'عطايا الأربعين'!

كتاب حسام مصطفى إبراهيم يشكل رحلة صادقة في أعماق النفس والحياة يسرد فيها صاحبه تأملاته في الحب، الألم، الوقت، الاكتئاب، والموت بلغة إنسانية حية وعميقة تمزج بين الفصحى والعامية ويوثق مشاهد وتجارب بشرية تمس القلب بأسلوب بسيط لكنه نافذ.

حسام مصطفي إبراهيم كاتب شاب في أوج نضجه، يملك ناصية اللغة والحلم معاً، يشبه صفحة بيضاء لم تلوثها أيادي العابرين، فيه من سمرة طين الأرض وأصالة ونبل و"جدعنة" أولاد البلد الكثير، بسيط هو كطفل يلهو بلعبته المفضلة، وبها ومعها يبدو أسعد مخلوق في الدنيا.

وهكذا يعيش حياته بعفوية الأطفال وبساطة الفلاسفة؛ فهو رغم كل شيء محب للحكمة والمعرفة، غارق لأذنيه في فهم الكون والظواهر والظروف وتقلبات البشر.

وهو قبل هذا كله إنسان، مازال بصدره قلب سليم ينبض، يئن ويتألم ويفرح وينكسر، يصاحبه ضمير الحي ووعيه بضغوط الحياة التي ألقت بظلالها وأعبائها على الناس، فشكلت مجمل أقوالهم وأفعالهم.. آناتهم وأوجاعهم أفراحهم وأطراحهم، وكل سلوكياتهم.

وقف الكاتب على تجارب البشر بالاقتراب من بعض القضايا العامة كالصحة والتعليم والشهرة والحكايات الشخصية جدا، التي تناولها بالعربية الفصحى حينًا وبالعامية المصرية في أحيان كثيرة، وقد تمهل في الوقوف على تجربته وتحدث إلى ذاته كما تحدث إلى العالم، وفي كتابه "عطايا الأربعين .. دردشة مع الذات العالم" الصدار عن دار كيان للنشر والتوزيع، كلام كثير عن كلاما عن الحب الكراهية، الكفاح، اليأس، الأمل، العائلة، الرفاق، الشوارع، الأغنيات، وتشريح للعلاقات الشاقة المرهقة والسوية معاً، وتناول إنساني لم يكن فيه المؤلف واصيًا على أحد، ولا واشياً بأحد، وبالطبع لم يستهدف وعظ أحد، فقط تعامل بقدر من الحيادية مع ذاته والناس والحياة؛ مستفيدًا بمخزون نشأته وعلاقته الرائعة بوالديه، وتربيتيه الملتزمة المستندة على قواعد راسخة من الدين والقيم والأصول والأخلاق، والمنفتحة في الوقت نفسه على العلوم المعارف وخبراته البشر.

يعزز هذه الخبرات ويصقلها بروحه وإنسانيته التي تفيض على من حوله، وبالدعم اللامحدود من زوجته سنده شريكة الرحلة، وأولاده، النور الذي يرى به أحلك الدروب وفي أحلك الظروف، وفي كتابه عطاية الأربعين. يقدم الكاتب الصحفي ومدرب الصحافة واللغة والذكاء الاصطناعي، خلاصات هذه التجارب معترفاً بأنه ربما أصاب في موقف وأخطأ في مواقف، تبسط فى تناول أمر ما، وتعمق في أمور أخرى، لكنه وفي كل ما تناوله في الكتاب، كان حقيقيًا أمينًا وصادقًا مع نفسه قبل أن يكون كذلك مع القراء.. فبدت التجارب لرجل عاش ألف عام، وليست لشاب ما زال في سنوات عقده الرابع.

مسافة أمان

وضمن تناوله للحب يقول المؤلف: إذا اختلفت مع من تحب، فاترك له مساحة إفلات، وقتًا للمناورة وإعادة ترتيب الأوراق والنظر إلى جوانب أخرى، لا تحصره في ركن دون فرجة أو فرصة للتراجع وتكيل الضربات. إذا انتصرت في كل المعارك وهزمت كل الخصوم، هذا لا يعني أنك شخص قوي تماما، وإنما يعني أكثر أنك أصبحت شخصا بلا أصدقاء!
ويضيف في مواضع أخرى:

وماذا لو أننا مع كل حبيب خَذَلَنا.. فقدنا درجة لونية من أجسامنا وبهتت ملامحنا قليلا، حتى إذا ما تمّ الخذلان.. أصبحنا شفافين تماما واختفينا، فلا يعود ثمة أحد بمقدوره أن يؤذينا أكثر من هذا! اللهم لا تجعل أحبابنا القشة التي تقصم ظهورنا.
وينصح فيقول: علينا أن نخطف اللحظات السعيدة من بين براثن الموت، ونقول للي بنحبهم إننا بنحبهم ونقابل اللي مأجلين مقابلتهم من القرن الماضي، ونعمل كل الحاجات اللي نفسنا فيها ومستنيين نفضى عشان نعملها ! مفيش وقت حقيقي مفيش وقت ولا عمرنا هنفضى!

وضمن تحذيراته المتكررة من فوات الوقت يقول الكتاب:

اعتقادنا إن دايماً لسه فيه وقت للحاجات، بيخلينا نسوف ونأجل ونماطل ونتعلق بالحبال الدائبة، لحد ما نقف وجها لوجه أمام فقد لا يغتفر، وغياب لن يُشرق بعده أي حضور!

ويختتم مسألة الوقت الذي يتسرب من بين أيدينا دون أن نشعر فيقول:

شيء مرعب ومهول ومذهب للعقل، لما وقتك يخلص فجأة، وفترتك تنقضي دون سابق إنذار، وجرس الحصة الأخيرة من حياتك يضرب، ويتقال لك اتفضل بقى افرد صوابعك كده زي الشاطر وسيب كل اللي كنت متبت فيه بإيدك وسنانك ومستعد ترتكب جناية عشان تحافظ عليه: الأحلام والأهل والعيال والفلوس والجاه والعزوة والمناصب والشهوة والسلطة والفرص والصراعات والأحقاد والمواءمات واقف لوحدك في الصف زيك زي غيرك وحاسب على المشاريب، كل المشاريب، حتى آخر قطرة! 

الطاقة صفر

فكرة نفاد طاقة البشر، كما ينفد الوقود من محرك سيارة فتتوقف أو طائرة وهي في كبد السماء فتنتهي الرحلة نهاية مآسوية، فكرة جديرة بالتأمل كما أنه جديرة باحترام البشر بعضهم للبعض الآخر، يقول المؤلف:

فيه ناس بتعتقد إن عزوفك عن الاشتباك أحيانًا: ضعف وقلة حيلة، لأن عمرهم كله صراع ومؤامرات ونفاق ومواءمات ولهاث لتحقيق انتصارات وهمية يداروا بيها خيبتهم وفشلهم في الاحتفاظ بحد محترم ونقي السريرة في حياتهم.
هم بيقيسوا على مسطرتهم الخربانة ومقاييسهم العرة وتاريخهم الملوث ونواياهم السودة، من غير ما يعرفوا إنك ممكن تكون زاهد أو مترفع أو عارف إن الجنازة حارة والميت كلب!

فسيبهم يبنوا عوالم خرافية ويخوضوا معارك هلامية، ويحققوا مكاسب عابرة ووقتية، ويتحرقوا بغلّهم وفساد نفوسهم ومؤامراتهم للسيطرة على العالم. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [الرعد: 15]. الدنيا دوارة وكل يوم هو في شأن. 27
….
عارف المسوَّدة الورقة اللى كنا بنشخبط فيها دي لحد ما نعرف حل مسألة رياضيات أو معادلة كيميا أو إعراب كلمة وبعدين ننقلها لكراسة الواجب او بنرسم فيها قلوب وأسهم ودواير مظللة ونشخبط أي كلام لحد ما يهدى بالنا؟!
أهو احنا عند بعض الناس زي المسودة دي بالظبط، مخلينا في حياتهم لحد ما يعرفوا حل المسألة الصحيح، أو يخلّصوا شخبطة ورسم، أو يلاقوا حاجة أفضل يعملوها وبعدين هيكرمشونا ويرمونا في أقرب صفيحة زبالة هتقبل ؟! ص 
68
….
…..
طول الوقت المكتئبين وفاقدي الهوية والغاية واللي شهيتهم للحياة بقت في أدنى مستوياتها، بيبعتوا رسايل استغاثة للي حواليهم، على المتغطي مرة، ومرة بفظاظة وقسوة وجفاء، وللأسف ما حدش بينتبه غير لما بيروحوا منهم الى عالم الحق!
الاكتئاب لو كانت ليه أعراض واضحة زي العطس واحمرار العين والنزيف والدوخة والصداع، كان الكل شاور عليه وعمل له ألف حساب، لكنه قاتل خفي، بيطعن في عز البهاء، وعز التحقق، وعز التمكين، وما بيسبش إلا آثار عابرة لكل من ألقى السمع وهو شهيد، عشان كده بيقدر يفرد عبايته ويقتنص عدد أكبر من الضحايا كل يوم! فما تسيبوش حبايبكم ليه ما ترخوش إيديكم من حواليهم وتسلموهم ليه تسليم أهالي ما تفتكرهومش في ملاذ آمن منه عشان بيضحكوا ويروحوا الشغل ويقعدوا على فيس بوك احضنوهم وافهموهم واسمعوهم، وعافروا عشانهم، وقدروا الضعف واتعاطفوا مع السقوط، وبطلوا أحكام قاطعة. 76

 

دوامة الصمت

طول القعاد على السوشال ميديا خلانا نفقد مهارات الحياة الإنسانية الطبيعية ازاي نتعامل ونتصرّف في المواقف المختلفة ونستخدم مخزون خبرتنا وناخد ردود فعل مناسبة للأحداث. ولما بيحصل لنا أي شيء في الشارع أو الشغل أول حاجة بندور عليها: فين مربع الكومنت أو زرار اللايك أو الأنجري!
وبنفضل نتكلم ونصول ونجول ونخطط ونرسم، وبعدين نكتشف إن كل ده كان في دماغنا احنا بس وما فتحناش بقنا بحرف واحد منه !
ومع الوقت، بنحس أكثر إن السوشال ميديا هي الواقع، والواقع هو الحياة الافتراضية، وبتبهت فينا الحياة وبتنزل عليها فلاتر غامقة وطبقات من التراب والغربة، فبننعزل أكثر، وبنغور في باطن الوحدة الاختيارية، وكل مجموعة بتكون شرانق خاصة بيها وبتتقوقع أكثر حوالين احتياجاتها ومخاوفها من العالم!
87

لم نعد بشرًا

مقابلة الناس بقت عبء الرد على التليفونات والرسائل والإيميلات عبء، حضور المناسبات والتهاني والتعازي عبء، المواصلات والشغل وشرا الطلبات والجدل والنقاش عبء، ما عدناش عايزين نتكلم، ونعيد ونزيد، ونشرح، ونعيد الشرح، ونعيد إعادة الشرح كل اللي عايزينه مساحات إلكترونية بيضا ممتدة، نسوّدها بحروف في الغالب لا نعنيها وصور وتفاهات وأحلام ومخاوف وأمنيات وبطولات مزيفة وميمز وإفيهات، لغة الواحد والزيرو تسود، والمجد للنبضات الكهربية والأسلاك الممتدة عبر ملايين الكيلومترات والزراير اللي طول الوقت أحنّ علينا من أغلب البشر!
احنا ما بقيناش بشر ! 88

الموت

يجب ألا يكون الموت حدثًا مخيفا أو مفاجئا بالنسبة إلينا، فقد مارسناه مرارا !
في المرة التي خذلنا فيها أقرب الناس.. متنا!
في المرة التي باعنا فيها صديق العمر على باب المنفعة.. متنا!
في المرة التي انتظرنا فيها حلمًا كبيرًا وبذلنا فيه كل ما وصلت إليه أيدينا ولم يتحقق.. متنا!
في المرة التي تسلّط علينا فيها صاحب عمل لا ضمير له وساومنا على الخنوع مقابل لقمة العيش.. متنا!
في المرة التي رحنا نلف الشوارع تحت وطأة هم ثقيل دون باب يستقبلنا ...
ولا يد نتكئ عليها .. ولا رقم هاتف نطلبه فنسمع صوتا مواسيا .. متنا!

في المرة التي رفعنا فيها أكف الضراعة واستجدينا حقنا في الحياة وفي الحب وفي الرحمة وفي الونس، فلم نجابه بغير القسوة.. متنا!
إننا أبناء الموت في الأصل وما الحياة إلا الاستثناء...
فلماذا يرعبنا الأصل ونهرب منه بدل أن يبهجنا أننا أخيرا سنبرأ من مرض الحياة وأشباه البشر ونلتحق بالنور الأول وبالرحمة الأولى.. حيث لا وجع ولا مرارة ولا فقد ولا مَن ولا أذى؟!

117
 

الأفضلية الكذابة

الناس بقى عندها شعور غريب بالأفضلية والاستحقاق، على شوية كبر وغرور أورجانيك، ونضيف كمان للخلطة معلقتين استسهال واستهبال، ونحط كل ده على نار اللا مبالاة بالمسؤوليات والأدوار وطبيعة المرحلة والتحول العالمي، ونرش عليهم كمان شوية ترفع عن التعليم وتطوير المهارات، خمس دقايق وتطفي يا ست الكل، وتدوقي أحسن طبق خراب نفوس وذمم وضمائر هتاكلي صوابعك وراه ! لما تحصل لنا مصيبة، أو فاتورة الطبق الشهي دي تيجي عشان نحاسب على اختياراتنا نرفع إيدينا للسما ونقول بكل وقاحة وسوء أدب بس ليه يا رب بس هو أنا عملت إيه؟!


فضيلة الصمت
فاصل شحن!
بتيجي علينا أيام ما بنبقاش قادرين نرد لا على تليفونات ولا رسايل ولا إيميلات، مهما كانت المعزّة والقرب مش تناكة .. لكن هشاشة!
بيبقى اللي فاضل في شحن الروح يا دوب شرطة، ولو استهلكناها في ازيك وعامل إيه وأخبارك إيه وكله تمام الحمد لله، هنتطفي، ومفيش شاحن هيقومنا تاني.. فبنسكت !
ساعات الصمت بيمتد ويبقى درقة ندخلها ونقفل علينا الباب ونضيع المفتاح، وساعات بيبقى رمال متحركة كل ما نقاومها نغرق أكثر، لكنه في كل الأحوال بيكون حضن كبير بيلم وجعنا ويداوي تشوهنا وهواننا على حبايبنا ويرممنا الجولة جديدة مع الوحش.

131

التعليم
التعليم ما بيصنعش بني آدم، ولا بيعلمه الإنسانية!
البيت هو اللي بيعمل ده.
عشان كده ممكن تلاقي عامل نضافة عنده إنسانية أكثر من دكتور، ورجل أعمال عنده كل حاجة إلا الأخلاق !
وشعور الفوقية والاستحقاق لما بيتملك من حد بيخليه شايف إن مجرد وجوده نعمة للآخرين وحدث يستحق الاحتفاء كل يوم، حتى لو ما قدمش ما يبرر ذلك!
ولو ضفت لده التجريف المجتمعي اللي حصل آخر كام سنة وإعلاء قيم المادية والمظهرية والتدين الظاهري والوقوف عند أداء العبادات دون النفاذ إلى روحها وجوهرها .. هتفهم ليه حياتنا بقت مليانة بشر / آلات لا هم لهم إلا وصم الآخر وتشييئه والتعامل معاه على إنه مجرد رقم!
ويظل التحدي الحقيقي مش إن ابنك يبقى الأول في مدرسته ومتفوق في الرياضة ولابس شيك وبياكل كويس ويدخل كلية من كليات القمة، لكن إنك تطلعه سوي ومتوازن وقادر ياخد من الحياة ويديها مش ياخد بس.


239

فقط لو كنتُ أعلم أنّ اليوم سيكون آخر يوم أراك فيه، لكنت احتضنتك بقوة ودعوت الله أن يكون حارس روحك. لو كنت أعلم أن هذه ستكون المرة الأخيرة التي تمر فيها عبر هذا الباب، لكنت عانقتك، وقبلتك ودعوتك إلي مرّة أخرى. لو كنت أعلم أن هذه ستكون المرة الأخيرة التي أسمع فيها صوتك، لكنت تمسكت بكل كلمة لأتمكن من سماعها مرارًا وتكرارا. لو كنت أعلم أن هذه هي المرة الأخيرة التي أراك فيها.. لكنت قلت لك إني أحبك، ولم أفترض بغبائي أنك تعرف ذلك بالفعل».
جابرييل جارسيا ماركيز نقلا عن حسام ص 244-245

….
لمسة وفاء
والآن أعترف ..
لم أكن إلى جوارها في اللحظات الكبيرة كما كان يجب أن أكون، ليس لأنني لا أريد، ولكن لأن الحياة لم تمنحني هذا الحق، ومع ذلك، كانت هي حاضرة، تقف على الثغور وحدها، قوية حين كنت ضعيفًا، صلبة حين كنت هشا، قادرة حين كنت لا أقوى على تحريك أصبع!
وكثيرا ما أقول لها بصدق : لولاك، لولا الأولاد، لما كنتُ قد غادرت فراشي صباحًا، ما دام لدي قوت يومي وكتاب أقرأه وكوب شاي أسلّي به وحدتي".

إنها نعمة أن تجد صنو روحك، وسندك الذي يصلب عودك، ويكون في ظهرك لا عليه، أن تجد من يحمل عنك ثقل الدنيا،. ونورا نعمتي التي فصلها ربي من أجلي خصيصا ولا أقبل عنها بديلا، لعلمه سبحانه وهو علام الغيوب - بما أحتاج إليه تماما وما يُصلح من شأني وما يهديني إلى الصراط المستقيم.