حسن برزنجي يتلمس الحبل السري بوعي جريء

ابن القامشلي يدمج بين التشكيل والموسيقى بروح واحدة، مُبدعًا خطابًا بصريًا غنيًا يتجاوز الشكل إلى عمق المعنى ويسعى لخلق تحولات جمالية وفكرية جريئة تنبع من وعيه الذاتي ورفضه للثوابت الجاهزة.

لدي اعتقاد ما بأن كل فنان تشكيلي هو فنان موسيقي بالضرورة لما للعلاقة الحميمية بينهما، تلك العلاقة التي تصل إلى حد ذوبان أحدهما في الآخر، ولهذا على كل فنان تشكيلي يعتقد بأنه غير ذلك أن يقرر، فإما أن يبحث عن مكامن الموسيقا في دواخله وشيفرتها ويطلق العنان لها، أو أن يعيد النظر بمكامن تجربته، وبالتالي سيخلق هناك ما يجعلنا نشك بريشته. أسوق هذا الكلام وأنا أقف أمام فنان يجمع بينهما بعمق، فلا تكاد تفرق بينهما، أقصد موسيقاه ولوحاته، فكل منهما مجبول بالآخر وينبض به. فناننا هو حسن برزنجي (1973)، ابن القامشلي، فنان يجمع بين الموسيقا والتشكيل بعشق وحب كبيرين، وهذا ما يجعله يمارس مواسمه بإيقاعات لونية، يشتغل عليهما / الموسيقا والتشكيل / معاً، وتكاد تكون معزوفاته لوحات تشكيلية فيها من التحققات الحاملة لملامح منجزه ما يغدو رحابة لمحافله الملموسة، كما تكاد تكون لوحاته إيقاعات لسيمفونية لا تنتهي.

وفي ضوء ذلك، فبرزنجي يخطو باتجاه الانتقال من طبقة إلى طبقة، ومن محطة إلى أخرى، من التجريد حيث مفتاحه السحري، إلى التعبيرية التي بها وفيها يصول ويجول بمتعة جمالية جديدة، حتى يزيح القشعريرة من كرة آدم، هذه الكرة اللعنة التي ليس بمقدورنا النأي عنها، فجّرت فينا وعياً مبكراً وعميقاً ومرتبكاً، هيأت فينا إشكالية باتت تطلق كل الخراب منا، الخراب الذي لا ينتهي حتى بانتهاء تلك الأرض. ستنتهي حين ينطفئ آخر نبض من نسل قابيل فينا، حينها قد نصل إلى معنى يفيد في عدم خجلنا من الانتماء إلى كائنات تصلح أن تتنفس.

قد لا أُخطئ حين أقول بأن محاولات برزنجي، بل أطروحات برزنجي، قد تخلق سجالاً ثنائياً عذباً بين منتجه ومتلقيه، فهو يهيئ لظهور تحول في خطابه التشكيلي بنيةً وشكلاً وصيغة، نحو بلورة فعلية / سوسيولوجية قد يضع تصوراً جديداً / مغايراً لمسألة الخلاف والاختلاف، أو قد يدفع بنا إلى زوايا مختلفة وأمام وجوه مختلفة، للإقرار بأننا أمام إمكانات جد مختلفة. فالنمو والتطور باديان في سردياته المختلفة وصولاً إلى مرحلة الاحتمال الأقرب من رصيده السردي الذي به يعيد إنتاجه وعلى نحو مختلف، فالقضية عنده ليست زحزحة زوايا، ولا محركات بحث عن صرة العمل، تلمساً للحبل السري، ولا تقصي ذلك الموروث الذي هو استمرار للمرويات السردية القديمة والذي يحتاج إلى التدوير، بل للخروج من منطقة المسلمات إلى مناطق الأسئلة المتجذرة بالراهن، والتي تجر إليها التفسير الحاضن لمجالاته التعبيرية.

فهو يذهب للمواجهة، مواجهة الاتجاه المتباين والمناوئ لنماذجه، فتتجاور مقاماته ليستوعب الموروث والوافد بمكوناتهما وعلاقاتهما وقيمهما، والحق أن برزنجي يحقق وظائف مغايرة في عمليات تشكيل خطابه الفني، فبنزوع فردي وبرؤية ذاتية وبتوفر شروط ليبرالية يضغط لخلق متغيرات من منظور لا يخلو من إحلال الالتقاء بين الأضداد، بل إحلال قرابة وطيدة بينها، تذكرنا بأجواء أسواق الجمعة في مدننا الكثيرة، حيث المونولوج يستحلب الذاكرة بلغة تناسب الملموسات المستجدة، وهي تجربة مفيدة في إبراز مناخات كل مفاصلها وشخوصها بلغة بصرية شيقة ومطواعة لمواكبة إيقاع تبادلاتها المتسارعة.

ومهما يكن، فبرزنجي حريص على الاجتهاد دون الخضوع لأوامر التقديس، فوعيه جريء إلى حد بعيد، ولهذا يرفض التضحية بأشيائه كونه يخوض تجربة جميلة في فضاء منتهك جداً، وهذا ما يجعله أمام تصورات صادرة من محادثات تطلعاته وأمام لغة سريعة الخطى لكن بإيقاع يواكب تبدلات منتجه.

حسن برزنجي مستعد، على نحو ما، للقيام بمشاريع جمالية تكون هي الصورة الحقيقية لمجاله الداخلي المتعلق بالتفاعل الإنساني / الثقافي، فهو كمبادر في إعادة كشف النقاب عن الجميل داخل الإنسان ومناطقه، يشير باللون إلى الإشكاليات المتعلقة بفعل الاتصال مع الآخر وقراءته. فهو يتناول العلاقات بحوارية تساؤلية تنقل المفاجأة من البحث عن محركات الجواب إلى هواجس تشييئية بذائقة تطمح بخطوة لا تخضع لعشوائية الاختيار، بل لتكوين مخيال ينبغي الرواج له والانتقال به إلى دور لافت، حيث الانفتاح والترحيب يخيمان على مشروعه.