سهيل نجم يطرح رؤيته الشعرية ويترجم 35 شاعرا عالميا

الشاعر العراقي يرى أن العلاقة بين الشعر والعالم أبدية ما دام الإنسان موجودا، ولذلك فهي تعبر الزمان والمكان إلى المطلق، من دون أن يعني ذلك أن الشعر يكمن خارج التاريخ، لأنه إن خرج عن التاريخ فقد خرج عن الحياة.

خمسة وثلاثون شاعرا من الشعراء الكبار العالميين الذين أثروا التجربة الشعرية الإنسانية في الشرق والغرب، من بينهم تيد هيوز، وعبدو مادهيو سافاج، ويانيس ريتسوس، وماثيو سويني، وبورخيس، وبابلو نيرودا، وتشو شوتشن، وتشارلز سيميك، وأوكتافيو باث، وت.س. إليوت، وفريدة حسن زادة مصطفوي، وسهراب سبهري، ضمتها المختارات التي اختارها وقدم لها وترجمها الشاعر سهيل نجم وعنونها بـ "الشاعر والعالم.. نصوص مختارة من الشعر" وصدرت هذا الأسبوع عن دار الأدهم.

في مقدمته يطرح الشاعر العراقي سهيل نجم رؤيته كشاعر للشعر والشاعر ووجودهما في العالم، يقول "الشاعر(ة) والعالم صنوان. لا يكون الشاعر شاعرا من دون العالم، ويخسر العالم روحه من دون وجود الشاعر. قد يكون الشاعر، أو حري به أن يكون، ضد الواقع ولكنه لا يكون ضد العالم، لأنه يتبادل والعالم الكينونة. الشاعر ليس ذلك الإنسان الذي يكتب القصائد فحسب، إنه أبعد من ذلك وأكبر. إنه من يلم أشياء الواقع إليه ويردها إلى العالم لتكون ذات وجود آخر، هو الوجود الشعري الذي يوحد الموسيقى الكونية بدلالات اللغة والمعاني التي تحتضن التأويل. ثمة الكثير من الناس يكتبون الشعر وهم ليسوا شعراء، وثمة كثيرون لا يكتبون الشعر لكنهم شعراء بالإحساس. ثمة في أعماقهم علاقة مع العالم لا تفسر باللغة العادية اليومية، بل قد تكون تلك العلاقة ذات طابع ميتا لغوي، حدسية، تدرك وتتقبل الحياة بخصوصية نادرة تنعكس على سلوكهم الحياتي فيعيشون الشعر.

ويرى أن العلاقة بين الشعر والعالم، في ظنه، أبدية ما دام الإنسان موجودا. ولذلك فهي تعبر الزمان والمكان إلى المطلق، من دون أن يعني ذلك أن الشعر يكمن خارج التاريخ، لأنه إن خرج عن التاريخ فقد خرج عن الحياة، بكلمات أخرى، الشعر أكثر الفنون التصاقا بما هو روحي وخالد في الحياة الإنسانية. إن الشاعر الحقيقي ذات متفجرة تنزع دوما إلى التغير والسمو، بعيدا عن الإدعاء وحب الظهور والنرجسية المرضية الفارغة من أي عمق. لذا فهو في أعماقه يخشى أن ينعت بـ "الشاعر" ويخاف من هذا الوصف أو يهابه لأن السعي وراء الألقاب من شأن الأرواح الصغيرة ضيقة الأفق، لأن الشاعر من وجهة نظره، إنسان مسؤول عن الإنسان الآخر أكثر من أي آخرسواء امتهن السياسة أو التجارة أو غير ذلك. الشاعر الحقيقي يحس أكثر من غيره بالآخر وهو وحده القادر على إخراج روح الإنسان المطلق في كلمات ينسجها بروحه ويدوفها بدمه لتقول للآخر هذه حقيقتك ويضعها في يده كما يضع قلبه النابض.

ويوضح نجم ان اللغة رأسمال الشاعر، كلما ارتقى رأسماله ازداد ثراء اللغة الشعري، تلك الهلامية عند بعض الناس، تنضو، لدى الشاعر المخلص لفنه، عن نزقها وعن برقها وزيفها لتكون كاللؤلؤة التي تنزع محارتها. اللغة الشعرية بإيجازها ومجازها هي فكر الشاعر الذي يسعى إلى تغيير العالم ليس بالوهم وإنما بالإيحاء إلى ما يجعل الحلم ممكنا. العزلة الأليفة، غير الوحشية، هي البحر الذي لا يمكن لكائنات الشاعر أن تعيش إلاها. إنها بالأحرى توحد صوفي بالأشياء يمكن الشاعر من الانفراد خارج الكون كي يخلق رؤياه الخاصة وإسهاماته الذاتية والروحية في بث هواء أنقى إلى الكون، مثلما تفعل الأشجار في الليل وهي وحيدة مع نفسها منعزلة تماماً عن كامل الوجود، وهي في الوقت نفسه تمثل قلب الوجود النابض. حين يهبط الشاعر إلى الدون وتتآكله الهفوات تبطل عنه المسؤولية، مثلما تبطل عن فاقد المصداقية أو المجنون. وعندها يغدو حجرعثرة في طريق الإبداع المعبد بنكران الذات والمثل الجمالية ذات السلوكيات العالية، و يبطل الشاعرعن أن يكون معلما.

ويؤكد أن الشاعر، حقيقته، أنطولوجياً وتارخياً، وهو الساحر الأول والمعلم الأول. تعامل مع الأحجار فأطلق منها الطيور وتعامل مع الرمال فأطلق منها الينابيع وتعامل مع البرية فجعل منها فردوساً. ولأن أداته اللغة فقد جعل منها مطرقة يكسر جمود العقل وفرشاة يزين بها رهافة العاطفة. الشاعرالحقيقي لا يغفو إلا والعالم بين جفنيه يحنو عليه ويرتب همومه التي يأمل أن تنقشع مع خيوط الصباح. فهو والأمل مفتولان كشعيرات الخيط. قد يحزن ولكنه لا ييأس، وقد يندحر ولكنه لا ينتهي، كما قال همنغوي.

ويكشف نجم الانفعال بالكون هو قلب الشاعر ومنطلق الخيال أفقه، والكلمات هي العصافير النارية التي يطلقها من فمه نحو الأبدية والطبيعة. وعلى الرغم من أنه لا يحب أن يتلبس دور الواعظ إلا أنه لا يقول الكلمات جزافا ولا يحب أن تسيل أبيات شعره سيل المياه المهدورة، ولأن الحياة قصيرة جدا بالنسبة إليه فهو لا يضيع وقته سبك تعابير مثل "لحية المساء أو جرجرة برطم اللاجدوى". له رسالة كبرى وقد عقد مع الأنبياء عهد مضاهاة، لكنه ليس نبيا ولا كاهنا، إنه... يحاولأن ي ون شاعرا. الشاعر الحقيقي، لأنه معلم، فهو مشغول بالعالم أكثر مما ينشغل العالم به. و بينما يسعى الكثيون إلى جلب الأنظار إلى أنفسهم ويمعنون تلميع صورهم ويعملون على نشرها بين الناس، يجلس الشاعر الحقيقي في زاوته متأملاً صيرورات العالم وتحولاتها لينسج صوره الخالدة لها مكثفا المشاهد في مجازات واستعارات وتشبيهات وحتى في سلوكيات تتجدد كل يوم لتمنح العالم دفقاً جديداً مثلما تمنح الينابيع البرية دفقا جديدا من الماء البلوري الصافي إلى العالم كي يخضر ويتجدد.

ويلفت إلى أن العالم قد يتمحور للشاعر كلمة مشونة بالدلالات والأفكار أوقصيدة مركبة أو وردة ذابلة أو يانعة على شجرة أو طير محلق أو طفل يكركرأو يبكي أو فراشة أو مطر أو برق أو مساحة شاسعة من الاخضرار أو صحراء قاحلة ممتدة يلفها السراب، ووو... وكثيرا ما يتمحور العالم في امرأة. المرأةأ هي أغنى ينابيع الرجل الشاعر التي ترفده من روحها وجسدها، والرجل هو أغني ينابيع المرأة الشاعرة جسدا وروحاً.

ويرى نجم أن الجنون ليس هوية من هويات الشاعر، كما يتوهمون، الجنون تكنيك، الجنون سبيل من سبل الشاعر لعبو ر الواقع كي يصل إلى مدينة الشعر.الجنون عزوف الشاعر عن تلقي الواقع كما هو، إنه بالأحرى، مرآة من مرايا الشاعرالكثيرة التي يرى فها صورا محتملة للحياة. على أن الخيبة، بعد الانتكاسات المتكاثرة، واحدة من تلك المرايا. الخيبة فرع من فروع شجرة احزن الوارفة الظلال التي تحتضن الشاعر حينما يرجع مهزوما من استحالة خلق قصيدة جديدة لا تكرر ما قاله من قبل أو ما قاله الآخرون. وإذ لا تأتي القصيدة إلا لماما يكون الحزن هو المقيم في أعماقه والفرح هو الطارئ أو المتحول.

ويشير إلى أنه طوال ما يقرب من نصف قرن وأثناء تتبعي لتجارب الشعر في العالم ترجمتُ لشعراء منفردين كتب وكتب أخرى ترجمتُ لشعراء مجتمعين نضمن فترات محددة ومن بلد واحد، وفضلاً عن ذلك رصدتُ نصوصاً شعرية من بلدان عديدة فيها من العمق والصدق والجمال ما يستحق المشاركة مع الآخر، القارئ ذو الإحساس المرهف، الذي يتماهى مع العمل الشعري المتفرد فيتبناه ليكون جزءاً من تكو نه النفسي والثقافي. من أجل ذلك تولدت في داخلي مسؤولية ملحة لنقل بعض من تلك التجارب إلى القارئ العربي، اعتماداً على قدر ما تراكم من خبرة معقولة كتابة الشعروترجمته. بعض الشعراء هنا ترجمت لهم نصاً واحداً وآخرين ترجمت له عدداً أكثر، وبعض النصوص لربما يجدها القارئ بترجمات أخرى، إلا أنني على الرغم من ذلك آثرت تقديم ا برؤيتي لها، فالترجمة الشعرية برأيي تنطوي على رؤية خاصة، على أساس أنني وجدت كل نص من هذه النصوص الشعرية يخلق حواراً وجوديا خاصا بين الشاعر والعالم الذي يحيطه والعالم بوصفه كونا شاسعاً نعيش فيه على وفق نظام وسيورة كونية ت تنتظم فها الكائنات حلقات متتابعة بحسب جدلية خالدة للحياة والموت ولربما الانبعاث بوصفه منظورا مصيريا تفهو إليه البشرية. آملاً كل الأمل أن تكون النصوص جميعها تحمل بالفعل الرسالة التي أدرجتها في حروفي أعلاه.

قصيدة الشاعر الأميركي تيم سيبليز

القبلة الأولى

فمها

سقط في فمي 

مثل ثلج الصيف، مثل

الفصل الخامس، مثل جنة عدن جديدة،

مثل عدن حين صنعت حواء ﷲ

ثمة أنين مع الرضاب

وانحدار في وركيها ـ

قبلتا تؤُلم هكذا -

أعني، وأقسمُ أن الأمر مثل اختلاط

عَرق ملاك

بطعم اليوسفي.

فمي  

كان خوذة أبدية

مدهونة بالأسرار، فمي

طريق مسدود قليلاً

مضاءً بالأسنان - وقلبي، مقفل

بهدوء قعر الظلام،

لكن فمها ممتد مثل عربة سماوية

معبأ بالكناري مدفوعُ

من طائرالطوقان - أقسمُ

أن تلك الشفاه رفرفت بأجنحة

مشرقة وبرية

حين قبّلنا بعضنا بعضا

لكأنها كانت تعلّم

في فرس البحرالكلام -

فمها شديد الحذر، يقضم

الحرف الأول من حلقي

حتى تحول عقلي إلى بيانو

يعزف عالياً، ويطرقُ هكذا ـ

كما لو أن لسانها، أقسمُ،

هو القمرالسابع لكوكب زحل ـ

ساخنا وحارا

وباردا ويدور

ويدور، ليحولني

إلى كوكب سعيد ـ

الشمس تشرق من جهة، والليل يتدفق

بيدها البطيئة من جهة: ونار

 تحلق مثُل طائرة ورقية من جهة أخرى.

قبلتها، أقسمُ ـ لو أن الأم العظيمة

رعت وفتحت القمر مثل هدية وكنت هناك

لشعرت بظلك أخيرا

قد تحرر من معصمك.

هكذا كان، وأحلى ـ

مثل عربدة لكهنة مربوطي الأرجل

على عصي البهلوان، يصعدون ويصعدون،

لهذه الجهة وهذه، ولا يسقطون

ولكن مرارا وتكرارا

يسيئون التصرف هكذا

لكنهم مقدسين - أقسمُ!

في تلك القبلة: الشفتان كلتاهما تنتميان تماما

إلى العالم مثل فيلق السلام،

مثل متجرمجاني، إلى الأبد ودائمًا

أو مثل مدينة جديدة - لا أقفال فيها، ولا أسوار،

أبواب فحسب ـ أقسم بذلك،

هي كذا.