ميشال سار في 'الإصبع الصغيرة': هرم خوفو وبرج إيفل حالة واحدة
لقد تغير العالم كثيرا، لدرجة أن الشباب ينبغي أن يعيد اكتشاف كل شيء. إن المجتمعات الغربية، عاشت ثورتين: الانتقال من الشفوي إلى المكتوب، ثم من المكتوب إلى المطبوع. ومثلما كانت كل ثورة من الثورتين السابقتين، فإن الثورة الثالثة الحاسمة، ترافقت بتبدلات سياسية واجتماعية ومعرفية، إنها مراحل أزمة. ومن تطور التكنولوجيات الحديثة نشأن إنسان جديد؛ سماه المفكر والفيلسوف الفرنسي عضو الأكاديمية الفرنسية ميشال سار "الإصبع الصغيرة" وعنون به كتابه الذي ترجمه د.عبد لرحمن بوعلي الأستاذ بجامعة قطر، وفي ذلك إشارة إلى الطريقة التي بها ترسل الرسائل بواسطة الأصابع.
يقول سار في كتابه الصادر عن سلسلة كتب الدوحة "إننا نحن البالغين، قمنا بتحويل مجتمعنا من مجتمع مشهدي إلى مجتمع تعليمي، حيث تقوم المنافسة الساحقة، التافهة بكبرياء، بتهميش المدرسة والجامعة. وبالرجوع إلى زمن الاستماع والمشاهدة، الإغراء والأهمية، فإن وسائل اإلعالم سيطرت منذ فترة طويلة على وظيفة التدريس. إن معلمينا المنتقدين والمحتقرين والملعونين، لأنهم فقراء وسريون، رغم أنهم حطموا الرقم القياسي في نيل جوائز نوبل الحديثة، وميداليات فيلد، بالمقارنة مع عدد السكان قد أصبحوا الأقل استماعا إليهم، من جميع هؤلاء المعلمين المسيطرين الأغنياء والأكثر ضجيجا. إن هؤلاء الأطفال يعيشون- إذا- في العالم الافتراضي. فالعلوم المعرفية بينت أن استخدام الإنترنت، وقراءة الرسائل أو كتابتها بالإصبع، واستخدام الويكيبيديا، أو الفيسبوك، لا تثير الخلايا العصبية نفسها، ولا المناطق القشرية، مثل استخدام الكتاب، أو اللوح، أو الدفتر. هما يمكنهما التعامل مع معلومات متعددة في الوقت نفسه. ولا يعرفان، ولا يدمجان أو يجمعان كما كان يفعل أسلافهم. إنهما لا يملكان الرأس نفسه. فبواسطة الهاتف الخلوي، أصبحت لديهما إمكانية الوصول إلى جميع الأشخاص، وعن طريق الـ "GPS"، يمكنهما الوصول إلى كل الأمكنة، وعن طريق الشاشة يمكنهما الوصول إلى كل المعرفة، إنهما يطاردان فضاء طوبوغرافيا تجاوريا، في حين كنا نعيش في فضاء متري، محيل على مسافات. إنهما لا يعيشان في المساحة نفسها.
ويضيف "من دون أن نلاحظ نحن أي شيء، فقد ولد الإنسان الجديد، الإنسان الذي يفصلنا عن سنوات السبعينيات. َّ هو أو هي، لم يعد لديهما الجسم نفسه، والعمر المتوقع نفسه، ولم يعودا يعيشان في المكان نفسه، ولا يتواصلان بالطريقة نفسها، ولا يريان العالم نفسه، ولا يعيشان في الطبيعة نفسها، ولا يسكنان الفضاء نفسه. ولأنهما ولدا فوق الحافة، وكانت ولادتهما مبرمجة، لم يعودا ـ هما تحت الرعاية الملطفة ـ يخشيان الموت نفسه. ولأنهما ليس لهما الرأس نفسه التي كانت لوالديهما، أصبحا، هو أو هي، يعرفان بطريقة مختلفة. هو أو هي يكتبان بطريقة مختلفة، ولكي نلاحظ ذلك بإعجاب ينبغي أن نرسل، بسرعة، لا يمكنني البتة أن أقوم بها بأصابعي الغليظة، قلت أن نرسل رسائل قيرة بواسطة الإصبعين، لقد سميتهما، بكل اللطف الذي يمكن أن يعبر عنه أي جد، الإبهام الصغيرة والإبهام الصغير. هذا هو اسمهما، أجمل من الكلمة القديمة شبه العالمة كلمة طابعة.
ويرى سار أننا نعيش مرحلة مماثلة لفترة تربية "البابيديا"، حين تعلم الإغريق الكتابة وكيفية التحليل، ونعيش مرحلة مماثلة لعصر النهضة التي شهدت ولادة الطباعة وعهد الكتاب؛ وهي فترة لا تقارن مع ذلك، لأنه في الوقت نفسه الذي تتغير فيه هذه التقنيات يتحول الجسد، وتتغير الولادة، ويتغير الموت، الألم والشفاء، المهن، الفضاء، السكن، وجود الإنسان في العالم.
ويتساءل لماذا تثرثر الإصبع الصغيرة بين هرج ومرج رفيقاتها ورفاقها؟ لأن هذه المعرفة المعلنة، قد علم بها الجميع في السابق. كل هذه المعرفة موجودة، متاحة، في اليد، يمكن الوصول إليها عبر الإنترنت، والويكيبيديا، وأجهزة المحمول، ومن خلال أي موقع أو بوابة. إنها موضحة وموثقة ومصورة، وبدون أخطاء أحسن من أفضل الموسوعات. لم يعد أحد في حاجة إلى الناطق الرسمي القديم، إلا إذا ما حاول أحد ما ـ وهذا شيء نادر ـ أن يخترع. إنها نهاية عصر المعرفة.
ويوضح سار "استمعوا من الإصبح الصغير إلى اسم رمز خاص بهذا الطالب، أو هذا المريض، أو هذا العامل، أو هذا الفلاح، أو هذا الناخب، أو هذا المار في الطريق، أو هذا المواطن.. المجهول بالتأكيد، ولكن المتفرد. فناخب واحد أقل يحسب له حساب في استطلاعات الرأي، ومشاهد واحد أقل يحسب له حساب في نسبة المشاهدة، فالوجود هو كمية أقل من كيفية. تماما كما الجندي المجهول قديما الذي جسده يقع أمامنا. وتحليل حمضه النووي يفرده، فإن هذا المجهول، هو هنا، بطل عصرنا. إن الإصبع الصغيرة ترمز إلى هذه الهوية المجهولة.
ويقول سار "في أزمنة لا تنسى، أراد بعض الأبطال بناء برج عال معا. وقد قدموا من أراض متباينة، يتكلمون لغات غير قابلة للترجمة، ولم يتمكنوا من ذلك. فلا تفاهم فيما بينهم، ولا فريق عمل ممكن، ولا مجال لعمل جماعي أو بناء. وبالكاد خرج برج بابل من الأرض. ومرت الآلاف من السنوات. وعندما تمكن الأنبياء أو الكتبة في بابل، أو الإسكندرية من الكتابة أصبح العديد من الفرق ممكن الوجود، وبدأ الهرم في الانبناء، وكذلك المعبد والزقورة وأخيرا تم الانتهاء من كل ذلك ومرت الآلاف من السنوات. وذات صباح جميل، في باريس، كان هناك جمع من الناس سمي معرضا كونيا أعطى الوجود محاولة مماثلة. وفوق صفحة رسمت رأس خبيرة تصميما، وبعد أن اختارت المواد، حسبت نسبة مقاومتها، ووضعت الأقواس الصلبة التي وصل علوها إلى ثلاثمئة متر. ومنذ ذلك الحين وبرج إيفل يسهر على الضفة اليسرى لنهر السين.
ويتابع من الأهرامات المصرية إلى برج إيفل: الأولى بنيت بالحجر، والثانية بالحديد، أما الشكل العام فهو ثابت، ثابت كحالة، وثابت كدولة. إن هاتين الكلمتين ليستا إلا كلمة واحدة. إن توازن الستاتيك ينضم إلى أنموذج السلطة، فهو غير متغير عبر عشرة متغيرات واضحة، ودينية، وعسكرية، واقتصادية، ومالية، وخبراتية... وهو قوة يقبض عليها دائما مجموعة من الأفراد، في الأعلى، مترابطين بالمال، بالقوة العسكرية، أو بأجهزة أخرى خاصة بالسيطرة على قاعدة عريضة ومنخفضة. بين وحش الصخور والديناصور الحديدي، ليس هناك من تغيير كبير، الشكل نفسه يظهر أكثر تثقيبا وشفافية وأناقة باريسية، وتشابكا، وفي جميع الأحوال رأسه إلى الأعلى، وقاعدته واسعة.
ويؤكد إن القرار الديموقراطي لا يغير من شيء في هذه الترسيمة. لتجلسوا في دائرة، على الأرض، سوف تكونون متساوين، هكذا كان يقول الإغريق القدماء. وبوصفها ماكرة، فهذه الكذبة يبدو أنها لا ترى، سواء في الجزء السفلي من الهرم أو من البرج، مركز التجمع الذي يرسم على الأرض عرض قمة الهرم، والمكان تنزل منه قمته السامية. إنها المركزية الديمقراطية قالها الحزب الشيوعي قديما. وهو يكرر هذا الوهم المشهدي القديم، في حين كان ستالين وسييديس يسهران في المركز القريب، وهما اللذان كانا يخطفان، ويعذبان، ويقتلان. ونظرا لانعدام وجود تغيير حقيقي، فنحن أناس الأطراف، نفضل قوة بعيدة، في أعلى المحور، على هذا الجار المخيف. إن أجدادنا الفرنسيين قاموا بالثورة ضد الملك، الشعبي مع ذلك، أقل مما قاموا بها لإزالة البارون الشرير. خوفو، وإيفل، الحالة نفسها.