علامة سيمائية، ألا وهي حالة العتمة التي تعكس حالة الغربة والوحدة التي نجدها في قصائد المدن والقصائد الأخرى، متمثلة في الليل، الظلام، المساء، البرد، الضباب، وكلها دلالات عن الاغتراب والوحدة وآلامهما. أما الذات الشعرية فنجدها مقهورة عند الشاعر من خلال الصراع الدائر بين الخطوة والطريق، تتنقل بين كل الطرقات دون جدوى في الوصول إلى غاياتها، فهي تجبر في المضي في طرقات لا رغبة لها فيها. هذه الذات المستلبة غيرالفعالة، بل على العكس المفعول بها ويصعب عليها الاختيار أو الانتفاضة، بل تكتفي في أحلامها في التمرد على طرقاتها، تلك التي تسخر من الخطوات المغيبة، العاجزة الإرادة، يصورها لنا الشاعر حتى وإن تحررت فإن التشوش يصيبها ويصعب عليها اختيار المسير".
ويرى أن العبدلي يختلف عن الكثير من الشعراء الذين تناولوا حالة الموت الوجودية، لأنه يتعامل بشيء من المحبة أو باحتفالية واضحة، كما جاء في "سأفرش لك السجادة الحمراء"، وكأنه يحضر مهرجان سينمائي ليستقبل نجمة ويطوقها بذراعيه، فالشاعر يعكس هنا حالة احتفالية بالموت وكأنه شيء طيب، مألوف. أيضا يستخدم العبدلي أدوات فنية مثل أدوات الخطابة في "أيها السيدات، أيها السادة" أو المشهد السينمائي في الحياة "لعبة الغميظة، نلعبها مع الموت، يفتش هو فيها عنا، ونهرب نحن منه". كما نجد ذلك في علاقة الفهم والمعرفة، حيث تأخذ الذات الشاعرة هنا مكان الحكيم أو الفيلسوف الذي يأتي بأطروحات جديدة، فهو مثلا يعرّف الفهم بـ"الفهم سليل الطبيعة الشرعي"، تعريف جديد مغاير لما هو معروف. كذلك نجد الطرح الشعري في علاقة الجرح مع أثره، وكيف يمكن للعتمة أن تخفي الجرح، ولكنها لا تستطيع أن تخفي أنينه. هذه المشاهد وعويل آثار جراح العبدلي تذكرنا بما كتبه صلاح جاهين في رباعياته عن الألم والصمت.
أما الصورة النقدية للناقد والقاص أسامة جاد، فجاء فيها أن العبدلي يصور بقصائده وبصور مقتبسة من الذاكرة بشكل شفاف وجميل، لها حضور مادي. وما شد انتباهي أن النصوص تعبر عن الاستلاب للوطن، إن كان معنويا أو ماديا، وتذكرني بأفلام صورت لنا الغربة والاغتراب، وكيف أنه ينظر إلى الوطن البعيد من بعيد، فتكون النظرة بعيدة عن التأثر الانفعالي، ولكنها لا تخلي من موضوعة أن الغريب يحمل وطنه معه، ولذا تكون النظرة ذات تأثر تأملي. ونجد أيضا ما يقدمه العبدلي في مقطوعاته عن الخطوة والطريق، حيث يتضح كيف إنه يفكك ثم يلم ثم يتأمل ويحي العلاقات ما بينهما. وفي فصول الديوانين يعكس الشاعر سيرة حياة أو رحلة يتخللها الاستمتاع والحرمان والحنين، ولكن بطلها يبقى الفقدان، فقد الصديق، فقد الحبيبة رغم قصائد الحب العالية الشفافية، فقد الأمكنة الجديدة ليسجلها في لوحة كفنان تشكيلي لعلاقة الشاعرمع هذه الأماكن، أماكن الشاعر، حيث نجد اعتمادية متبادلة بين المكان والزمان. من وحدته يطرح العبدلي أسئلة وجودية عن المكان والزمان والموت والفهم والخطوة، ولكنه لم َ يتخل عن دهشته، دهشة الطفولة واللعب، فتراه يداعب الموت حينًا وحينًا الطريق وآخر الانتظار أو البيت.
أما الشاعر أحمد المريخي، فيرى في صورته النقدية لديواني العبدلي أنه رغم أن المكان قد استحوذ على مساحة واسعة في الديوان الأول "من رائحة الفراق"، إلا أن ما يجمع بين قصائد الأمكنة في الديوانين يعبر الشاعر عنه بمقطع في قصيدة يقدم الديوان بها "عندما يضيق الوقت يتداعى المكان في مكانه". أما الاغتراب عند الشاعر فلا ينطلق من الحنين وإنما من نظرة تفحصية ناقمة، وهو في غاية الحزن ولكنه لا يبكي، يتألم ويسخر .الشعر فن مراوغ والفلسفة لعبة شعرية وكلاهما يسخرهما العبدلي في أدبه، ونصوصه تغريك للبحث عن الإجابة، عن ماهية المكان والوقت، الألم والحرمان، الحنين والذكرى.. الخ، مكثفة، ولكن الألم يبقى هو بطل هذه التجربة، الذي يختم به ديوانه الأول ليستهل به ديوانه الثاني "من رائحة الفراق"، حيث يبدأ بطريقة جديدة، بتساؤلاته عن المدائن في "لمن المدائن إن لميتسن لي البقاء".
ويلف المريخي إلى أنه في هذا الديوان "نحن أمام تساؤلات عن الغربة والحنين، عن الشرق والغرب، الضياع والأمل، تتبلور فيها الذات الإنسانية، وكيف ينعكس في فعل مقاومة سلبي للذات الشاعرة، يكشف عنها الشاعر، وفي نفس الوقت يثير تساؤلاتنا، يا ترى أي وطن أو موت أو طريق؟ هل هو الموت المادي أم المعنوي؟. وفي النهاية يترك لنا مفتاحا لباب حياة حتى ولو كان هذا المفتاح حنين سالب، فهو مفتاح للدهشة".
ويختم "أود أن أؤكد بأن جماليات النصوص تكمن في فلسفتها. وقد وجدت تقاربا بين العبدلي والفيلسوف الفرنسي جبريل تارد، فهناك خطوط تماس للتناقض والتوافق يطرحها علينا العبدلي، والذي أجده متألقا عندما يتحرر من المكان المادي".
من قصائد الديوان
جرح الليلة الماضية أبكاك
وأبكاني
ولكني مازلت أجهل
لم استطاب أثره
البقاء
معي
****
لها العتمة أن تخفي الجرح
لكن
أنى لها أن تخنق أنينه
تذكري
إن الجرح الذي لا ترين له أثرا
يؤلم أيضا
أحيانا يكون ألمه
الأشد.
****
أمست شفتاي المنفى الأخير لفرحي
بعد أن احتل الحزن دواخلي
يا حزني
ترى من منا اختار الآخر؟
****
أسعدت
بسعادة لم أشأ تُسعدني
وسَعَدَت سعادتي
بسعادة
لم يحل بعد.
***
تعودت وحواسي
أن لا نخيب ظن بعضنا
عودتني هي
أن تحس بما لا أشاء أن أحس به
وعودتها
أن أرتقي بها إلى ما أشاء