حفر بصري في طبقات الذات وتحوّلات الكائن في 'عمق ضحل'

المخرج والمبدع الألماني غليينبيرغ يضعنا منذ بداية العرض البصري في مواجهة مع العدم، بقعة ضوء دائرية تميل إلى الأزرق، ينام حولها الجسد محاطًا بعتمة كثيفة وصوت أقرب إلى أزيز معدني أشبه بباب يفتح على حفرة من اللاشيء.
رولا سالم
الفجيرة

في تجربة مسرحية تتجاوز المألوف، يقدّم المخرج والمبدع الألماني جوناس غليينبيرغ عرضًا بصريًا مدهشًا من إنتاج "مسرح الأشكال التصويرية" بالتعاون مع FITZ في شتوتغارت، حيث يتحوّل الجسد إلى وسيط فلسفي، والمشهد إلى هذيان بصري، والمسرح إلى مختبر للوجود والعدم.

وقد جاء عرض "عمق ضحل" ضمن فعاليات اليوم ما قبل الأخير من مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما 2025، ليشكل محطة فارقة في خارطة العروض المشاركة، ويؤكد على قدرة المهرجان في استحضار تجارب مسرحية نوعية تتجاوز السرد وتُحاور الوجود بلغة الجسد والفراغ والتحوّل، مجسدًا بذلك الرؤية الطليعية للمهرجان كمنصة للابتكار المسرحي العالمي.

منذ اللحظة الأولى، يضعنا غليينبيرغ في مواجهة مع العدم. بقعة ضوء دائرية تميل إلى الأزرق، ينام حولها الجسد، محاطًا بعتمة كثيفة وصوت أقرب إلى أزيز معدني، أشبه بباب يفتح على حفرة من اللاشيء. يتقاطع ذلك مع نفخات هواء، واهتزازات جسدية توحي بعودة الحياة بعد صدمة كهربائية. العرض لا ينطلق من حكاية، بل من حالة بدئية، من لحظة تَخَلُّق، حيث الأصابع ترتجف وكأنها تبحث عن معنى، والرأس يخرج من الدائرة كمن يولد من رحم الفراغ.

يقدّم جان جيديناك أداءً جسديًا مذهلًا، يتماهى فيه مع الكائنات البدائية، الأجساد المتحوّلة، المسوخ التي لم تُعرّف بعد. تتحول كل حركة إلى إشارة، وكل اهتزاز إلى استعارة: محاولة للتنفس، رقصة باليدين، إيماءات وجهية توحي بالظمأ، أو محاولة لتمشيط الشعر، أو لفرك العينين في لحظة استيقاظ ميتافيزيقية.

المظلة الضوئية التي ترتفع وتنخفض ترمز للحضور والغياب، لسلطة الإدراك التي تُضاء ثم تنطفئ. وفي لحظة مفاجئة، تظهر جمجمة بيضاء بدل الرأس، في انتقال مرعب نحو كائنية أخرى، غير بشرية، تقف على حافة الهوية. يتحول الممثل إلى مسخ: جسد بأطراف ممتدة، رأس لحيوان، أو جنين في صورة شعاعية غامضة. الموسيقى تُغني العرض، بعزف على القيثارة يتقاطع مع صرخات وعويل بدائي، أشبه بنداء القبائل الأولى.

الخشبة تتحول إلى أرض رعب وجودي. الدخان، الظلال، الإضاءة المتقطعة، القفز على يد واحدة، الرأس المتدلي بالشعر، كلها تعابير عن جسد يحاول الإفلات من حتمية العدم. السيمياء الجسدية هنا تقترب من الرقص الطقوسي، البربري، المذعور، كأن الكائن يخرج من نفسه، أو يقاوم تحوّله.

التحولات البصرية بين وجه بشري وأقنعة ثعبانية، ظهور مخلوقات غريبة، كائن يمشي فوق الجسد كالعقرب، كلّها تكثف الرمزية: الإنسان بوصفه ضحية تحوّله، أو مادة تشكيلية في يد الخوف، والرغبة، والموت. هناك دائمًا ما يشبه محاولة النهوض، تكرار السقوط، والعودة إلى الحفرة – وكأن العرض يدور حول فشل اليقظة التامة، أو عنونة الكينونة بجملة واحدة: "نحن لا نعرف من نكون".

"عمق ضحل" ليس مجرّد عرض بصري، بل طقس وجودي يتقاطع فيه الأداء الجسدي مع الغرائبي والتشريحي والميتافيزيقي. العرض يشبه الحلم، أو الكابوس، أو لحظة ولادة/موت تتكرر دون نهاية. إنه مسرح الفراغ، حيث الجسد يملأ الصمت، والضوء يفتح أبواب الظلام.

في زمن تزداد فيه ضوضاء العروض المسرحية، يأتي هذا العمل ليمارس أقصى درجات التجريد، ويطرح علينا سؤالًا واحدًا: من نحن حين تنطفئ الأضواء؟