من ليالي شهرزاد إلى حكايات الزنّاد، محاكاة أم تحويل؟

رواية 'حكايات من سراديب الزمن' للأزهر الزناد تلتقي مع "ألف ليلة وليلة" في بنية الحكاية الإطار والحكي العجائبي، لكنها تتجاوزها عبر التحويل الفني إلى رواية عجائبية متعددة الأصوات والفضاءات، تنهل من روح الخرافة والخيال العلمي، وتكشف عن هشاشة الإنسان وخلود الكلمة.

تعتبر بعض الأعمال الأدبية الخالدة ميراثا كونيا جديرا بأن يقرأ كما الآداب الكبيرة في كل العصور، في ضوء دينامية التاريخ وتغير شواغل الإنسان وهموم المجتمعات. وتتجدد مع هذا الميراث الكوني أشكال التفاعل قراءة وكتابة وتأويلا، فإذا هو معين لا ينضب لكتابات تستلهمه أو تعارضه وفق رؤى متغيرة للعالم . لقد استطاعت "ألف ليلة ولية" أن تثبت أنها "ميراث كوني" يخترق حدود الجغرافيا والزمان، فألهمت عديد الروائيين والأدباء والنقاد.. فرأى تودوروف أن السرد العجيب الذي قامت به شهرزاد جعل السرد "معادلا للحياة" إذ أنقذت شهرزاد مجتمعا كاملا من بطش الملك شهريار. وكتب عنها عبد الفتاح كيليطو دراسات منها "العين والإبرة دراسة عن ألف ليلة وليلة". اخترقت شهرزاد حدود العالم العربي فكتب عنها بورخيس، والكاتب الياباني هاروكي موراكامي روايته "شهرزاد". كما ألهمت طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهما في العالم العربي، إضافة إلى نجيب محفوظ في روايته "ليالي ألف ليلة" والقائمة تطول..

لا غرابة إذن أن يستلهم الأزهر الزناد هذه الليالي وهذا الأثر الخالد فيكتب "حكايات من سراديب الزمن" (1) لكن هل اكتفى الزنّاد بمحاكاة ألف ليلة وليلة أم تجاوزها إلى ضروب من التحويل والمعارضة؟ ما وجوه التماثل والاختلاف بين ليالي شهرزاد وحكايات الزنّاد؟ ولئن كان السرد العجيب  في ليالي شهرزاد "تميمة للخلاص من الموت " كما يرى عبدالفتاح كيليطو، فأيّ وظائف يحققها السرد العجيب في حكايات الزناد؟

في بعض وجوه المحاكاة:

تلتقي حكايات الزنّاد مع ليالي "ألف ليلة وليلة" في عديد المستويات، أهمها وأبرزها البناء الخارجي الذي تقوم عليه حكايات الزناد:  حكاية إطار تتضمّن حكايات فرعية. حكاية سجّان (حارس) يعيش فراغا رهيبا داخل سرداب تحت الأرض ، ينتظر أن تدبّ الحياة في السجن الذي يحرسه حتى ينسى طقّا رهيبا غامضا يسمعه فيرهق أعصابه.. ولن تتغير حياة الحارس السجّان إلا بتوافد سبعة رجال نزلاء على السجن، يأمل أن يخففوا عنه وحدته وأن يزوّدوه بالأخبار التي انقطعت عنه "وأن يشغلوه بالحديث عن سماع ذلك الطقّ اللعين". تنشأ عن هذه الحكاية الإطار سبع حكايات يرويها السجناء في ليال سبع أو فصول سبعة لنعود في الفصل الثامن إلى السجان وقد عاد إليه الشعور بالفراغ بانتهاء الحكايات، قبل أن تتشكل مفاجآت أخرى في نهاية الرواية..

تتجسد المحاكاة على مستوى البنية الخارجية وتمتد إلى بنية الفصول(الليالي) حيث تنفتح الحكايات وتنغلق، كما في ألف ليلة وليلة، بصيغ متكررة أو "مقطع طقوسي" .هي مثلا عند شهرزاد "يحكى أن ّ.. بلغني.." في البدء، و"أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح" في النهاية. وهي عند الزنّاد افتتاحية أطول قوامها السجع، فيها وصف الراوي والمخاطبين (السجناء)، ونهايتها شروع الديكة في الصياح وسماع صوت المؤذن ينادي حيّ على الفلاح فيسكت الراوي حينها عن الكلام المباح..

تلتقي الحكايات في "سراديب الزمن" مع "الحكاية الشعبية" في ألف ليلة وليلة ومع "الحكاية العجيبة" يخرق فيها العجيب نظام الكون، وتخضع فيها الأحداث للمصادفة غالبا وتكثر عناصر التشويق.. وكما كان التعجيب محفزا للحكي في "ألف ليلة وليلة "، يحضر نفس المبدأ في حكايات الزناد، يقول الراوي في الليلة 4 :"قصتي أنا يا جماعة من أغرب ما يكون، هي أغرب مما سمعنا على الإطلاق، وأنا على يقين من أنها ستكون أغرب مما سنسمع من القصص الباقية". ويقول راو آخر في الليلة 6: "فقصتي أنا يا جماعة.. كما ترون، أعجب القصص وأغربها".

وكما كانت وظيفة الحكي الأساسية في ألف ليلة تأجيل الموت، مما جعل السرد فيها حسب تودوروف "معادلا للحياة"، كان السرد أو الحكي في رواية الزنّاد السبيل الوحيد لتأجيل موت المساجين السبعة، وإبعادهم عن المقصلة التي كانت تنتظرهم.

من وجوه التحويل:

من الحكاية الشعبية إلى الرواية العجائبية:

لا تنصيص في غلاف كتاب الزناد على الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص وينضوي تحته، سوى كلمة "حكايات" بخط صغير تنضاف إلى العنوان "من سراديب الزمن"، لذا يغدو من حق المتلقي والقارئ التساؤل عن مدى وجاهة هذا التصنيف، خاصة وأن المتلقي في الشعرية المعاصرة هو "وحده من تؤول إليه سلطة تجنيس النص لا تبعا لنوعيته فحسب، بل أيضا وبخاصة للاستراتيجيات التأويلية التي يشغلها القارئ نفسه". (2)

ونميل إلى اعتبار هذا النص أقرب إلى الرواية لأسباب عديدة، أهمها ما أصبح معهودا في الرواية الحديثة من نزوع نحو تعدد الأصوات وتعدد الرواة، وإمعان رواية ما بعد الحداثة في رسم ملامح عوالم غرائبية عجيبة، ونزوع إلى تفجير الحبكة القائمة على التسلسل والترابط. فقد أضحت الحبكة مستندة إلى "جماليات التفكك بدلا من جماليات الوحدة والتناغم" وتمردت الرواية ما بعد الحداثية على الحدود بين الأجناس "واحتفت بما كان مهمشا داخل حدود الجنس الروائي، واستعادت لامعقولية العالم، وحاولت ضرب الثوابت والحدود التي أقامها النقد". (3)

عدد من هذه السمات المميزة لرواية ما بعد الحداثة تتوفر بوضوح في "حكايات من سراديب الزمن"، ولئن قامت رواية الزناد على الراوي العليم في بنية دائرية يعود في نهايتها الحارس إلى وضع البداية قبل أن تفضي الأحداث إلى مسالك أخرى، وهو ما يوحي بشكل كلاسيكي في بناء الرواية، إلا أن تعدد الرواة والفضاءات وهيمنة النزعة العجائبية والفانتازيا، واستلهام رواية الخيال العلمي وفن السينما تنحو بها نحو مجال الرواية العجائبية .

ولعل بعض ما يدعم هذا التصنيف توظيف الأزهر الزناد "الميتا سرد" أو النص الواصف  (الليلة 4) إيحاء للمتلقي بهذا التصنيف . يقول أحد الرواة :"وأنا أفكر في أن شخصا سوف يجعلني بطلا في واحدة من رواياته سوف يكتبها عام 2023 من حقبة ما بعد الميلاد.. عنوانها الكامل "حكايات من سراديب الزمن" فيها ذكر لأخبار الإنس والجان.. في أقاصي المكان.." ص161 . يتجاوز الكاتب إذن "محاكاة" ليالي شهرزاد إلى ضرب آخر من التفاعل النصي هو التحويل، وهو لا يشمل الجنس الأدبي فقط، بل يمتد إلى جوانب أخرى منها فضاءات الحكي (زمانا ومكانا) ونوعية الشخصيات والرواة ووظائف الحكي.

فضاءات الحكي:

تتعدد فضاءات الحكي العجائبي في رواية الزناد فتتداخل السراديب المظلمة وواحات الجماجم والصحارى وممالك الجن.. وتحلق الشخصيات حينا بين المجرات والكواكب ، وتتردد بين جدران السجون وردهات القصور.. كما تتعدد الأزمنة، ترتد بنا حينا إلى ماض سحيق وعصور بعيدة( ما قبل الإسلام – العصر العباسي – زمن هولاكو -الفراعنة  ..) كما تلج عالم المستقبل في عصور لم يحن أوانها حيث تعيش الشخصيات في قادم الأزمان.. وقد يجتمع الحاضر والماضي والآتي، فيعلن الوافد من قادم الأزمان للإنسان مصيره، ذلك أن الزمان في الرواية ما بعد الحديثة "ما عاد له أساس من الواقع".

نوعية الشخصيات والرواة:

أول ما يلفت الانتباه في مستوى الرواة هو غياب صوت المرأة الراوية (شهرزاد) وتحويل وظيفة الحكي إلى الرجل عبر كامل الرواية. و يمكن تأويل ذلك بنزوع الكاتب إلى تغييب البعد الجنسي المرتبط بقصة شهرزاد وتحويله إلى بعد آخر، فكري وإنساني، يمثله رواة رجال يعيشون تحت وطأة الشعور بالظلم من ناحية ووطأة الفراغ أخرى.. لتكون الدلالة أرحب حيث تغدو الحكاية (السرد/ الكلمة) أداة تحرير الإنسان من سجونه..

أما الشخصيات فقد اتجهت الرواية الحديثة إلى "النفي الكامل لكل ما يجعل الشخصيات كائنات إنسانية"(4) وشهدت تحوّلات مستوحاة من تطور العلوم والخيال العلمي، ومن مجال المعتقدات والخرافة، لذا نرى الشخصيات تتنقل بين المجرّات والكواكب في سباقات كونية ، تتحكم فيها الروابيت (الآلة). ويتنقل بعضها الآخر من بدن إنسان إلى آخر عبر التناسخ، هي كائنات لها عقول البشر وهيأة الحشرات، حيث يغدو الإنسان بينها ذاك الكائن العجيب يدهش الصغار ويضحك الكبار.

من وظائف الحكي في الرواية :

رغم عوالم العجيب المهيمنة، ترسم الحكايات في "سراديب الزمن" هشاشة الإنسان وتكشف عيوبه، تنهض بوظيفة تعليمية غير مباشرة تفضح غدره وشروره: "وأيقنت عندها أن الغدر داء لا يبرح النفوس،.. ما دام كائن في الوجود اسمه البشر".. ص129..

ويقول أحد الجان عن الإنسان "لقد سرق منا طباعنا وصار أفضل منا في ابتداع الشرور.. بل غلبنا في كثير من المواطن.. وغلبنا في استنباط الآثام والحيل" ص204 . كما يشير إلى الطمع الملازم له "يطلبون دوام الشباب وزيادة الشبق.. يطلبون اللذة والنعيم بلا عمل أو تعب.. ينشدون الثروة بلا حساب أو عقاب.. وبعضهم يطلب طول العمر وضمان الخلود في الحياة.. أما رئيسهم فقد طلب دوام السلطة وتعاظم الجاه بلا حد ولا نهاية..". ص54

لكن الرواية لا تترك الإنسان مهزوما أمام الظلم، فكما أنقذت الحكايات شهرزاد من الموت استطاعت الحكايات في "سراديب الزمن" أن تنقذ الشخصيات من الموت ومن عقاب كان ينتظرهم.. وبذلك مثّل السرد العجيب مرة أخرى "تميمة للخلاص" وكان معادلا للحياة. غير أن رواية الزنّاد ستوسّع من وظائف الحكي وأثره في المتلقي لتضيف وظائف أخرى يمكن اعتبارها أهم مقاصد الكتابة. ذلك أنّ الحكاية "في سراديب الزمن" استطاعت أن تحرر السجّان أيضا من سجن المكان، لقد حررته من ثقل الشعور بالفراغ وثقل الزمان، فكانت طوق نجاته من الوحدة وسبيله للنسيان.. وبمجرد انتهاء السرد سيعود الطقّ إلى المكان ويعود الفراغ واللامعنى (الفصل 8 عنوانه فراغ). كما كانت الحكاية شفاء للإنسان إذ خلصته الملك من الأرق الذي أعجز الأطباء والحكماء، وأكدت النهاية أن الحكي أقوى من الفناء، إذ سيتواصل بعد موت الملك مع وليّ العهد، تأكيدا لفناء الإنسان وخلود الكلمة..

تشكّل رواية الأزهر الزناد "حكايات من سراديب الزمن" رحلة في عوالم العجيب والخارق تتحدّى الزمان والمكان فتجوس في سراديب ماض سحيق لم تصلك منه سوى بعض الأخبار والأشعار، تعيد تشكيله فيحيا ويتجدد، تنبعث منه شخصيات خلت أنها لن تحيا فتتكلم.. يتلاقى في الحكايات الإنس والجان في ألفة عجيبة تكتشف معها وجوها أخرى لعالم الجان،عطفه على الإنسان إقرارا بعجزه وضعفه.. لقد استعادت معه الرواية روح الخرافة ومتعة الحلم والتحليق في عوالم غريبة عجيبة، دون أن تغفل أوجاع البشر او تهرب من واقع هشاشة الإنسان.. تغوص الرواية بحكاياتها في سراديب أعماقه ،تفضح شروره، ضعفه وأوجاعه، كما تجلو قدرته على اعتلاء سحاب الخيال وترويض جموح العقل في مواجهة الخطر..


الإحالات:

1-الأزهر الزناد: حكايات من سراديب الزمن، دار بوب ليبريس، ط1، تونس 2025

2-رشيد بن حدو: ضمن "الرواية المغربية وقضايا النوع السردي" دار الأمان، الرباط 2008

3- ناهد المعلاوي: اللامعقول في الرواية العربية الحديثة، دار زينب للنشر ،ط1، تونس،2023    

4- جيسي ماتز: تطوّر الرواية الحديثة ،ترجمة لطفيّة الدليمي، دار المدى، ط2، 2018