'مراكب الغياب' رواية تعري تشوهات النخب وانفصالها عن الواقع!
في روايته "مراكب الغياب" الصادرة حديثًا عن دار روافد للنشر والتوزيع، يطرح الكاتب الروائي المترجم المصري أشرف الصباغ رؤيته لواقع ممزق وملغوم بقضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية مزمنة، فرضت نفسها على المجتمع، وقد ألقى هذا الواقع المرير بظلاله على النخبة المثقفة التي اكتفت طوال الوقت بترديد مقولات جوفاء، أما الغالبية العظمى المقهورة فارتضت بمصيرها وتعاملت مع ظروفها بواقعية أكبر.
تدور أحداث الرواية في القاهرة، وقد أجاد الكاتب في وصف المكان الروائي ومنحه صوتًا خاصًا، وبرزت مشهدية السرد وكأنها لوحات وصور متلاحقة للمقاهي والبيوت والمقابر والعوامات، والبارات والشقق المفروشة وأسطح البنايات القديمة، وببراعة ودقة الوصف يحفر الكاتب بالكلمات في عمق ذاكرتنا البصرية التي تقاوم النسيان أو الضياع، بفعل التشويه والهدم الذي تتعرض له القاهرة، بسبب التوسع العمراني وتعاقب السلطات التي قد ترى في شق طريق أو إنشاء كباري أهم من مباني ومقابر أثرية عمرها قرون، يتم هدمها بجرة قلم!
عبثية واقع مأزوم
تنبع خصوصية المكان كونه ملتقى للمراكب ولشخصيات العمل، وشاهدًا على تصرفاتهم وأقوالهم وأفعالهم على مقهى في شارع، أو حارة، أو زقاق ضيق في انتظار المراكب التي يردد رجب الصافوري الموظف بالإذاعة والتليفزيون، "أصبر، المراكب جاية"، في البارات أو بغرفة فوق سطح منزل قديم متهالك، أو عوامة مشبوهة في النيل، أو وسط المقابر، هذه الأماكن تبدو المظلمة الباهتة، تعكس الغياب وتكرس انفصال الشخصيات عن الواقع.
برع الصباغ في وصف المكان بدقة تكاد تسمع معها صوت المكان داخل جدارية سردية تم إنضاجها على مهل، وبتدفقات خطابية مُحكمة، حيث يشيد فيه الكاتب عوالمه الفريدة على امتداد السرد، وفي كل حكاية من داخل عوالم الليل، بدت شخصيات الرواية مجرد أشباح بشرية، أو جثثًا صامتة أحيانًا، وناطقة طوال الوقت بأحاديث جوفاء حنجورية، منفصلة تمامًا عن الواقع، في تأسيس مبكر ومنذ السطور الأولى للرواية لفكرة الغياب، ومن أجواء الرواية نقرأ ونلمح سخرية الكاتب من هلامية أفكار سامح علوان وعبثيته في حواره مع أم حافظ:
وبطبيعة الحال، لم تكن تنسى أن تتفحص وجهي يومياً، وتخيط الأزرار المقطوعة في قمصاني، وتقول لي بلهجة آمرة "لم يعد لدينا لبن، ولا يوجد صابون أو رابسو ولا حتى عيش". وأنا طبعاً كمفكر عضوي ووجودي، كنت ألعن سنسفيل أبيها لأنها تقطع على مكالماتي الهاتفية المشحونة بالنقاشات البناءة، والأفكار التي ستنير العالم وتنهي الظلم والطغيان وإهانة المرأة والطفل، والدروس العظيمة من تراجيديا سبارتاكوس، وبطولات بحارة أسطول بحر البلطيق إبان الثورة البلشفية والحرب الأهلية في روسيا، وبداية عصر جديد لتخليص العالم نهائياً من الظلم والطغيان، والقضاء على الإمبريالية والرأسمالية العالمية، وإشاعة العدالة الاجتماعية والرقابة الشعبية. ومن جهة أخرى، بذل الجهود لتحقيق الديمقراطية العالمية والتعددية القطبية اللتين ظهرتا في السنوات الأخيرة في مواجهة النيوليبرالية.
جيل ضائع
يقودنا ذلك إلى شخوص العمل، وهم مجموعة تظن نفسها "محور الكون"، صُنّاع التغيير بالشعارات الحنجورية. هذه النخبة المثقفة، التي تضم أعضاءً في الأحزاب واللجان الحزبية وبعض الكتاب والصحفيين مثل عادل محجوب، والسارد البطل سامح علوان، والأكاديمي صابر مختار، ورجب الصافوري، ونور خطاب، وبثينة عثمان، وممثل الصفوف الثانية والثالثة العاطل رضا الجمال، هي شخصيات، لا تشتبك مع الواقع، تعيش على هامش الحياة وفي ظلامها، لكنها ترى في ذواتها المتضخمة خلاص العالم وحل قضاياه ومشكلاته المُعقدة.
في هذا السياق، تؤسس الرواية لعبة من المفارقات المجازية التي تحمل في طياتها تساؤلات حول مآلات هذا الجيل الضائع، الذي لم يحقق لنفسه شيئًا ولا للبلد، ولم يترك للجيل الذي يليه أي أثر يُذكر سوى الفشل، حيث يواجه أبطال الرواية عالمًا يطغى عليه الغياب، من غياب البوصلة والوعي، إلى الغياب المادي للأحلام والأهداف حتى البسيطة منها، مثل تأسيس بيوت وأسر وإنجاب أطفال، حالة عجز متكاملة تبدو فيها اللقاءات عابرة، كما المراكب، وبما يشبه قبض الريح وملاحقة السراب والدوران في الفراغ الذي يكرس لفكرة الغياب.
الخواء
النخبة في هذا "الجيل الضائع" داخل الرواية مجرد خواء، أجاد الكاتب في بناء شخوص العمل نفسيًا، وماديًا (جسمانيًا) إلى حد كبير. والحقيقة أن هذا البناء جاء تصاعديًا دراميًا، مما يعكس تطور كل شخصية وتحولاتها. فشخصية سامح علوان، نموذج صارخ لأوهام النخب المثقفة الفارغة، في انفصالها عن واقع الغالبية المقهورة، وترمز له خادمته أم حافظ السيدة البسيطة وعنها يقول:
في ساعات الصفاء والرضا، كنت أجلس لأحكي لها ما يجري في هذا البلد، لأنها جاهلة بما يدور في كواليس السياسة والصحافة ومحطات المترو والقطارات والمواصلات العامة. وكانت تمنحني كل الطاقة اللازمة للحكي، وهي تنظر إلى بعينين مليئتين بالرغبة في المعرفة. فأحكي لها عن كل شيء، بما في ذلك أهمية مكالماتي الهاتفية في الشؤون الدولية، ومع من أتحدث من أصدقائي المفكرين والتنويريين من أمثال رجب الصافوري ورشاد عامر ورضا الجمال ونسمة عثمان وماذا جرى في أفريقيا الوسطى وبنجلاديش و بخاری و سمرقند. يأخذنا الحكي، فأقص عليها حكايات الدكتور مصطفى محمود عن حصى الكلى وتحوله إلى طحينة، وتداعيات حرب فيتنام والحرب الباردة وأزمة الكاريبي. وأشرح لها أهمية تحرير المرأة وتطوير التعليم، وضرورة التأمين الصحي، وقيمة إشارات المرور، وفوائد الاستيقاظ مبكراً، وجدوى دراسات الجدوى، وخطورة الفساد على مقدرات الأمة.
كل ما في الأمر أنني كنتُ دائماً أستيقظ بعد الظهر، وهي كانت تصحو من النجمة.
رمزية المراكب
الرواية واقعية اجتماعية بامتياز، لا تخلو من اسقاطات سياسية، تغلفها سخرية لاذعة هي تيمة رئيسة في معظم كتابات الصباغ، حيث تنساب مشاهد سردية مطوّلة تشعرك بالعبثية واللاجدوى، في واقع تحكمه تناقضات حادة، حيث يستغل مينا أندرواس شريكه رشاد عامر لتحقيق مكاسب شخصية، بافتتاح فرع آخر لصالون الحلاقة والتجميل في السر، ولا يخلو اسم الصالون "مصر الحلوة" من دلالة في مغازلة السلطة، وتناقضًا مع كل القيم والشعارات المعلنة!
الرمزية والإسقاط والسخرية في السرد تقنيات أجادها الكاتب، تحرض القارئ على التفكير والتفاعل والسؤال: ما المراكب؟ ولماذا الغياب؟
يمثّل الجيل بأسره في هذه الرواية صورة المراكب، سواء في حركتها أو في سكونها. جيلٌ على وشك الرحيل، فقد بعض رموزه فجأة، دون أثر يُذكر، تمامًا كمن طفا جسده فوق صفحة النيل، أو كمن سقط فاقدًا للوعي ووصل إلى المستشفى غريبًا وحيدًا، مفارقًا للحياة، وهذه هي المراكب التي غادرت ولن تعود أبدًا.
في المقابل، هناك مراكب تائهة، مثل سامح علوان الذي، ، يستفيق من غيبوبته، في نهاية الرواية ويسترد وعيه لكنه لا يعرف إلى أين يذهب: ومن أجواء الرواية نستشعر تصاعد تحولات الشخصية وتطور بنيتها السردية كما في صفحات 69 و 132:
جملة أم حافظ التي قالتها بشكل عفوي: يابني الناس عايزة تشخ وانت بتكلمهم في فوكو وموكو وسعيد تلك الجملة التي سقطت فوق رأسي مثل الماء البارد أو مثل حجر أعاد إلى الوعي هل كنت بحاجة إلى جملة من عدة كلمات لكي أستيقظ، وأفتح عيني لأرى وجهي الحقيقي في المرأة أرى الهوة السحيقة التي ابتلعتني السنوات طويلة؟ 69
بدت الشوارع والأماكن غريبة وموحشة وكأنني أراها لأول مرة في حياتي. لم أجرؤ على العودة إلى البيت. فأم حافظ راحت ولم يعد ينتظرني أحد هناك. وقفت في محطتي الأخيرة، بميدان التحرير، في وسطه تماماً. حدقت في الفراغ، رفعت رأسي نحو الفضاء الواسع مثل قبطان تائه، بقي وحيداً على مركبه تحت جنح الليل، بعد معركة طويلة مع الأمواج والرياح والظلام وشياطين البحر، يبحث عن طريق. 132
وهناك مراكب راسخة، لها جذورها ووجهتها الواضحة، مثل مديحة التي ترفض زواجًا يقيدها ويفقدها مصدر رزقها، مدركة بوعي أنها المصدر الأساسي لأكثر من نصف دخل الُغرزة التي تديرها عائلتها.
وكذلك أم حافظ مركبٌ راسخٌ بوعيها لدورها في مجتمعها، فهي حين تناقش سامح تكشف خواء النخب المثقفة وترد عليه حول المرأة التي لا يريد تسليعها أو إقصاءها، تفعل ذلك بوعي قائلًة: "أنت تصدمني بكلامك عن المرأة... أيّ امرأة وأيّ زفت؟! المرأة طافحة الدم في المواصلات وأنت تتحدث عن تسليع وتشليخ المرأة؟"!
أما أثرها وبصمتها بعد مماتها، فيتجلى في التحول الكبير الذي يطرأ على سامح في النهاية، حينما يطرح على نفسه سؤالًا جوهريًا: هل يسود فوكو وإدوارد سعيد ويقودان المجتمع، أم أن عامة الشعب، أمثال أم حافظ ومديحة، هم من يشكلون مساره الحقيقي؟
المراكب، في كل سياق من الرواية، تحمل دلالات مختلفة؛ فهي الانتظار، الأمل، الرجاء، الطموح، الحب، وربما الأحلام التي رحلت بلا عودة أو التي هاجرت إلى مستقبل مجهو، وهي أيضًا المزاج الذي يجمع شخصيات الرواية، والفراق، والموت الذي يكرّس الغياب. طوال الوقت، تدور نقاشات الشخصيات الرئيسية حول قضايا كبرى تم احتقارها بتحويلها لمجرد شعارات وأقوال جوفاء، بدءًا من مشكلات التعليم في بنغلاديش، إلى حقوق المرأة، والتأمل وتكاثر الحيوانات وعبادة الأرانب فوق الجبال، وزراعة البن في البرازيل، والسلام والأمن العالميين، بينما يعاني هؤلاء أنفسهم من الجوع والعوز، عاجزين عن تأمين لقمة تسد رمقهم أو حتى سيجارة حشيش أو زجاجة بيرة تغيّبهم عمدًا عن واقعهم المرير.
وتتصاعد دراما النص في تعرية شخصيات الرواية وكشف تناقضاتها العميقة، فهذه الشخصيات الجائعة في جوف الليل لا تجد ما يسد رمقها فتسرق أطعمة ومعلبات من مخزن للمعونة الأميركية، ويهتف أحد أبطال العمل مرددًا: "تسقط أميركا وتعيش المعونة الأميركية!"، في تعبيرٍ ساخر عن الانتهازية الصارخة التي تمارسها هذه النخب، وعن الفجوة الهائلة بين الشعارات والممارسات، فالغاية تبرر الوسيلة، حتى لو كانت الوسائل غير مشروعة.
البشر مراكب تروح وتجيء، تغيب وتعود، لكن أكبر ما تثيره الرواية هو الغياب الطوعي والتغييب العمدي للذات فيما يشله الهروب، عبر الخمور والحشيش والمخدرات، والقطيعة التامة مع الواقع، وفي ظل هذه الظروف، يمارس الأفراد الزيف، التضليل، تكرار الشعارات الجوفاء، حتى يصبح الواقع مريرًا حد العبث؛ فهذا يخطف مشاعر ويهرب، وهذا يتزوج ويفارق، ومن أجواء الرواية نقرأ:
لم يفرق رجب أبداً بين سلفي أو إخواني، ولا بين يساري أو يميني ولا مسلم أو مسيحي. كان الجميع في نظره مشروع مراكب، إما آتية بالخير أو راحلة بالشر، كما نقرأ: الدنيا مقلوبة والبلد ينهار!! لن أحكي لك عن ميدان الجيزة نفسه، وهو الذي أصبح عبارة عن جبلاية مليئة بالقرود والنسانيس والحمير المختلطة بالكلاب والقنافذ والثعالب والأرانب.. لا أحد يعرف أين السيارات وأين الناس وأين الحيوانات. كل شيء متداخل ومختلط، ولا أحد يعرف يد مَنْ في جيب من، ولا مَنْ يركب مَنْ.. لا إشارات مشاة ولا إشارات مرور ولا أرصفة.
الدهشة وتأسيس الفن
ينتصر الصبّاغ لخطاب يصنع الدهشة وينتج الفن، بقدر عنايته الفائقة باللغة الحاملة لهذا الخطاب الكاشف لأبعاد شخصيات الرواية، باستثناء شخصية وحيدة استدعاها جاهزة وهي شخصية الدكتور مصطفى محمود، لغرض رفض منطقها، وإبراز المفارقة الساخرة بين الأوهام وكرامات الدراويش والبهاليل، وبين الأسس العلمية الراسخة.
مرت شخصية سامح علوان بتحولات في الوعي، حيث انتقل من وعي متعالٍ ومنفصل عن عامة الشعب إلى وعي مرتبط بالناس ومصائرهم. وعلى الرغم من تفاعله مع تطورات أحداث الرواية، فإنه لم يمتلك الأدوات الحقيقية لإحداث تغيير فعلي. ليطرح في النهاية سؤالًا جوهريًا: هل يجب أن يتصدر ميشيل فوكو وإدوارد سعيد هذا الفضاء الاجتماعي الممزق، أم أن يكون لأشخاص مثل أم حافظ ومديحة وآخرين دور في قيادته؟
هذا هو سؤال التنوير الذي يتمحور بين وعي نوعي مرتبط بالنخبة، وواقع شعبي متراكم عبر آلاف السنين من الخبرة والمعرفة والحكمة. أين نقف نحن بين هذين الجانبين؟ وعلى أي طريق يمكننا أن نسير؟ وهل توجد معادلة تتيح الجمع بينهما؟
الغياب والتضليل والتغييب سيطر على أبطال الرواية، فهم يعيشون في حيرة دائمة، حيث يتحدثون عن الأجيال القادمة، لكنهم أنفسهم عاجزون عن إنجاب الأطفال رغم تعدد علاقاتهم، وحالات الزواج والفشل والهروب، لهذا بدى هذا الجيل الضائع أمام طوفان من المشكلات المعقدة، وما يطرحه في الرواية ليس حلولًا، بل مجرد جرس إنذار لمستقبل مرعب وغامض.
تطرح الرواية قضايا اجتماعية متعددة، من بينها قضايا المرأة، والصحة، والأحزاب وتكوينها وأدوارها، والتناقضات الحادة المغلفة بسخرية لاذعة بين القيم المعلنة على لسان شخصيات الرواية وسلوكياتهم في واقع عدمي، يمكن أن نلمس ذلك في مجتمعات القاهرة وبيروت وبغداد والشام واليمن وعموم العالم العربي.
ومع تصاعد السرد وتشابك عوالمه وحكاياته، نجد أننا أمام جيلٌ لم يتمكن من تقديم أي إضافة حقيقية للحياة، جيلٌ غير قادر على محاورة الآخر، سواء كمثقف أو كمفكر عضوي، إذ فشل في التواصل مع الآخر، أو الشعور به وبأبسط احتياجاته، مثل الرغبة في دخول الحمام لقضاء الحاجة، وهو ما يعكس التجسيد العميق للغياب!
أما فكرة المثقف العضوي الذي يناصر قضايا المرأة ويدّعي حبها، فهي تبدو مجرد شعارات جوفاء، إذ يتمرد البطل الراوي ويطرح يطرح تساؤلًا جوهريًا: ماذا قدم هؤلاء المثقفون فعلًا؟ وكيف أفادوا المجتمع؟ فهم في الحقيقة لا يقدمون سوى الضجيج، والمقولات الرنانة، دون أن يكون لها أي أثر ملموس في تغيير المجتمع، أو حل قضاياه، وتلك قمة الغياب، الذي صنع عنوان الرواية!
مواجهة الذات!
في مونولوغ ذاتي لسامح علوان يعري أشرف الصباغ جيل بأكمله، فيقول على لسان بطل الرواية:
لكنني كنت حائراً ومضطرباً، لا أستطيع إصدار أي حكم أو تقييم. تعيدني كل حكايات نسمة عن نورا إلى أم حافظ وحكاياتها. تذكرني بكلماتها التي صفعتني: يا ابني الناس عايزة تشخ، وأنت بتكلمهم في فوكو وموكو وسعيد". ولكن هل يجب أن نصمم العالم فقط وفق أولويات هؤلاء الذين يريدون دخول الحمام، ونترك فوكو وسعيد؟ هل يمكن أن يحتل فوكو وسعيد المشهد كاملاً ونخلي لهما ولغيرهما الساحة، ونؤجل دخول الحمامات؟ هل يجب أن يقود الثورة أبناء الطبقات الدنيا الذين تعلموا وحصلوا على نصيب من الوعي والرؤية باعتبارهم الأبناء الشرعيين لأفكار المساواة والعدالة الاجتماعية، أم يجب أن يحكمنا أبناء الشريحة العليا من الطبقة الوسطي ونخب الطبقة العليا باعتبارهم الأكثر تمرساً وقدرة، والأكثر امتلاكاً لأسرار اللعبة التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم؟ هل المسألة بكل هذه البساطة والوضوح، وهل هناك أصلاً مساواة وعدالة اجتماعية؟ إذاً، فأين مكان الذين يحبون الدولة ويعتبرونها أهم من الشعب، مثل عادل محجوب؟ وأين مكان الذين يرون أن الأدعية والأوراد تفتت حصى الكلى، مثل مصطفى محمود؟ وأين مكان ولي النعم سيدنا البروفيسور منصور الفيل ومينا أندراوس، ورجب الصافوري، ومدام ميرفت، وأمثال أم حافظ ومديحة؟
وبسبب هذا الجيل الفاشل الذي تكلس عبر الزمن، تحولت الرواية إلى علامة استفهام كبرى: هل سيعيد الجيل الجديد الأخطاء نفسها، أم أنه سيبتكر أخطاءه الخاصة؟ ففي نظر الصبّاغ، الأجيال ما هي إلا مراكب تسلم بعضها البعض، تبحر في عقولنا، أفكارنا، شوارعنا، بحارنا، ومدننا، وقد تحمل البشرى والأمل أو تغرقنا وتغرق بنا وتختفي بلا أثر، إلى غير رجعة!