رواية 'خلف الحجب' من ظلمة الكهف إلى معراج نحو السماء
راود سؤال الحقيقة الإنسان منذ القديم، وكانت الفلسفة أداة بحثه الأولى قبل أن تتطور عديد العلوم والمباحث الأخرى. وواجهت الفنون والآداب هذا السؤال الأزلي: مسرحًا، وشعرًا، وروايةً في أساليب فنية متنوعة ومراوغة. ولم تخش الروائية اللبنانية/المصرية مريم هرموش الارتحال في متاهات الحقيقة، بل خاضتها بشجاعة فائقة، مشيّدةً في روايتها "خلف الحجب" (1) عالمًا تخييليًا عجائبيًا تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة وتحتدّ المفارقات، يدخله القارئ وحيدًا ليكابد مع السارد حيرة السؤال أمام كثافة الحجب، تائهًا بين العوالم المتقابلة، بين الأحلام والكوابيس، بين الظلام والنور، والكشف والحجب.
هل وصلت الشخصيات الروائية بتحولاتها المكثفة إلى كشف سرّ الوجود؟ أي جماليات يمكن أن تنسجها الرواية وهي تراود الفلسفة وتستدعي عوالم العجيب؟ وهل سيستطيع القارئ تجاوز ظلمات "الحجب" ليعرج إلى سماء الحقيقة؟
الشخصيات وتحولاتها في عالم عجائبي:
تنهض "الأنا" في رواية "خلف الحجب" بدور السارد، ترصد حالاته وهواجسه، ترسم حيرته وشكه وقد أرّقه سؤال المعرفة. فالسارد، كما يصف نفسه، ليس سوى "باحث عن الحقيقة، تتوق نفسه أن تنهل من بحور المعرفة". تتوالد في الرواية حيرته وشكوكه، ورفض ما يسمعه من عالم القرية التي كان يعيش فيها وما يرويه أهلها من حكايات وأساطير حول شخصية "المعمّر". ويسهم حدث اختفاء حبيبته "شمس" يوم زفافهما في حدّة القلق، ليغدو السؤال الأهم هو حقيقة ذاته التي أصبحت غريبة بالنسبة إليه: "كم أشتاق إليها وكم أشتاق إلى نفسي التي أصبحت غريبة عني". تمتدّ الحيرة من الواقع الحسي إلى عالم الأحلام والكوابيس، تراوده في عالم الظلام، وفي مدن معلّقة بين الأرض والسماء، قبل أن تصل الذات إلى فضاءات أخرى تتلاشى فيها المسافات والأزمنة.
ويبدو العجائبي في الرواية خيارًا فنيًا عمدت إليه الكاتبة لنحت صور الشخصيات ولرسم عوالم تخرق فيها قوانين الطبيعة، فيقف القارئ مترددًا بين قبولها ورفضها باعتبارها تقوّض الواقع ومقاييسه. فقد وظّفت مريم هرموش العجائبي في تحديد ملامح شخصية "المعمر"، فكان أقرب إلى الشخصية الأسطورية، يراه أهل القرية "شخصية خارقة يصورونها تارة بطلًا منقذًا نصيرًا للضعفاء، وتارة وحشًا كاسرًا". وقد جعل من قمة الجبل ملاذًا آمنًا على مرّ العصور. هو كائن يتجاوز حدود الزمان والمكان، ومع ذلك يلتقيه السارد ويحاوره ويتسلم منه المفتاح الذي سيكون أداته في طريق المعرفة. ولا تقلّ "سيدة النهر" غموضًا عن المعمّر، وهي التي تعرّف نفسها قائلةً: "أنا ابنة الظلام التي حجبت خلف ستار الزمان. وحبيبتك شمس هي ابنتي. ابنة النور والظلام".
أما "شمس"، حبيبة السارد، فقد سحرت أهل القرية بجمالها وثراء خيالها، وزادها حدث اختفائها غموضًا. وتراوحت صورتها بين الكائن البشري والكائن النوراني المطلع على ما تخفيه الحجب. وهو ما يدفع للسؤال: إن كانت الشخصيات في الرواية نماذج بشرية تحيل على واقع ما، أم هي رموز واستعارات لأسئلة الإنسان الوجودية والفلسفية في كل زمان؟
سؤال الحقيقة بين الفلسفة والتصوف:
في الرواية عديد الاستعارات والرموز، ولعل أهم استعارة يمكن رصدها هي "كهف أفلاطون"، تلك التي ترسم رحلة الإنسان بين الوهم والحقيقة، أو رحلة التعلّم التي يخوضها لفك قيوده والتحرر من ظلمة الجهل ومن العالم المحسوس الذي سُجن فيه الناس (الكهف)، قصد معانقة عالم الأفكار والحقائق، ثم ليعود مجددًا إلى الكهف ساعيًا لنشر الحق والخير.
ونستشف من عناوين فصول الرواية إحالات إلى المراحل الأربعة في قصة الكهف، وهي تتصادى مع المراحل التي سيعيشها السارد في مغامرته الوجودية. حيث تقدّم الفصول الأولى حياة القرية في ظلمات الجهل وأساطيرها مع المعمّر: "تعودنا في قريتنا أن نحمل كل خيباتنا على الغيبيات والأساطير التي توارثناها". ليعيش السارد بعد ذلك التحول الأول (العبور إلى عالم الأحلام)، فتبدأ رحلة البحث ومحاولته تصيّد الحقيقة خارج القرية (خارج الكهف). يعلو ضجيج الأسئلة في رأسه رغم توفر بعض مفاتيح المعرفة (رمزية المفتاح الذي تسلمه السارد من المعمّر). ورغم الأضواء الساطعة في نهاية النهر وعبوره إلى عالم الأحلام، تبدو الرحلة لانهائية وشاقة، فكلما اتضحت الرؤية يعود السؤال أشد إلحاحًا وغموضًا: "أيّ حقيقة تلك التي أبحث عنها وكل حقيقة تطوي بداخلها حقيقة أخرى غائبة؟".
وتتمثل المرحلة الرابعة في قصة الكهف (أفلاطون) في العودة إلى الكهف والعمل على نشر الحقيقة التي تم الوصول إليها خارجه. كما يعود السارد في رواية مريم هرموش إلى القرية بعد رحلة طويلة خارجها، غير أنه سيكون آنذاك عاجزًا عن هداية أهل القرية إلى عالم الأحلام، بل سيعجزون حتى عن رؤيته: "كيف لي أن أجعلهم يبصرون كم هو ضيّق هذا العالم الذي يحبسنا خلف أسواره؟".
لقد صورت رواية "خلف الحجب" مغامرة الإنسان الوجودية في بحثه عن الحقيقة وماهية الوجود، فكانت مغامرته فردية تحمل الإنسان تبعاتها وأعباءها. منطلقها فهم الذات: "حين تعرف نفسك تعرفني". غير أن مآلها يبقى غامضًا. فمغامرة اختراق الحجب لم يسعفها طريق العقل المجرد بالجواب، ولا نجحت الفلسفة في فكّ ألغازها، وهو ما حوّل هذه الرحلة في نهاية الرواية إلى تجربة "روحية" صوفية قوامها العشق والمحبة والفناء في المحبوب، أو كما يراها التفتازاني: "الفناء في الحقيقة الأسمى والعرفان بها". فحين يعجز العقل عن إدراك اللامتناهي، ويفقد الإنسان ثقته في الحس والعقل، لا يسع الكائن إلا البحث خارج الحس في ضرب من المعراج الصوفي إلى عالم تتلاشى فيه الحدود. وهو ما أفضت إليه مغامرة السارد. يقول في نهاية الرواية وهو يرى المفتاح يرتفع عاليًا: "وأنا أتبع أثره كأنني أتسلق سلمًا في السماء"... "تلاشت أمامي المسافات كأني قد طويتها في لمحات وأصبحت كأني أوجد في كل الأمكنة والأزمنة في لحظة واحدة" (ص163).
في جماليات السرد الفلسفي والحكي الصوفي:
يقوم السرد في رواية "خلف الحجب" على رموز واستعارات ومفارقات تنسجها اللغة كما نراها عند المتصوفة الذين "يستخدمون المفارقة إما لتعزيز الجمال أو الشعر في لغتهم، أو من أجل جعل القارئ يتوقف ويفكر" (2). وهو ما يجعل القارئ في حالة شوق دائم للوصول لما تخفيه الحجب... فإذا هو أمام حبكة تستوحي الحكي الصوفي، وسردية لا تتنكر للواقع بل تمتح منه ومن عوالم ما وراء الواقع، مستثمرة العجائبي وطاقة التخييل الخارقة. ورغم أنها تستدعي نصوصًا سابقة، فالأسماء في الرواية دالة بإحالاتها التاريخية واللغوية. منها اسم "شمس"، حبيبة السارد في الرواية، دالًا على نور المعرفة، ومحيلاً على الشاعر "شمس الدين التبريزي"، المتصوف الذي يرى أن "الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب، وأن معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله".
كما تلتقي عديد الرموز في رواية مريم هرموش مع رموز ميخائيل نعيمة في روايته الفلسفية "اليوم الأخير"، منها الرموز المادية (النهر والمفتاح...) ومنها بعض الشخصيات كالمعمّر في "خلف الحجب" واللامسمّى في "اليوم الأخير". بل إن بنية الحكاية أو مغامرة موسى العسكري في رواية نعيمة لا تختلف كثيرًا عن مسار رحلة السارد في "خلف الحجب"، بدءًا من حيرته وسعيه إلى فهم الذات ومحاولة كشف الحجب، إلى حد تجاوز الثنائيات والالتحام بالكون حيث لا حدود للزمان والمكان.
على أن ما يميّز رواية مريم هرموش هو قدرة الكاتبة على توسيع آفاق التخييل وتوليد فضاءات الدهشة وعوالم العجيب. فلا يسع المتلقي إلا الوقوع في أسرها والاندماج فيها، في لغة شعرية ذات جمالية عالية. يعيش القارئ مع السارد في الرواية رحلة بحث ومغامرة وجود، عبر حكي يراوح بين تهويمات الخيال وأوجاع السؤال، ويتأرجح بين إشراقات الروح وخيبات العقل، بين وضوح الأفكار وضبابية الرؤية والطريق. تعبث الكاتبة بالمتلقي وترمي به في مخالب الشك في قدرته على الفهم، مراوحة بين الكشف والحجب... دون أن يلقى الطمأنينة التي توحي بها النهاية.
الإحالات: 1- مريم هرموش: خلف الحجب، دار بدائل للنشر، القاهرة، 2023
2- ولتر ستيس: التصوف والفلسفة، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مؤسسة هنداوي، 2017، ص 270