حين يكون المرء لاجئا على أرضه
هناك 22 مخيما للاجئين في الضفة الغربية وثمانية مخيمات في غزة أكبرها مخيم جباليا. بسببه يمكن اعتبار غزة مخيما. ولكن مهلا. نحن هنا نتحدث عن فلسطينيين يقيمون على أراض فلسطينية سمتها وكالة غوث اللاجئين (أونروا) مخيمات واستمرت كذلك عبر سبعين سنة. بهذا المعنى فإن مَن ولد في تلك البقاع عاش ومات لاجئا بالرغم من أن قدميه مشتا به على أرضه وأرض أجداده. لم تنشأ الأونروا مخيماتها على أرض غريبة. لقد نقلت فلسطينيين من مكان إلى مكان آخر في بلادهم. لم تنقلهم، بل وجدتهم يهربون من الموت فساعدتهم على الاستقرار المؤقت الذي صار حياة دائمة. يلجأ المرء إلى بلاد غريبة وأناس أغراب أما أن ينتقل إلى بقعة من بلاده ويعيش بين ناسه فإنه لن يكون لاجئا ولا يُليق به أن يُسمى كذلك.
كانت فلسطين قضيتنا المركزية. ما من عربي ينكر ذلك. الجملة التي كان الزعماء العرب يصرون على أن يفتتحوا بها خطاباتهم كانت عميقة في صدقها من حيث موقعها في الوجدان الشعبي. ولكن ما الذي فعله العرب من أجل أن لا يكون الفلسطيني لاجئا على أرضه؟ لا شيء. لقد تُرك الأمر ل"الأونروا". بمعنى الاستمرار في تعبئة الكارثة بمجسداتها الواقعية. ليست فلسطين وطن ذلك اللاجئ، بل هي مكان لمخيمه الذي سيبقيه لاجئا إلى الأبد. أفهم أن يكون الفلسطيني حسب التقسيمات الجغرافية لاجئا في الأردن أو لبنان أو سوريا او العراق أو مصر. ما لا أفهمه أن يكون لاجئا في فلسطين. ذلك ما تم تعميمه فيما بعد. صار لدينا اليوم عراقيون لاجئون في العراق وسوريون لاجئون في سوريا. أما التعامل مع ذلك الأمر كما لو أنه حدث طبيعي فإنه يدفع إلى الجنون.
ولكن لتلك الظاهرة وجها آخر. فإذا ما فهمنا اللجوء على أصوله فإنه ظاهرة مؤقتة. يعود اللاجئ إلى بيته بعد أن تزول أسباب هروبه. أعرف الكثير من لاجئي تشيلي والبوسنة عادوا إلى بلديهم بعد أن استقرت الأمور فيهما. يراسلني البعض منهم ويدعوني إلى زيارته في بلاده. ما من لاجئ إلا ويعود بطريقة أو بأخرى إلى الأرض التي طُرد منها. وهي أرضه وأرض أجداده إلا الفلسطيني الذي سُرقت أرضه وتمت مصادرتها وذيل العالم جريمة نقل ملكيتها إلى غرباء قادمين من مختلف أنحاء الأرض بتوقيعه. عبر سبعين سنة من الشتات صار الفلسطيني يولد لاجئا. لم يختر لجوءه بل فُرض عليه كما تُفرض الصفات الورائية والعلاقات العائلية والانتماء العرقي والديني. قال لي فلسطيني في أحد بلدان اللجوء "هنالك فرق. كنتُ لاجئا من غير أن يكون لي خيار. أما اليوم فأنا أقدم أوراق لجوئي وأمهرها بتوقيعي".
في كل الظروف وتحت كل الضغوط لا يملك أحد أن يُسقط حق عودة الفلسطيني إلى أرضه. ذلك حق تكفله الشرائع والبداهة البشرية ولا تنكره القوانين. حتى الاعتراف بدولة إسرائيل انصياعا لمنطق القوة الذي مارسته الإرادة الدولية لا ينطوي على إسقاط ذلك الحق. ما قدمه الفلسطينيون من تضحيات عبر السبعين سنة الماضية رسخ ذلك الحق انطلاقا من صدق وعمق وتماسك الحكاية التاريخية الفلسطينية مقارنة بالحكاية الصهيونية التي استندت إلى كذبة "أرض من غير شعب لشعب من غير أرض". قدم الفلسطينيون من خلال نضالاتهم على جميع المستويات نموذجا للشعب الذي لا يُقهر. الشعب الذي لم تسحقه الجهود الهائلة التي بُذلت من أجل زواله. وهو الشعب الذي اخترق سردية لجوئه ليهب العالم أطباء ومفكرين وشعراء ومهندسين واقتصاديين واساتذة جامعة، كلهم من طراز رفيع.
ما كان صحيحا وما يجب الاعتراف به بعد حرب الإبادة التي شهدتها غزة أن العالم العربي كان قاصرا في فهم ظاهرة اللجوء الفلسطيني. وهو ما تُظهره بشكل مغطى مسألة الاعتماد على منظمة الأونروا في إدارة مخيمات اللجوء كما لو أن العرب كانوا عاجزين عن القيام بذلك بأنفسهم. وهو أمر تنفيه حقيقة أن العرب يملكون من الثروات الفائضة ما يمكنهم من خلالها أن يكتبوا تاريخا إنسانيا مختلفا لأجيال فلسطينية ظلت متمسكة بحق في العودة إلى أرضها. وهو حق قانوني لابد أن يكون مفتتحا لحل مشكلة، أهدر العرب الكثير من الثروات من غير أن يمسكوا بمفاتيحها. كان ذلك تاريخا من الأخطاء المتراكمة التي أثقلت القضية الفلسطينية بتبعاتها ودفع الإنسان الفلسطيني ثمنها. واحد من أسوأ تلك الأخطاء أن يكون المرء لاجئا على أرضه.