من محراب المسجد إلى لوحات الفن: رحلة إبداع الراحل حسن جلبي

الخطاط التركي الملقب بـ'شيخ الخطاطين' يُعدّ أحد أعلام الخط العربي حيث ترك بصمته في العديد من المساجد حول العالم ودرّس هذا الفن لعشرات الطلاب خلال مسيرة امتدت لأكثر من ستة عقود.

يُعتبر الخطاط والفنان التركي حسن جلبي أحد أعلام فن الخط العربي، وقد لُقّب بـ"شيخ الخطاطين" في العالم، لما تركه من بصمة في العديد من المساجد الكبرى في مختلف القارات، قبل أن توافيه المنية، الاثنين، عن عمر ناهز 88 عامًا في إسطنبول، تاركًا إرثًا فنيًا خالدًا.

وُلد حسن جلبي عام 1937 في قرية إينجي التابعة لبلدة أولتو بولاية أرضروم شرقي تركيا. وخلال سنوات دراسته الابتدائية، لم يقتصر تحصيله على القراءة والكتابة فحسب، بل حفظ القرآن الكريم بالكامل في سن مبكرة.

وفي عام 1954، انتقل جلبي إلى إسطنبول لمتابعة دراسته في العلوم الدينية، فالتحق بمدرستي "أوج باش" و"جينلي"، حيث درس اللغة العربية والعلوم الشرعية. وفي عام 1956، تم تعيينه مؤذنًا في مسجد مهرماه سلطان في منطقة أسكودار بإسطنبول.

وبعد الخدمة العسكرية التي أداها بين عامي 1957 و1958، بدأ العمل إمامًا في مسجد نصوحي محمد أفندي في منطقة أسكودار، لكن بعد الانقلاب العسكري عام 1960، غادر إسطنبول متوجهًا إلى قضاء يوسفلي في ولاية أرتوين التركية (شمال شرق)، حيث عمل مؤذنًا هناك.

وفي عام 1963، عاد جلبي مجددًا إلى إسطنبول، وبدأ العمل إمامًا في مسجد محمد سعيد أفندي في منطقة أسكودار، وبعد عام واحد، تم نقله إلى مسجد الشيخ، حيث خدم فيه لمدة 10 سنوات، قبل أن يتم تعيينه إمامًا في مسجد سلامي علي أفندي.

أمضى جلبي سنوات طويلة في إمامة هذا المسجد، إلى أن قرر التقاعد عام 1987، متفرغًا بالكامل لفن الخط العربي وتعليمه.

البداية بسن الرابعة والعشرين

انطلق حسن جلبي في رحلته مع فن الخط العربي في سن الرابعة والعشرين، وسعى منذ ذلك الوقت إلى تطوير مهاراته عبر تلقي الدروس على يد أشهر الخطاطين في ذلك العصر.

درس جلبي خط الثلث والنسخ على يد الخطاط حميد آيطاش، وتمرّن على خط التعليق (الفارسي) والرقعة تحت إشراف كمال باتاناي، وحصل على إجازة الخط بعد إتقانه هذه الخطوط.

سرعان ما تخطّت شهرة جلبي حدود تركيا، حيث برز اسمه عالميًا بفضل خطوطه التي بدأت تزيّن المساجد، والمجموعات الفنية الخاصة التي شارك فيها في أشهر المعارض الدولية.

وفي عام 1981، تم تكليفه بكتابة شعارات منظمة التعاون الإسلامي في جدة، ثم أوفد عام 1983 إلى المدينة المنورة للمشاركة في ترميم الخطوط داخل المسجد النبوي الشريف.

أول معرض

وفي عام 1982 افتتح جلبي أول معرض شخصي له في مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإسطنبول، ثم توالت معارضه الدولية، حيث عرض أعماله في كوالالمبور بماليزيا عام 1984، وفي عمّان بالأردن عام 1985، بدعوة من الأمير الأردني الحسن بن طلال.

وفي عام 1987، سافر إلى المملكة العربية السعودية لمدة عام، حيث تولى كتابة الخطوط الداخلية لمسجد قباء. وفي عام 1992، تلقى دعوة من المركز الإسلامي الثقافي في ماليزيا لإقامة معرض وتقديم ندوة حول فن الخط في كوالالمبور. كما افتتح عام 1994 معرضًا احتفاليًا بمناسبة مرور 30 عامًا على مسيرته الفنية في كوالالمبور بماليزيا.

رصيد حافل

بدأ حسن جلبي تدريس فن الخط العربي عام 1976، وخلال مسيرته، منح إجازة في الخط العربي لما يقارب 100 طالب من مختلف أنحاء العالم، مما جعله أكثر الخطاطين تخريجًا للطلاب بعد أستاذه حميد آيطاش.

ويضم رصيد جلبي الفني العديد من الأعمال في المجموعات الخاصة، إلى جانب مشاريعه الكبرى التي تشمل الكتابات المُرمّمة داخل قبة مسجد السلطان أحمد في إسطنبول، وكتابة قبة مسجد الخرقة الشريفة في إسطنبول، وكتابة أجزاء من مسجد الجمعة ومسجد القبلتين والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة.

ومن أعماله الخطوط الداخلية والخارجية لمركز الطب الإسلامي في الكويت عام 1986، ونقوش جدارية لأحد المساجد في هولندا، والكتابات الداخلية لمسجد فاتح بمدينة بفورتسهايم (ألمانيا) عام 1991، والخطوط الجدارية لمسجد الجمعة في جوهانسبرغ (جنوب أفريقيا) عام 1997، والكتابات الداخلية لمسجد الجمعة المركزي في ألماتي (كازاخستان) عام 1999.

ومن المفارقات أن اسم حسن جلبي، يتطابق مع اسم الخطاط العثماني حسن جلبي، الشهير في عهد السلطان سليمان القانوني، الذي كتب الخطوط الداخلية في مساجد السليمانية، والسليمية، ورستم باشا، مما يعكس التشابه بين الشخصيتين في الاسم والمجال الفني.

"شيخ الخطاطين"

واظب جلبي على شحذ مسيرته الفنية بالعديد من المشاريع الكبرى، ومنها كتابة الخطوط الداخلية لمسجد جامليجه الكبير في تركيا، ومسجد سري سندايان في ماليزيا.

لم يُفارق اليراع (قلم الخط المصنوع من القصب) يد حسن جلبي طوال 60 عامًا من مسيرته في فن الخط العربي، ونظرًا لبراعته الفريدة في فن الخط، حصل جلبي على العديد من الجوائز، أبرزها جائزة نجيب فاضل التقديرية بتركيا، والجائزة الكبرى للثقافة والفنون من رئاسة الجمهورية التركية.

وقد أكسبته مهارته وشهرته العالمية لقب "شيخ الخطاطين"، حيث يُعتبر أحد أعظم الخطاطين في العالم الإسلامي في عصره.

وفي مقابلة معه عام 2019، علّق جلبي على هذا اللقب قائلًا: "أشكر الناس على محبتهم وتقديرهم لي، ولكنني لا أرى نفسي شخصًا وصل إلى مرتبة خاصة بسبب هذا اللقب".

وأضاف: "ما قمت به هو مجرد خدمة لهذا الوطن وثقافته، وهذا واجب كمواطن. خدمة الوطن هي مسؤولية كل فرد، وبما أنني وُهبت هذه الموهبة، فقد استخدمتها في خدمة المجتمع. لذلك، لا أعتبر نفسي مميزًا عن غيري بسبب هذا العمل".

وفي عام 2020، حوّل فنان الغرافيتي محمد أمين تركمان إحدى روائع حسن جلبي إلى عمل فني مميز حيث رسم عبارة "هذا من فضل ربي" من الآية 40 من سورة النمل بخط جلبي على جدار تبلغ مساحته 130 مترًا مربعًا مقابل مسجد إسكندر باشا في مدينة طرابزون.

واستخدم تركمان في هذا العمل 6 ألوان مختلفة، و20 كيلوغرام من الطلاء، واستغرق إنجازه يومين ونصف ليخرج تحفة فنية تجمع بين فن الخط العربي والغرافيتي. **

 "عمر في درب الخط"

وفي 27 فبراير/شباط 2019، تم عرض الفيلم الوثائقي "عمر في درب الخط" الذي يتناول حياة الخطاط حسن جلبي، لأول مرة في مركز باغلارباشي للمؤتمرات والثقافة بمدينة إسطنبول.

واستعرض الفيلم الوثائقي رحلة جلبي منذ طفولته وحتى بلوغه قمة فن الخط وذلك من خلال شهادات أفراد عائلته، وطلابه، وأصدقائه المقربين، ليكون بمثابة توثيق لمسيرة فنان ترك بصمته في التاريخ الإسلامي والعالمي.